
مقالة
تأثير الدين الإسلامي على الصحة النفسية
الجزء الأول
المقدمة
في خضم التحولات السريعة والضغوط المتزايدة التي تشهدها الحياة المعاصرة، تتنامى الحاجة إلى قوة روحية توفر للإنسان الدعم اللازم لمواجهة هذه التحديات النفسية. الدين الإسلامي، بمنظومته العميقة والمتكاملة، لا يمثل فقط طوق نجاة روحاني، بل يعد منبعًا لا ينضب للسلام الداخلي والاتزان النفسي. إن قدرة الإسلام على تقديم رؤية شاملة للوجود الإنساني تتجاوز الحدود المادية، وتغوص في أعماق الروح، تميزه كدين يتعامل مع الإنسان ككيان متكامل، يسعى لتحقيق التناغم بين الجسد والروح.
إن تزايد الضغوط النفسية، والاكتئاب، والقلق في العصر الحديث، يستدعي العودة إلى الجذور الروحية للإنسان، والتي تجد في الإسلام ملاذًا قويًّا وثابتًا. هذا الدين، بتعاليمه السمحة والمحفزة على التأمل والتفكر، يضع أساسًا قويًّا لتحسين الصحة النفسية. الإسلام لا يعالج فقط الأعراض الظاهرة للاضطرابات النفسية، بل يقدم حلولًا جذرية تعالج أسباب هذه الاضطرابات من خلال تعزيز الإيمان ومنع العبثية الوجودية، وزرع الأمل، وبث الطمأنينة في النفس البشرية.
الأساليب الدينية التي تخفف، تساهم وتزيد في صحة الإنسان النفسية نحو الأحسن وهي:
الدين؛ لا يقتصر على كونه مجرد مجموعة من الشعائر والممارسات، بل هو في جوهره يقدم معنى وهدفًا أعمق للحياة، فيرفع من قدرة الإنسان على التحمل والصمود أمام تحدياتها فيبث فيه روح الهدفية، ويمحي روح العبثية، وبالتالي يغذي كينونة الإنسان ويشبع حنين وجوده، ويضفي على يومه المكرر الروتيني معنًى مقدس يستدرجه نحو الأسمى والأعلى. هذا المعنى العميق يعزز من رفض العبثية والفراغ الوجودي والحيرة والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، ناهيك عن حالات الخوف والقلق من كل وأصغر تهديد.
تساهم المعرفة الدينية، بمعناها الشامل، في العلاج المعرفي السلوكي الديني، والذي يعالج الأسئلة الوجودية الملحة التي تطرح نفسها على الإنسان مهما كانت ظروفه الحياتية. فالإنسان يتساءل دومًا عن مصيره، ومآله، وغاية وجوده. وفي ظل الحياة المعاصرة المليئة بالصعوبات والضغوط، يجد الإنسان نفسه محاطًا بمخاوف وأحزان متعددة، متسائلًا عن المعنى الأعمق وراء هذه المحن، هل الغاية من الحياة هي السعي الدؤوب نحو المال، أو العمل المتواصل دون نهاية، أو تحقيق منصب معين، أو التورط في دوامة الروتين اليومي القاتل؟ بالطبع لا.
الإجابة تأتي من خلال النصوص الدينية التي توضح أن الإنسان خُلق لغاية سامية تتجاوز الماديات، وهي القرب من الله والسعي لمعرفته والعيش وفق تعاليمه. كما توضح الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، وهذه الآية تشير إلى أن الحياة والموت هما ابتلاء واختبار للإنسان ليظهر من يحسن العمل. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، الذي يبين أن الغاية الأساسية من خلق الإنسان والجن هي عبادة الله؛ أي معرفة الله بأسمائه وصفاته. مقتضيات حكمته تقود الإنسان إلى الراحة والزهد وتخفيف تفاقم آلامه وأحزانه، مما يغير نظرته إلى الدنيا ويجعله يدرك أن هذه الحياة ليست الغاية المطلقة، بل هي مجرد مرحلة تمهيدية لعالم آخر. في هذا العالم الآخر، يسعى الإنسان إلى تحقيق كماله المنشود ومكمن سعادته الحقيقية، إذا كان من أهل العبادة والطاعة، هذه النظرة العميقة تجعل من الدين ليس فقط مرشدًا روحيًّا، بل أيضًا أداة قوية للعلاج النفسي والاجتماعي، مما يوفر للإنسان راحة البال والطمأنينة في خضم تقلبات الحياة ومصاعبها.
تحريم بعض الأفعال التي عادةً تجر مفاسد كحرمة السرقة، المخدرات، القمار والكذب والغيبة والفحش في القول، فخلال تتبع الغارقين في هذه المكاره نستنتج الكم الهائل من التوتر، والكآبة، والأمراض النفسية التي تخرب حياتهم وحياة المحيطين بهم، فالدين من منافعه منع تفشي وتفاقم آثار هذه القبائح عبر تحقيرها وتحريمها من البداية، فتحريم بعض الأفعال التي تعود بمفاسد مثل السرقة، المخدرات، القمار، الكذب، الغيبة، والفحش في القول، له أساس قوي في الشريعة الإسلامية التي تسعى إلى حماية الأفراد والمجتمعات من التدهور النفسي والأخلاقي.
عند متابعة حالات الأشخاص المتورطين في هذه الآثام، نلاحظ الكم الهائل من التوتر، والاكتئاب، والأمراض النفسية التي تدمر حياتهم وحياة من حولهم. فالدين بحكمته يسعى لمنع تفشي وتفاقم آثار هذه القبائح عبر تحقيرها وتحريمها من البداية.
تحريم المخدرات
يحرم الإسلام كل ما يذهب بالعقل ويضر بالصحة الجسدية والنفسية. روي عن الإمام الصادق(ع): “كل ما أذهب العقل حرام، وإن قليل ما أسكر كثيره حرام”.
النهي عن المخدرات يحمي الفرد من الوقوع في براثن الإدمان والتدهور النفسي، ويقي المجتمع من التفكك وانتشار الجريمة.
تحريم القمار
القمار يؤدي إلى هدر الأموال ويزرع العداوة والبغضاء بين الناس.
قال أحدهم للإمام الصادق(ع): “الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون؟ فقال(ع): لا تأكل منه، فإنّه حرام”.
تحريم الكذب والغيبة
يشجعان على الفتن والتفكك الاجتماعي، ويعزز الانفالات والفجور. يقول الإمام علي(ع): “إياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار”.
ويقول الإمام الصادق(ع): “الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه”.
تحريم الفحش في القول والعمل
الفحش في القول يؤدي إلى نشر الفساد الأخلاقي.
عن الرسول الأكرم(ص): ألا أخبركم بأبعدكم مني شبهًا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الفاحش المتفحش البذيء.
فالفحش في القول والعمل موجب لتفكك العلاقات، وخلق عداواة بين المؤمنين عبر زيادة الحقد وتأجيج نيران النزاع ويلحقها حكمًا النميمة، والبخل والاختلاط المذموم دينيًّا واجتماعيًّا.
إن تحريم هذه الأفعال وغيرها في الشريعة الإسلامية ليس فقط لحفظ الفرد من الوقوع في الإثم، بل يهدف أيضًا إلى الحفاظ على المجتمع بأسره من التفكك والانحدار نحو هاوية الفساد والتدهور النفسي. وبهذا يتبين أن الشريعة الإسلامية بحكمتها وعمقها تسعى دائمًا إلى تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع من خلال الوقاية من الشرور والقبائح من البداية.
تأثير السُنن التشريعية على السُنن الكونية: مثل الصدقة والدعاء وصلة الأرحام والتوسل وزيارات مقامات الأولياء، فثبت بالدليل القرآني والروائي سيطرتهم على الأسباب الخارجية للأمور فيندفع البلاء بها ويزيد رزق المحتاج بها، ويصل مستعمل هذه الوسائل إلى غاياته وفوق كل هذه المغريات المادية يربح الأجر والثواب، ويتلذذ بمقام القرب وطلب الحاجة من ربه، وما يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾.
بعض الروايات الشريفة:
عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبرامًا، فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله عز وجل إلا بالدعاء، وإنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه.
أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال لي: يا ميسر ادع ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه. إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدًا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئًا فسل تعط، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه.
وأخيرًا، نلاحظ كيف أن الدعاء والتنبه لموجباته كالإلحاح والزمان والمكان المناسب، وبتوسل بخصوص أدعية أهل البيت(ع) كدعاء المشلول، دعاء الإمام زين العابدين لقضاء الحوائج، والعديد موجودة في المصادر المناسبة، فله دور جذري في تذليل الأسباب المادية، تخفيف صعوبات الحياة، ورفع منسوب الأمل والتفاؤل، وطرد العديد من الأمراض الوسواسية.
التأسي بالقدوة الصالحة، تذكر مصائب قديمة واعتبار ببلاء الآخرين.
الأنبياء والأئمة والعلماء الأفذاذ تعرضوا لأصعب الشدائد، فصبروا وانتصروا، مما يجعلهم قدوة ملهمة لمن يتأثر بالتضحيات والبطولات، ثبات الإمام الحسين(ع) وصبره في مواجهة الظلم والطغيان جعله قدوة عظيمة للأجيال القادمة، حيث لا تزال ذكراه تُحيي معاني العزة والكرامة والإصرار على الحق، مهما كانت التضحيات. يعدّ الإمام الحسين(ع) نموذجًا للتضحية في سبيل المبادئ السامية، والتأكيد على أن الحق ينتصر في النهاية، حتى لو بدا ذلك بعد زمن.
وورد في القرآن الكريم في سورة ص، الآيات 41-44:
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِنُصْبٍۢ وَعَذَابٍۢ ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌۢ بَارِدٌۭ وَشَرَابٌۭ وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةًۭ مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًۭا فَٱضْرِب بِّهِۦ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَـٰهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ ۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌۭ﴾.
يعتبر النبي أيوب(ع) مثالًا بارزًا للصبر والثبات في وجه الشدائد. فقد ابتلي في ماله وولده وصحته، واستمر في ذكر الله والاعتصام بحبل الصبر. وبعد أن اجتاز هذه الابتلاءات بصبر وإيمان، كافأه الله تعالى بإعادة الصحة له وزيادة في النعم. هذا الصبر والثبات جعل من النبي أيوب قدوة عظيمة للمؤمنين في كيفية مواجهة الصعاب بإيمان ويقين، فعندما يبتلى المؤمن يتذكر قدرة ربه الذي قد يغير أحواله سريعًا، ويقيس نفسه ويصغر بلاؤه بالذين تعرضوا لبلاء أكبر، ويتذكر كيف إن الله ساعده كثيرًا في شدائده السابقة، مثل هذه القصص والعبر تلهم المؤمنين بضرورة التأسي بالأنبياء والأئمة في مواجهة التحديات والشدائد، والثبات على الحق والإيمان رغم كل الصعاب.
تزكية النفس وتخليتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل يمثلان جوهر التجربة الروحية في الإسلام، وهو موضوع تناولته نصوص القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت(ع) بتفصيل وعناية، لكونه مرتبطًا بشكل وثيق بتحقيق السعادة الحقيقية والاتزان النفسي العميق. هذه المفاهيم ليست مجرد توجيهات أخلاقية، بل هي قواعد أساسية للوصول إلى الصحة النفسية المثلى، حيث إن تزكية النفس تعمل على تهذيب الجوانب الداخلية للإنسان، مما ينعكس إيجابيًّا على حياته اليومية وعلاقاته بالآخرين.
يضع القرآن الكريم تزكية النفس في قلب الطريق نحو الفلاح الإنساني. قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾.
يشير إلى أن نجاح الإنسان وسعادته الحقيقية مرهونان بقدرته على تهذيب نفسه وتطهيرها. الفلاح هنا لا يقتصر على النجاح الدنيوي، بل يمتد ليشمل السلام الداخلي والاستقرار النفسي. تزكية النفس هي عملية تطهير مستمرة، تنقل الإنسان من حالة الفوضى الداخلية التي يسببها الانغماس في الشهوات والغرائز، إلى حالة من التوازن والطمأنينة التي تنبع من الانسجام مع القيم الإلهية.
الأحاديث النبوية وأهل البيت(ع): إشارات إلى العمق الروحي وأثره النفسي
تعمق أحاديث أهل البيت(ع) فهمنا لأهمية تزكية النفس. على سبيل المثال، قول الإمام علي(ع): “إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر”.
يمثل هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن التزكية هي جهاد داخلي، يهدف إلى إعداد النفس للقاء الله بسلام، وهو ما يعزز الاستقرار النفسي في الحياة الدنيا. هذا النوع من الترويض النفسي الذي يرتكز على تقوى الله والامتناع عن المعاصي، يساهم في بناء شخصية متوازنة قادرة على مواجهة تحديات الحياة دون اضطراب داخلي.
تتابع
المصدر: المعارف الحکمیة
برچسب ها :
ارسال دیدگاه