
تقریر
تطوير الفقه المعاصر.. تحدياته ومتطلباته
الأستاذ الشيخ مجتبى إلهي الخراساني
الجزء الثاني والأخیر
اتساع الفقه المعاصر
وأضاف عضو الهيئة العلمية في مركز الآخوند الخراسانی التخصصي في الجزء الثاني من كلمته، متحدثًا عن “اتساع الفقه المعاصر”، وقام بتقسيمه إلى دراسات فقهية من الدرجة الأولى ودراسات فقهية من الدرجة الثانية. ووضح هذا المصطلح بقوله: إن الدراسات الفقهية من الدرجة الأولى هي ما يُطلق عليه الفقه بشكل عام، أي تلك الأحكام الفقهية التي تحدد الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه، سواء كانت أحكام فردية أو نظامية، كالأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات والديّات. أما الدراسات الفقهية من الدرجة الثانية فهي تلك الدراسات التي لا تتعلق مباشرة بالأحكام الفقهية نفسها، بل تتعلق بعلم الفقه نفسه، كدراسات أصول الفقه ونقد الفقه.
وأشار إلى أن النمو الهائل في الدراسات الفقهية من الدرجة الثانية هو أحد أبرز سمات الفقه المعاصر. وشدد على أنه لم تشهد أي فترة زمنية سابقة، ولا أي مذهب آخر، مثل هذا النمو الهائل في الدراسات الفقهية من الدرجة الثانية خلال العقد الماضي، حيث وصل حجم هذه الدراسات إلى حجم الدراسات التي أجريت خلال الخمسين سنة الماضية.
ثم انتقل الهي الخراساني إلى شرح خصائص واتساع الدراسات الفقهية من الدرجة الأولى، وذكر الاتجاهات السائدة لكل منها.
الاتجاه الأصولي الجواهري: هذا الاتجاه هو السائد ويشمل طيفًا واسعًا، يمكن إدراج شخصيات مثل الميرزا النائيني والإمام الخميني وآية الله الخوئي والشهيد الصدر والشيخ حسين الحلي ضمن هذا الطيف، مع وجود اختلافات طفيفة بين مدارس النجف و قم و مشهد و سامراء.
الاتجاه الأخباري/ الاتجاه السلفي: لا يزال الاتجاه الأخباري حي في الامامية بشكل جدي. هناك مجموعة اخبارية معتدلة، ومجموعة أخرى بَحرانية، وامتدادات أخرى للأخباريين التقليديين في قم ومشهد وكربلاء، بالإضافة إلى الشيخية التي تدخل جميعها ضمن الاتجاه الأخباري. بالطبع، الاتجاه الأخباري يختلف عن مجرد الاعتماد على الأخبار، فالأخبارية لديهم منهج خاص بهم.
أما الاتجاه السلفي، فهو لا يزال حي في أهل السنة، وعلى الرغم من تراجع التيار التكفيري، إلا أن الاتجاه السلفي بشكل عام في تطور. بالطبع، لا أقصد القول بأن الأخباريين يشبهون السلفيين.
الاتجاه الديناميكي الحديث: ظهر هذا المصطلح بعد الثورة الإسلامية، وأصحابه معروفون، ويسعون إلى نوع من التجديد في منهج الفقه. يتمثل هذا التجديد أحيانًا في التركيز بشكل أكبر على القرآن والابتعاد عن الأحاديث الفردية، وأحيانًا في استخدام طرق عقلانية أكثر من الطريقة الجواهرية، وأحيانًا في شكل رؤى دينية بحثية متأثرة بالأخلاق والفلسفة أو التصوف، ويتم وصفه بأنه نهج حديث في الفقه. ويمكن العثور على أمثلة على ذلك في نظريات القبض والبسط في الشريعة.
الاتجاه الديناميكي ليس مجرد مصطلح، بل هو فكر له هويته الخاصة، وقد وقف الإمام خميني ضده، بل وضد الحديث عن التحديث. فالاتجاه الديناميكي بمعناه الذي يخرج عن المنهج الجواهري، لم يؤيد الإمام أيًا من مكوناته الثلاث، بل قبل معنى واحد فقط وهو مراعاة متطلبات الزمان والمكان وتأثيرهما في تحول الموضوعات. ولذلك، فقد عزل الفكر الديناميكي بشكل كبير في الحوزات الشيعية.
الاتجاه التشريعي القانوني: هذا الاتجاه في تطور مستمر، ويهدف إلى استخدام البنية القانونية للتعبير عن الفقه وتسهيل تطبيق الأحكام الفقهية في المجتمع. بسعى أحيانًا إلى صياغة مواد قانونية مستمدة من المواد الفقهية دون التأثير في الفقه نفسه، وأحيانًا إلى تطبيق الفقه في المؤسسات القانونية مثل القضاء.
الاتجاه الاجتماعي: هذا الاتجاه هو الأكثر شموليا، وله عدة مسميات. بدأت كاتجاه حكومي، ثم أطلق عليه البعض اسم “فقه النظام” أو “الفقه البناء” لسهولة فهمه وربطه بالعلوم الأخرى.
الاتجاه التربوي: هذا الاتجاه قديمي، وقد تم تعزيزه في الآونة الأخيرة. وهو يهتم بدراسة الأدلة من منظور تربوي، ويولي اهتمامًا كبيرًا بالآثار التربوية للأحكام الفقهية. يركز هذا الاتجاه على الأهداف التربوية للفقه، ويدخل في نطاق الفقه بشكل عام. الاتجاه التربوي أوسع نطاقًا من الاتجاه التشريعي أو فقه الحوكمة، بل إنه يعتبر العديد من مهام الحاكمية جزءًا من دورها التربوي.
الاتجاه المقارن: هذا الاتجاه له أصول تعود إلى كتاب “الخلاف” للشيخ الطوسي، وهو اتجاه شائع حاليًا. وهو اتجاه لا يقتصر على إقناع المذهب الشيعي فقط، بل يشمل أيضًا مذاهب أخرى، ويمكن أن يكون الهدف منه مجرد وصف لأراء المذاهب المختلفة أو تقييمها ومقارنتها، لأن الفقه المقارن لا يمكن أن يكون مجرد وصف بدون تحليل وتقييم.
هذا الاتجاه لا يعني بالضرورة إعطاء شرعية للفقه السني. إذا أراد الفقه الجعفري أن يحصل على مكانة لائقة في المؤسسات الفقهية الدولية وفي منابر تمثيل الفقه الإسلامي أمام المذاهب القانونية الأخرى، فعليه لا محالة الدخول في حوار الفقه المقارن. فإذا أردنا أن يكون للفقه الجعفري مكانة مرموقة، يجب أن نوجه أدبياتنا الفقهية لتشمل جميع الأطراف
الاتجاه المقاصدي: في الاتجاه المقاصدي، مال إليه معظم المعتزلة عند أهل السنة، ثم تبعهم الشافعية والمالكية والحنفية. وهذا الاتجاه يقف مقابل النصوص، سواء كانت نصوصًا قرآنية أو سُنية. ورغم الضجة التي أثيرت حول الاتجاه المقاصدي في العالم السني، إلا أنه حتى الآن يلعب دورًا سلبيًا وقيِّدًا على الاجتهاد والاستنباط أكثر مما تلعب دورًا إيجابيًا في خلق أحكام جديدة. ويبدو أن نظام الحجية لدينا في أصول الفقه لا يسمح بقبول الاتجاه والرواية المقاصدية بشكل كامل في الفقه الجعفري.
الاتجاه بين التخصصات: هذا الاتجاه قديمي، ولكنه ازدادت أهمية في الآونة الأخيرة. البحث أحادي التخصص يفترض استقلال الموضوع والموضوعات والمنهج بشكل كامل. أما البحث متعدد التخصصات فيقوم تخصصان بدراسة موضوع واحد وعرض النتائج بشكل منفصل. أما البحث بين التخصصات فيتطلب تفاعلاً طوليًا وعرضيًا بين تخصصين لحل مشكلة واحدة، حيث تتجاوز المنهجيات المستخدمة حدود تخصص واحد. وقد بدأ هذا النوع من البحث يظهر بقوة، مثل دراسات الإجراءات القانونية التي تتطلب تداخلًا بين عدة تخصصات.
أكثر أشكال البحث بين التخصصات دفاعًا هو البحث الذي يجمع بين الفقه والقانون، حيث يوفر الفقه الأسس والمباني للقانون. لذلك، من الصحيح القول “الفقه ومباني القانون الإسلامي” بدلاً من “الفقه والقانون”. وبهذا المنظور، تبدأ المراحل الأولى من عملية التشريع من الفقه وتنتهي بالقانون.
المحاور، الطبقات، المجالات، الموضوعات، المؤلفات والتأليف:
وأشار رئيس لجنة تطوير وتمكين العلوم الإسلامية في مكتب الإعلام الإسلامي في الجزء الثالث، إلى أن الاتجاهات الثلاث الأولى غير متوافقة، وذكر أنواع “المحاور” للدراسات الفقهية المعاصرة، مثل “فقه السلوك والعلاقات”، و”فقه الظواهر والمؤسسات”، و”فقه الثقافات والقوانين”.
كما تطرق إلى سبعة “طبقات” للدراسات الفقهية المعاصرة، بما في ذلك: “علم الأحكام الكلية (أنواع الأحكام)”، “علم الموضوعات”، “علم التطبيق (مثل تطبيق شروط القاضي)”، “علم النظريات”,”علم الشريعة (مع مراعاة الشبهات الاستشراقية)”، “علم المدارس (ليست كل حلقة دراسية مدرسة، بل هي أسلوب في النهاية)”,”علم الاستنباط (رسالة أصول الفقه، وهوية المسألة الأصولية، وأنواع المسائل الأصولية)”.
كما شملت المجالات والموضوعات الأساسية للدراسات الفقهية المعاصرة خمسة مجالات: “فقه المناسك والعبادات”، “فقه الأسرة والصحة”، “فقه الأموال والمعاملات”، “فقه الحكومة والقانون”، “فقه الثقافة والاتصالات”..
وذكر الهي الخراسانی بعد ذلك عدة خصائص مهمة للمؤلفات والتصانيف الفقهية المعاصرة: “قلة الدراسات التاريخية”، “الموضوعات الحديثة والمسائل المستحدثة”، “الموضوعات والمجالات الاجتماعية”، “تجديد المسائل التقليدية وإعادة قراءة الموضوعات الثابتة”، “النظرة النظامية والهندسية”، “الدراسات المتعددة التخصصات والبينية”، “البحوث ما فوق المذهبية وما فوق الدينية.
الدراسات الفقهية المعاصرة من الدرجة الثانية
وتحدث الأستاذ في حوزة مشهد العلمية، في الجزء التالي من كلمته، عن أبعاد الدراسات الفقهية المعاصرة من الدرجة الثانية وهي: “أصول الفقه ومبادئه”، “فلسفة الفقه”، “التشريعات، المذاهب، المدارس والأساليب الفقهية والاجتهادية”، “النظر الفلسفي في أصول ومباني الفقه = فلسفة الفقه (تعريف الفقه ونطاقه، المباني الحاكمة على الفقه والأصول، معرفة نظرية ومنهجية الفقه والأصول…)”، “النظر التاريخي في الفقه والعلوم المرتبطة به (تاريخ، أعلام ومصادر الفقه والأصول وتطوراته)،” “دراسة النصوص والفهرسة الفقهية والأصولية (ببليوغرافيا، نسخ، فهرسة وإحياء التراث الفقهي)”، “النظر الاجتماعي في الفقه والفتوى (علم اجتماع الفقه والفتوى)”، و “تطبيق الفقه واستثماره (التشريع، التعليم، الإعلام، بناء المؤسسات.
ضروريات لتوسيع نطاق الفقه المعاصر
وذكر عضو الهيئة العلمية في مركز الآخوند الخراسانی التخصصي، في الختام، مجموعة من الضروريات لتوسيع نطاق الفقه المعاصر، وهي: “تخصص البحث والتدريس في الفقه المعاصر (واقعية، منهجية، الحفاظ على شمولية الفقه وتماسكه، مرونة التدريس، البحث الجماعي والتقني)”، “تنقيح المقدمات لدخول الفقه في المجالات والنظم الاجتماعية (ماهية وفلسفة المجال، القواعد الأصولية والفقهية العامة والخاصة)”، “تطوير وتوسيع الطرق الصحيحة والفعالة لمعرفة الحكم (تحديات الإطلاقات والعمومات، تعزيز دراسة النصوص، مباني معرفة الحكم)”، “تطوير مبادئ وأساليب علم الموضوعات (الموضوعات المركبة، التقنية، متعددة الأوجه، متعددة التخصصات)”، “مراقبة التطورات الاستنباطية والفتوائية الفقهية على المستوى العالمي”، “توحيد البحوث الفقهية وزيادة تأثيرها الاجتماعي”، “تنظيم العلاقات التخصصية بين الفقه والعلوم الأخرى (العلاقات الأفقية، العلاقات الطولية، علم الموضوعات والمنهجية.
وأكد أستاذ البحث الخارج في الفقه والأصول، في ختام كلمته، على ضرورة تطوير علم الأصول بطريقة منهجية، مشيراً إلى أن تقدم علم الأصول أدى إلى تناقص في المواد الفقهية، كما حدث في مدرسة جبل عامل، حيث أدت الدقة الشديدة للشهيدين وصاحب المعالم إلى تقليل قيمة الأدلة، وتحويل الإجماعات إلى دليل مدركي، واجمال الظهورات، وتعرض النصوص للتضاد، وفي النهاية ضعف السند.
وقال: إذا لم نحافظ على رأس المال الفقهي بالتوازي مع رفع الدقة المعرفية والمنهجية، فسيحدث أحد أمرين: إما عرفية الفقه، وهناك أدلة على ذلك، حيث يستمد مصادره من القانون الوضعي والعادات، وهو ما حذر منه الإمام الخميني(قد)، حيث قال يجب علينا استنباط أحكام المسائل وفق منهج الجواهري. أو الجانب الآخر هو التوقف والتأني والتأخر في الإجابة، مما يؤدي إلى نوع من السلفية في الفقه. لذا فإن محاربة التوسع في تدريس الأصول أمر صحيح، ولكن ليس في البحث، بل العكس، فنحن بحاجة إلى تنقيح المبادئ وتقوية محرك الأصول.
واختتم الاستاذ الهي الخراسانی كلامه بتأكيده على أن الثورة الإسلامية قد منحت الفقه نعمة كبيرة، وعلينا شكر هذه النعمة بحفظ الفقه الإمامي وتوسيع دائرة دراساته، والابتعاد عن الأبحاث الوهمية والتفاصيل غير المؤثرة. وأضاف أنه من خلال العمل الجماعي والتواصل مع مختلف العلوم، يمكننا رفع الفقه إلى مراحل أعلى وتطبيقه في المجتمع.
تم
المصدر: الاجتهاد
برچسب ها :
ارسال دیدگاه