على ضفاف الفرات
على ضفاف الفرات، كتاب لإبراهيم أمين السيّد، صدر عن دار المعارف الحكميّة. تناول هذا الكتاب مجموعة محاضرات في النهج الحسيني الكربلائي ألقيت في فترات زمنيّة متعاقبة أدرجها الكاتب ضمن ثلاثة محاور هي: الحريّة والتكليف، الأثر الكربلائي في التغيير وكربلاء، وبناء مجتمع العدالة الإنسانيّة. فمن شخصيّة الإمام الحسن(ع) التصالحيّة إلى المشيئة الإلهيّة باستشهاد الإمام الحسين(ع) لحماية الدين الحنيف، فمسؤوليّة السيدة زينب(ع) في حمل وإشعال الثورة الكربلائية التي سطّرت معاني كربلاء في التضحية من أجل حماية الإسلام، فالتمهيد لظهور صاحب العصر والزمان(عج). والكاتب هو عالم دين قيّم يتصدّى للأمور الدينيّة، يعمل جاهدًا في سبيل تحديد خيارات المجتمع وحفظ وحماية المبادئ والقيم الإيمانيّة والأخلاقيّة.
وتطرق الكاتب إلى شخصيّة الإمام الحسن(ع) التصالحيّة. هذه الشخصيّة التي رسمت حياته وفقًا لمبرّراتٍ سياسيّة، موضوعيّةٍ واجتماعيّة. فصلحه مع معاوية أثار جدلًا وإرباكًا كبيرًا في الذهن العام، ممّا ظهرت آراء مسيئة للإمامين الحسن والحسين(ع)، حيث اعتبروا أنّ الإمام الحسن رجل صلح، بينما الإمام الحسين(ع) رجل استشهاد. إلّا أنّ الأمر خلاف ذلك فالشخصيّة واحدة. هم أئمّة معصومين وحجّة الله على الأرض، وأيّ موقفٍ آخر هو خلل في العقيدة. ففي أغلب الأحيان يكون إجراء الصلح ليس اختياريًّا، بل يُفرض عليه، والإمام الحسن(ع) يقول في مسألة الصلح: “ما فعلته فهو لشيعتنا أفضل ممّا طلعت عليه الشمس”. هذا الخيار لم يكن خيارًا عاديًّا وإنّما اضطراريًّا لظروفٍ وأحداثٍ اجتمعت وتفاعلت فيما بينها وفرضت هذا الخيار. هنا يجب التمييز بين الظروف والمبرّرات، بين الدوافع والأهداف؛ لأنّ الظروف تكون مناسبة للقرار وتساعد على اتخاذه، وقد تكون غير مناسبة للقرار ولا تساعد على اتخاذه. فالظروف قد تكون مناسبة للحرب باستشهاد الإمام الحسين(ع)، والقرار بالسلم أو بالصلح كصلح الحديبية.
بينما قال الإمام الحسين(ع): “شاء الله أن يراني قتيلًا وشاء الله أن يراهنّ سبايا”. العظمة هنا التي تفوق استشهاد الحسين هي لياقة الحسين لأن يراه الله شهيدًا. فالرغبة الإلهيّة هي استشهاد الإمام الحسين(ع) وسبي النساء، وهذا أرقى مقدّسات الفعل البشري التي فتحت عقولًا وثقافةً ليس بالكلمة ولا بالموعظة، بل بالدم والصبر والثبات. كذلك المقاومة التي انتصرت بتجسّدها إمكانيّات الموقف الحسينيّ. فكربلاء كانت أداءًا للتكليف الإلهي. العظمة هنا في الاندفاع لأداء التكليف. وقد قارن الكاتب في ذلك أداء إبراهيم النبيّ(ع) في أداء تكليفه بذبح ابنه فقال له: [إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ]. فقال له ابنه: [يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]. هذا التكليف من أصعب الاختبارات عند الأنبياء ومع ذلك استجاب النبيّ للتكليف. كذلك مع الإمام الحسين(ع) فإنّ التكليف الذي من أرقى الأنواع، أدّاه برضى وسعادة “إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة”.
إنّ انتصار كربلاء هو قوّة الموقف، اليقين والإيمان، هو هذا العشق للقاء الله. العشق بين أصحاب الحسين(ع) والحسين. كما أنّ تكليف الأمّة بعد الحسين(ع) هو التضحية والاستشهاد والوفاء. قيمة الإنسانيّة بعد الإمام هي بقيمة هذا الدم. بالتالي، إنّ قول الإمام الحسين(ع) “هيهات منّا الذلّة” ، له علاقة بالقيم في كربلاء التي تجسّدت في أهل بيته وأصحابه.
سطّرت كربلاء أرقى قضايا الأمّة ومنها الحريّة: “فكونوا أحرارًا في دنياكم”. الحريّة التي سعى لها الإمام هي الكرامة. فالإمام الحسين نظر إلى كربلاء من منظور الأمل، واستشهاده هو مساهمة كبرى في وصول الزمن ومن أجل مجيء المخلّص الحجّة المنتظر. إنّ عظمة هذا الاستشهاد هي بعظمة الهدف النهائي الذي يريده الله تعالى في إقامة العدل والسلام في العالم. فما وصلت إليه البشريّة من يأسٍ بكلّ الدول، لم يعد هنالك أملٌ للمجتمع البشريّ لتحقيق السلام والحريّة والأمن إلّا التمسّك بعقيدة ظهور الإمام الحجّة المنتظر. وقد ذكر الله تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ].
كربلاء هي الفكرة والثورة التي تحمل المضمون العقائدي الكامل، وكذلك الروحي، الاجتماعي، والسياسي. هذا المضمون الذي صنع الأجيال، المستقبل والمصير. إنّ الألطاف الإلهيّة والنعم الكبرى التي حصلت من خلال استشهاد الإمام الحسين(ع) شكّلت معادلةً وأطروحةً عقائديّةً كاملة، من المهمّ أن تكون أمامنا حتّى نستطيع أن نقدّمها للناس والمجتمع.
إنّ اللطف الإلهي للبشر مطروحٌ في العقائد. هذا اللطف كان انبعاث الرسول(ص) لبناء مجتمعٍ بشريٍّ عالميّ كونيّ، يقوم على أساس الإسلام وقيمه. هذا الخطّ تأسّس مع الرسول وكلّف الكثير من الشهداء. وكان من ضمن شروط البناء شروط الاستمرار “إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي”. فقد ظهر طابعٌ عام في تلك المرحلة يحمل مضمونًا بصيغة التنكّر لكلّ النصوص التي تشير إلى العلاقة مع أهل البيت كبوابة استمرارٍ لخطّ النبوّة في سبيل تحقيق هدف سياسيٍّ أوليٍّ. ودفع المجتمع الإسلامي والبشري ثمنًا كبيرًا لهذه السياسة في عهد الخلافة الأولى والثانية والثالثة، حيث حصلت ثورة كبيرة أعادت أمير المؤمنين(ع) إلى السلطة. فالتاريخ يعكس المؤامرة على خط النبوّة والإمامة وأهل البيت(ع). الإمام الحسن وصل إلى نقطةٍ بين حرب الإبادة، أو أن يبقى الإمام ويبقى معاوية، ولكن السلطة لمعاوية. والصلح كان قائمًا على قاعدة أنّ خطّ النبوّة في شروط الصلح قد التزم بها معاوية. والإمام الحسن(ع) يقول: “ما فعلت ما فعلت إلّا لدفع القتل عن شيعتي، ولولا ما فعلت ما بقي أحدٌ من شيعتنا إلّا لقتل تحت شجر ومدر”.
صالح الإمام الحسن(ع) معاوية ليحضّر للخطوة التالية المتمثّلة بالإمام الحسين(ع)، ومعاوية ليمهّد ليزيد. فالإمام الحسين قال: “إنّا أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ويزيد رجل كافر فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة اللاعب بالقرود ومثلي لا يبايع مثله، يأبى الله لنا ذلك ورسوله المؤمنون وجحور طابت وطهرت وأنوف حميّة”. وقد أعلن الإمام كلامًا مهمًا: “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل”. إنّ موقع أهل بيت النبوّة لا يسلّمه لأحد، فبدون خطّ النبوّة، بدون اللطف الإلهي، العناية والرحمة لا تستمرّ الحياة. لذلك فإنّ استشهاد الإمام الحسين(ع) في كربلاء يمثّل قمة اللطف الإلهي والرحمة الإلهيّة للبشر. في هذا الصدد يقول الإمام الحسين: “إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني”.
إنّ الإمام الحسين دفع حياته ثمن خطّ النبوّة، ذُبح في كربلاء، قُطع رأسه، مُلِئ صدره بالسهام، حُمل رأسه من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام حتّى يبقى خطّ النبوّة في الحياة. إنّ كلّ ما حصل اعتبرته السيّدة زينب(ع) قربانًا، حيث قالت في مجلس يزيد: “يا يزيد لئن جرت على الدواهي مخاطبتك، فكد كيدك واسع سعيك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تمت وحينا”.
يقول الله تعالى: [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]، فالإرادة التشريعيّة أي إرادة التكليف موضوعها القابليّة، والتشريع هو إظهار الجمال الإلهيّ الذي يريده في الإنسان. هذه هي العبادة وهذا هو التكليف. ففي كربلاء حين قال الإمام الحسين(ع): “ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركزّ بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة”. هذا الكلام الذي يحمل قيمةً تشريعيّةً عميقةً هو تجسيدٌ لقابليّة الإباء. إنّ عبارة “ما رأيت إلّا جميلًا”، هي من أروع درجات الجمال والكلام الإنساني، الذي يتناسب مع الجمال والكمال الإلهيّ.
كرّم الله سبحانه وتعالى الإمام الحسين(ع) بأن رهن وجود الإسلام بدمه وبصبر زينب(ع)، كما رهن الله وجود الإسلام ووجود الرسالات بحياة الأنبياء. وما نواجهه اليوم يجب أن يكون على مستوى من المسؤوليّة لننتج ثمرة من ثمار كربلاء. فالإسلام هو الذي طهّر الأمّة التي تحمل قيمة إلهيّة حضاريّة وإنسانيّة. إنّ الإمام الحسين(ع) أعطى لكلّ الثوّار في العالم ما يحتاجونه من حريّة وكرامة وعزّة.
كما ويشير الكاتب إلى أنّنا أمام تكليف إلهيّ حسينيّ زينبيّ في حمل هذه الشعلة وحمايتها تمهيدًا لبناء دولة الحقّ على يد صاحب العصر. فلنكن ثمار الدم المفدّى، ثمار أشرف الرؤوس التي علّقت على الرماح، ولنكن نحن من نادى إليه الإمام لنصرته في كربلاء لإعلاء راية الحق. فهل أنت أمام تحدّ للمهام في تعميم التأسيس الذي خطّ بأشرف دم؟
حاول السيّد في كتابه أن يعالج مفردات الثورة الحسينيّة المباركة بمنهجٍ تحليلي. فبيّن لنا أنّ الحدث الكربلائيّ هو حدثٌ مكمّلٌ لنهج الأنبياء(ع)، وممهّدٌ لظهور صاحب العصر والزمان(عج). فقد حبك أمين السيّد أفكاره في محاولةٍ لإبراز محاور كان قد عرضها بمثابة موضوعه العام إلى أن تطرّق إلى التعمّق في عناوينها. فعمل على توضيح ما كان مبهمًا في الذهن العام. ليوضّح دور كلٍّ من الإمامين الحسن والحسين(ع) في أداء التكليف والسعي نحو الحريّة، أي حريّة الإنسان من آثام الجاهليّة وشراستها نحو حريّة العقل والنور الذي ينير به الإنسان دربه. وما بين الحريّة والتكليف مسؤوليّة وقرار. فقيمة الإنسان بعد الحسين(ع) هي بقيمة هذا الدم.
عبّر الكاتب عن رؤيته الفكريّة للثورة الحسينيّة مساهمًا في رسم خيار الحقّ. فللوجود الكربلائي أثرٌ زمانيٌّ ومكانيّ. فعمد إلى تأريخ أحداث ما قبل الثورة الحسينيّة مستعرضًا المؤامرات التي حيكت لضرب الإسلام على يد بني أميّة. نجح السيّد في ربط الأحداث ودورها الناجح في الحفاظ على الدين الذي سعى إلى تشويهه بنو أميّة، حيث اعتمد أسلوب الإيضاح في نصوصه، فأكثر من الأدلّة والبراهين في دعم العناوين التي طرحها.
إلى جانب ذلك لم يتخطّ الموضوع بل جاء كتابه كلٌّ متماسك، موحّد المضمون، بحيث نجول وندور بين سطوره ونبقى في اتجاهٍ واحد. اختار في سياقه الكلام العذب الراقي لجدّة الموضوع وجدّة إرادة توصيله للفكرة. بالفعل إنّ الكتاب جديرٌ بالقراءة والتصفّح لما فيه من لذّةٍ جميلةٍ تثير فينا أثر معنويّ عاطفيّ، وملمس معرفيّ أصيل يثبّت دعائمنا وأصولنا العقائديّة المحمّديّة الصحيحة. فما سعى إليه الكاتب هو كشف الغشاء الواهم عن الحقيقة، ومسح كلّ الغبار عن مشوّهات الإسلام، وبالتالي بلورة جوهرة الرسالة المحمّديّة الثمينة التي حافظ على رونقها الإمام الحسين(ع) بدمه فزادها إشراقًا، مسطّرًا أبهى معاني البطولة والتضحية بقوله: “إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني”. إنّ لاستشهاد الحسين(ع) دور بارز في إفشال مشروع الدولة الأمويّة الباطلة وتمهيد لحفظ دولة العدل الإلهي. فمن منطلق حماية الدين الحنيف إلى حريّة الإنسان فصحّة القيم والمبادئ، فرض الله تعالى التكليف والمسؤوليّة على الجميع في سبيل إعلاء كلمة الحقّ وزهق الباطل. فهل نشهد الاستعداد التكليفيّ الكامل الذي أعدّ له الإمام الحسين(ع)؟ وكيف نسعى إلى تقريب الأمل الذي زرعه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام في قلوبنا؟ نحن نواجه اليوم تحدّياتٍ صعبةٍ على جميع الأصعدة الاجتماعيّة، الدينيّة، الإعلاميّة، النفسيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة. فالشعلة التي أشعلها الحسين(ع) والتي أوّل من حملها ومشى فيها في سبيل إنارة العقول المظلمة، ونشلها من مستنقع الكهوف الظالمة المستبدّة والقاهرة إلى الحريّة والعزّة والكرامة في الدنيا والآخرة هي العقيلة زينب(س)، ومسؤوليتنا من الله هي حماية راية النصر التي رُفعت بالدم التي انتصر على السيف.
فكربلاء تحمل معاني ودلالات ودروسًا وعبرًا ومفاهيم كبيرة وكبيرة جدًا، لكن موضوع كربلاء يجب أن نفهمه من هنا، ما معنى وصول يزيد إلى السلطة؟ وما معنى أنّه لم يبقَ مع الحسين(ع) إلا ثلاثة وسبعون؟ ما معنى ذلك؟ وما معنى أن يأتي الحسين(ع) إلى كربلاء هو وأهل بيته وأولاده ونساؤه وأطفاله؟ لماذا لم يدعهم في المدينة؟.
كلّ ذلك لأنّ قواعد بناء دولة العدل الإلهيّ ممثّلة بالحسين(ع). بيّن لنا السيّد في ختام الكتاب مغزى كربلاء، وأهميّة هذه الروح العظيمة التي اختارها الله تعالى لإعلاء الكلمة العليا ولسحق يزيد والدولة الأمّارة بالسوء.
المصدر: المعارف الحکمیة