□ مقالة/ الجزء الأول
شخصنة الدِّين وجدليَّة العاطفة
□ الشيخ علي أحمد الجفيري
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
▪ مقدمة:
ورد عن سيِّدنا ومولانا الإمام الصَّادق(ع) أنَّه قال:{مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّين بِالرِّجَالِ أَخْرَجَهُ مِنْهُ الرِّجَالُ كَمَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ ومَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْكِتَابِ والسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ.}
يُعدُّ ربط الدِّين بالأشخاص جدليَّة واسعة على المستوى النَّظري، وآثاره ممتدَّة على المستوى التَّطبيقي، منها ما هو سلبي، ومنها ما هو إيجابي، ومن أجل تبيُّن حقيقة الأمر، وما ينبغي فيه، فلنتناول هذا الموضوع -على سعتِه- مختصرينه في أربع نقاط:
▪ النَّقطة الأولى: تحليل جذور (شخصنة الدِّين)
وهنا أمورٌ تبيِّن موقع الشَّخصنة في معادلة التَّديُّن:
1) إنَّ التديُّن مسألة فطريَّة، جُبل عليها كلُّ النَّاس، وهي موجودة في أعماقهم من أصل خلقتهم.
2) يتفرَّع على الأمر الأوَّل أنَّ النَّاس كلَّهم على دين، إلا ما ندر ممَّن شذَّ عن هذه الفطرة ادَّعاءً، وهو رغم ذلك لو رجع إلى أعماقه لوجد نفسه متعلِّقة بدينٍ، وبربٍّ، فهذه المسألة الفطريَّة أوجبت أن تكون مسألة التَّديُّن مسألة عامَّة.
3) إنَّ تحقيق التديُّن -فكرًا وسلوكًا- لا يمكن أن يحصل عادةً إلا بالأخذ عن أحد، فالدِّين -أيُّ دين- يحتاج إلى قيِّم؛ ولذا نجد أصحاب الأديان يرجعون في نهاية الأمر إلى رؤوسٍ وقادةٍ، تُؤخذ عنهم معالم الدِّين وتوجيهاته، أنبياء كانوا، أو أوصياء، أو رهبانًا، أو أحبارًا، أو علماء، وهكذا، فالدِّين في جهة الأخذ مآله إلى رأس يُؤخذ عنه.
4) من هنا تنبثق مسألة الارتباط العاطفي بهذا الرَّأس؛ إذ أنَّه متفضِّل -في الواقع، أو في نظر المتديِّن على الأقل- على المتديِّن، بإرشاده إلى ما ينبغي، وما لا ينبغي، فتتكوَّن على إثر ذلك رابطة عاطفيَّة قد تفوق الرَّابطة العاطفيَّة النَّسبيَّة، فيُعشَق القائدُ الدِّيني أكثر حتى من عشق الأب، والأمِّ، والأخ، والصَّديق.
5) لا شكَّ أنَّ هذه الرَّابطة العاطفيَّة هي الرافد الذي لا غنى عنه، الذي يضمن استمرار عمليَّة الأخذ، وإلا فإنَّ النَّاس ليست مجبورة على الأخذ من شخصيَّة منبوذة ومكروهة لديهم، ومن هنا ورد عن الباقر(ع): (الدِّين هُوَ الْحُبُّ وَالْحُبُّ هُوَ الدِّين)، فإنَّ الرَّابطة العاطفيَّة بأرباب الدِّين وقادته ركنٌ أساسٌ في إشباع حاجات عمليَّة التَّديُّن.
6) في نفس الوقت الذي تكون فيه الرَّابطة العاطفيَّة برؤوس الدِّين ركنًا أساسًا في تلقِّي الدِّين والعمل به، إلا أنَّها من الخطورة بمكان، بحيث قد تنقلب على صاحبها بآثار عكسيَّة خطيرة جدًا، حين يُخطئ المتديِّن تحديدَ مصداقِ هذا الرَّأس، فيُخطئ بذلك ما أراد طلبَه من دِينٍ، ومن هنا جاءت فكرة ضرورة الارتباط بالمعصوم وحده؛ لأنَّه لا ضمانة حقيقية لأخذ الدِّين كما نزل من دون أيِّ إضافة أو نقيصة أهوائيَّة أو ذوقيَّة، إلا بالأخذ عن خصوص المعصوم وحده، وحينها سيكون هذا الارتباط العاطفي مُنتجًا ثمرته المرجوَّة، وإلا كان خطرًا داهمًا.
من هنا ورد عنهم(ع) هذا المعنى مستفيضًا، فعن الثُّمالي قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، قَالَ: (عَنَى اللَّهُ بِهَا مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ رَأْيَهُ مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى)، وعنه(ع): (مَنْ دَانَ اللَّهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ عَنْ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اللَّهُ الْبَتَّةَ [التيه] إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وعنه(ع): >أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَقٌّ ولَا صَوَابٌ إِلَّا شَيْءٌ أَخَذُوهُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ولَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقْضِي بِحَقٍّ ولَا عَدْلٍ إِلَّا ومِفْتَاحُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ وبَابُهُ وأَوَّلُهُ وسُنَنُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(ع)، فَإِذَا اشْتُبِهَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ قِبَلِهِمْ إِذَا أَخْطَئُوا، والصَّوَابُ مِنْ قِبَلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(ع) إِذَا أَصَابُوا)، وعنه(ع): (كُلَّمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ)، وهذا شاملٌ لما خرج شيء منه من هذا البيت، واختلط بغيره، فإنَّه ككلٍّ ليس من هذا البيت(ع).
وعن الصَّادق(ع): (كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شِيعَتِنَا وهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِعُرْوَةِ غَيْرِنَا)، وعن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: قال لي: (إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فَلْيُشَرِّقِ الْحَكَمُ ولْيُغَرِّبْ، أَمَا واللَّهِ لَا يُصِيبُ الْعِلْمَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ(ع)).
إذن: الأصلُ في الأخذ أن يكون عن المعصوم لا غير، وأيُّ أخذٍ أو اتصالٍ بغيرِ المعصوم فليس بحجَّة، ولا قيمة له في نظر أهل البيت(ع).
7) يبقى الكلامُ في أنَّ هذا الأخذ المباشر عن المعصوم إذا كان غير متاح -كما هو الأمر في زماننا، بل حتى في زمانهم(ع) في كثير من الحالات- فما هو العمل؟ مع ضمِّ الرُّؤية السَّابقة إلى ما تفرضه الظُّروف -التي تفرض عدم إمكان الاتِّصال بالمعصوم دومًا حتى في عصر ظهوره فضلًا عن عصر غيابه- فقد جرت السِّيرة المُمضاة من أهل البي(ع) على الأخذ من صدور الرِّجال الذين يُعدُّون الأقرب إلى المعصوم قدر الإمكان، مع العلم بالفارق الكبير بينهما، ولذا جاءت السلسلة كالتالي: الأصل، وهو الله تعالى، ثمَّ فروعه مُمثَّلة في النَّبي(ص)، والأئمة الأطهار(ع)، ثمَّ الفقهاء العدول، ثمَّ العلماء العاملون، فهو خطٌ واحدٌ، وسلسلةٌ واحدةٌ، مع حفظ الفارق بين المعصوم وغيره.
8) مع انتهاء السِّلسة تنزُّلًا بغير المعصوم اضطرارًا، نشأت عندنا مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة شخصنة الدِّين، أي ربطه بالشَّخصيات غير المعصومة، وإعمال عاطفة الحبِّ في هذا الارتباط في أوجها، بحيث يكون التعلُّق مطلقًا بغير المعصوم، فانفتح الباب وفقًا لذلك إلى إدخال الفساد، وخلط الغثِّ بالسَّمين؛ حيث لا يُؤمَن من نفس الصَّالح المأخوذ عنه ألَّا يقع في الخطأ كونه غير معصوم، هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى لا يُؤمَن ألَّا يُؤخَذ عن النَّموذج المرتضى عندهمi؛ حيث قد يشتبه المؤمن في تحديد مصداق من يأخذ عنه، فيقع بين يدَيْ دجَّالٍ يدَّعي القِّيادة الدِّينية بأيِّ شكلٍ من أشكالها، فيكون ضحيتَه عقيدةً وسلوكًا من حيث يعلم أو لا يعلم.
والسُّؤال المهمِّ هنا: كيف نعالج هذه المشكلة الواردة؟! فمن جهة: لا بدَّ من شخصنة الدِّين ولو بمقدار؛ حيث اتَّضحت أهمية ربط الدِّين بالأشخاص في تحقيق عملية التديُّن، وتلبية متطلباتها، ومن جهة أخرى: قد نكون بذلك في وارد نسبة ما ليس في الدِّين إلى الدِّين، فتفسد العقيدة، ويفسد السُّلوك، ويضيع الهدف من الشَّخصنة حينئذٍ!
▪ النُّقطة الثَّانية: الآراء حول (شخصنة الدِّين)
وهنا تأتي عدَّة نظريات، فإنَّ ربط الدِّين بالأشخاص في هذا العصر -بعد الفراغ من ضرورة ربطِه بالمعصومين(ع)، وأخذه عنهم- فيه آراء متعدِّدة:
الرَّأي الأوَّل: الرَّفض المطلق لشخصنة الدِّين في غير المعصوم
بمعنى عدم جواز الأخذ من غير المعصوم، إلا أن يكون راويًا عنهم، فالأخذ حقيقة عن المعصوم فقط، وما الرَّاوي إلا واسطة للتوصِّل إليهم(ع)، وكأنَّ أصحابَ هذا الرَّأي يرون التمحُّض في النَّظر إلى هذه الواسطة بعين الطَّريقيَّة.
وتختلف دوافعُ هؤلاء، فهم صنفان:
1) (المُحدَثون): وهم من يرى أنَّ الفُقَهاء ما هم إلا قطَّاع طُرق، ومتمصلحون، يتاجرون بفقاهتهم، ويطلبون الدُّنيا، والوجاهة، ومن هنا يُنظِّرون إلى ضرورة الانفكاك عن خطِّ الفُقَهاء، وإلغاء التبعيَّة لهم، والتَّعامل المباشر مع الموروث الرِّوائي لأخذ الدِّين عنه دون واسطة، اعتمادًا على العقل.
2) (المُحدِّثون): وهم من يرى ضرورة الرُّجوع إلى الفقهاء، ولكن بمعنى أنَّهم رواةٌ، ونقَّادٌ للأخبار، متخصصِّون فيها، فقط يحددِّون ما يمكن أخذُه منها، وما لا يمكن الاعتماد عليه منها، وليس لهم أن يجتهدوا بابتداع الآراء من خلال استنطاق النُّصوص برؤيةٍ تجديديَّةٍ، أو تحليليَّةٍ، أو موضوعيَّة، بل عليهم أن ينظروا في الأخبار بنحو نمطيٍّ تقليديٍّ؛ لأنَّ أهل البيتi خاطَبوا النَّاس بهذا النَّمط التقليديِّ، فلا وجهَ حينئذٍ لإعطاء هذه النُّصوص مداليل ظنيَّة لا تحتملها ألفاظها.
وربَّما استندوا في ذلك إلى مفاد عديدٍ من الرِّوايات، منها ما عن الصَّادق(ع): (اعْرِفُوا مَنَازِلَ الرِّجَالِ مِنَّا عَلَى قَدْرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا)؛ فإنَّ ظاهرها أنَّ منازل الفقهاء عندهمi بقدر روايتهم، وبحسب خبرتهم في ما يتطلَّبه علم الرِّواية، وأمَّا الدِّراية، فلم تُؤخَذ موضوعًا في الحكم بقرب منزلتهم منهم(ع).
وكذا ما جاء من روايات في بيانِ بطلان الرَّأي، والاستحسان، والاجتهاد، طريقًا لكشفٍ واقعيٍ للأحكام، ممَّا يُفهم منه ضرورة الاقتصار على ظواهر ما جاء عنهم(ع)، دون محاولة تعميقِه بما لا يحتمله لفظه، ثمَّ نسبته إليهم(ع) دون وجه حق.
الرأي الثاني:القبول المطلق لشخصنة الدِّين:
بمعنى ضرورة الذَّوبان في الأشخاص؛ استعاضةً بذلك عن غياب المعصوم؛ فإنَّ حالة الذَّوبان في القائد الدِّيني حالة فطريَّة، ومطلوبة، لتحقيق التَّديُّن الصَّحيح، وعلى هذا فإنَّ هؤلاء الأشخاص واسطةٌ في أصل الموضوع، ولكن هذه الواسطة لها موضوعيَّة، وليست منظورة فقط على نحو الطريقيَّة، والتَّعبير الأوضح المُعبِّر عن هذه الحالة: أنَّ الذي يُؤخذ عنه تُنظر وساطتُه بمنظارٍ بعيدٍ؛ لحفظ أصل الأخذ عنهم(ع)، إلا أنَّ المطلوب الواقعي في هذه النَّظريَّة هو النَّظر إلى المأخوذ عنه الدِّين بنظر الموضوعيَّة؛ تغليبًا لها على ملاحظة الطَّريقيَّة فيه، فيُحصر الإسلام فيه مطلقًا، ويُنوَّه على تقدُّمه، وفضله، واستحقاقه لهذا التَّقديم دونَ غيرِه، ويُتعامل معه -في كثيرٍ من الأحيان- كالمعصوم تمامًا، إلا في مساحات ضيِّقة يضَّطر أصحاب هذه الرُّؤية إلى التَّنويه عليها؛ حفظًا لأصل نظريَّة العصمة.
الرَّأي الثَّالث: القبول المقيَّد لشخصنة الدِّين
إنَّ الشَّخصنة عند هؤلاء أمرٌ بيْن أمرين، فالشَّخص الذي يُؤخذ عنه يُلحظ بلحاظ الطريقيَّة، وبلحاظ الموضوعيَّة أيضًا في نفس الوقت، أمَّا اللحاظ الأوَّل؛ فلأنَّ المطلوب الأساس منه أن يوصِل لرأي أهل البيت(ع)، فإنَّ رأي أهل البيت(ع) عليه المدار حقيقة، ولا خصوصيَّة للرَّأي المستقل عنهم، مهما بلغت مداركه من خبرة، وتجربة، وسداد، إلا بمقدار ما يعبِّر عنه كلُّ ذلك من الأخذ عنهم(ع) على وجه الخصوص، وأمَّا اللحاظ الثَّاني؛ فلأنَّ الواسطة يُطلب فيها مجموعة من الخصال الدقيقة، التي متى اختلَّ بعضُها فإنَّ الطريقيَّة تختلُّ، فلا بدَّ من توفُّر الواسطة على أمور يُنظر إليها بلحاظ الموضوعيَّة في الشَّخص الواسطة.
وهذه الآراء تحتاجُ إلى مناقشةٍ من أجل أن يتبيُّن الصَّحيح من بينها، فأيُّ هذه الآراء هو الصَّحيح؟ هذا ما نذكره في النقطة التالية:
▪ النُّقطة الثَّالثة: مناقشة الآراء الثلاثة
مناقشة الرَّأي الأول
مناقشة الصنف الأوَّل(المُحدَثين):
أولًا: إنَّ إلغاء دور العلماء والمتخصِّصين خلاف الإملاءات الفطريَّة والعقلائيَّة كما اتَّضح ممَّا سبق، وهو يفتح باب الفوضى الفكريَّة، والتَّضارب في الآراء المُحمَّلة على النُّصوص من دون حجَّة.
ثانيًا: إنَّ الدَّعوة إلى قطع العلاقة مع العلماء بتعميم بعض الحالات من الدَّجل الواقع في ادعاء المناصب الدِّينية على كلِّ من شغل هذه المواقع، تُعدُّ دعوى بعيدةً عن الموضوعيَّة، والواقعيَّة، والإنصاف.
ثالثًا: هذا الرَّأي خلاف ما أرشد إليه أهل البيت(ع) أنفسهم من ضرورة اتباع العالم بالشُّروط التي ستتَّضح فيما يأتي إن شاء الله، ففكرة هؤلاء تنقض نفسها بنفسها؛ إذ أنَّها تدعِّي ضرورة الأخذ عن أهل البيت(ع) بالسُّنة المحكيَّة مباشرة، وما دور الفقهاء إلا الرِّواية، ولا شغل لنا بدرايتهم البتَّة، فالحجَّة عندهم هو نفس هذه الرِّوايات، ثمَّ إنَّ نفسَ هذه الرِّوايات ترشِدُ بتظافر واستفاضة حجةٍ إلى ضرورة الأخذ عن خصوص العالم، وعدم الانفصال عنه في فهمِ الدِّين، فكان الطَّريق الذي ارتضوه في اتباع الدِّين بنفسه مبطلاً لحجتهم في بطلان اتباع العلماء.
ومن ذلك ما ورد عن الصادق(ع): (مَنْ دَانَ اللَّهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ عَالِمٍ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اللَّهُ التَّيْهَ إِلَى الْعَنَاء....)
مناقشة الصنف الثَّاني(المُحدِّثين):
أولًا: إنَّ فتح باب الدِّراية للجميع والاقتصار في التَّواصل مع الفقهاء على أنَّهم مجرَّد وسائط ورواة فقط، يعني جعل حديثهم(ع) شرعة لكلِّ وارد، ويلزم منه أن يفتي كلُّ غير ذي علم بجهله في الدِّين؛ لأنَّه عثر على رواية هنا، أو على حديث هناك، ويلزم منه أن يُنسب إلى الشَّارع ما ليس فيه، وفتح باب البدعة، والإفتاء بغير علم، والتَّوهين من الدِّين، والاستنقاص من حديثهم، وتحكيم الهوى والاستحسان، والخبط في معالجة ما روي عنهم إذا كان متضاربًا في ظاهره، والنَّظر إلى مطلق مع إغفال مقيِّده، والإفتاء وفقًا لعام مع إلغاء مخصِّصه، وعدم التفريق بين الناسخ ومنسوخه، وما ورد من خبر تقية، وما ورد منه جدًّا، وغير ذلك من مستلزمات الصنعة التي لا يقدر عليها حتى العالم إن لم يكن فقيهًا مجتهدًا، فضلًا عن عامة النَّاس، فكيف يُتعاطى حينها مع الفقيه كناقل فقط؟! ومن الذي سيميِّز السُّنة المحكيَّة عن السُّنة الواقعيَّة بنحو الحجة؟! ومن الذي سيتمكَّن من ترتيب الأثر؟!
وقد ورد ما دلَّ على أنَّ الرِّواية وحدها لا تكفي، وأنَّها حين تذكر مجرَّدة عن ملاحظة الدِّراية، فإنَّها تأتي بمعنى إرادة اللازم بذكر الملزوم، فالرِّواية ملزوم، والدِّراية هي اللازم، وهي المراد أساسًا، والقيمة لها، وما قيمة الرِّواية إلا بقيمة درايتها. جاء عن الصَّادق(ع): (اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا عِنْدَنَا عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا وفَهْمِهِمْ مِنَّا)، وعنه(ع): اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا، فَإِنَّا لَا نَعُدُّ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَكُونَ مُحَدَّثاً، فَقِيلَ لَهُ: أَويَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُحَدَّثاً؟ قَالَ: يَكُونُ مُفَهَّماً، والْمُفَهَّمُ مُحْدَّثٌ).
ثانيًا: إنَّ الملحوظ أنَّهم(ع) أعطوا كلَّ واحد بمقدار استعداده، فمن جهة اقتصروا في بعض الأحاديث على المستوى الواضح في الفهم العرفيِّ النمطيِّ المتعارف، مخاطبين به النَّاس العاديين، ومن جهة أخرى أفاضوا الكثير من خزائن علومهم على من كان يمتلك استعدادًا لتلقِّيها من أصحابهم الخلَّص(رض)، فحصر ما أُثر عنهم في النَّمط الأوَّل بلا وجهٍ، ويدلُّ على ذلك طوائف من رواياتهم(ع)، منها:
1) ما دلَّ على أنَّ حديثهم صعب مستصعب.
2) ما دلَّ على أنَّ في حديثهم محكمًا ومتشابهًا.
3) ما تحدَّث فعلًا وفقًا للنمط الثاني الذي لبَّى حاجة الخُلَّص، فتعمَّق في بيان خزائن علومهم(ع).
إذن: لا شك أنَّ أحاديثهم(ع) لم تكن على نسق واحد محصور في المخاطبات السطحيَّة العرفيَّة، فلا بدَّ من الشَّخصنة إذن، بمعنى الرُّجوع إلى غير المعصوم لفهم ذلك كلِّه، وعدم الاستقلال بفهمه بلا حجَّة ظاهرة.
ثالثًا: إنَّ التتبُّع يقضي بأنَّ من الرِّوايات ما لوحظ فيه خصوص الرَّاوي بالنِّسبة إلى تحديد مناط الأخذ عنه، بغض النَّظر عن المروي، ومنها ما لوحظ فيه خصوص المروي، بغض النَّظر عن الرَّاوي، ومقتضى الجمع بين الأمرين هو: أنَّ الشَّارع قد اهتمَّ بالأمرين معًا، وهذا ما يلزمنا بنتيجة مفادها: أنَّ التوصُّل إلى رأي أهل البيت(ع) لا يمكن إلا بملاحظة الرَّاوي والمروي معًا، ممَّا يعني حتميَّة شخصنة الدِّين في غير المعصوم، بسبب انحصار الطَّريق -في التوصُّل إلى دين المعصوم- بهذا الطَّريق العقلائي الذي يلحظ خصوصيات الرَّاوي، ولكن بشروط بيَّنوهاi، متى ما اتُّبعت، أخذنا بأقربها احتمالًا لإصابة دينهم(ع)، ومتى ما أُخلَّ بها، فإنَّ نتيجة ذلك هي الابتعاد عن منهجهم، وعن دينهم.
▪ والنَّتيجة
أنَّ ربط الدِّين بأشخاص أهل البيت(ع) في هذا العصر، لا يمكن أن يكون إلا بربطه بوسائط وأشخاص من غير المعصومين(ع)، وهذا هو الطريق العرفيُّ، والفطريُّ، والعقلائيُّ المُمضى من عندهم(ع)، وبهذا يتَّضح بطلان الرأي الأول، وأنَّ النَّظر إلى الفقهاء بعين الطريقية البحتة أمرٌ مخالف للفطرة، والسِّيرة العقلائيَّة، والسيرة المتشرعيَّة، فنبقى حينئذٍ بين أمرين: أن ننظر إليهم بعين الموضوعيَّة فقط. أو أن ننظر إليهم بعين جامعة بين الأمرين.
إنتهی ویلیه الجزء الثاني والأخیر في العدد المستقبل
المصدر: مجلة رسالة القلم، العدد 68