□ مقالة/ الجزء الثالث والأخیر
الحجاب الشّرعيّ تاريخه، حكمه، فلسفته، أدلّته
□ الشيخ منصور إبراهيم الجبيلي
▪ النُّقطة الخامسة: أدلّة لزوم الحجاب
الدَّليل الأوَّل:
آية الجلباب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] (الأحزاب:59).
أوّلاً: سبب نزول الآية ورد "إنَّ النّساء كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسْجِدِ ويُصَلِّينَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ(ص)، وإِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ خَرَجْنَ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ والْعِشَاءِ الْآخِرَةِ والْغَدَاةِ: يَقْعُدُ الشُّبَّانُ لَهُنَّ فِي طَرِيقِهِنَّ فَيُؤْذُونَهُنَّ، ويَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ الْمُؤْمِنِينَ..] إِلَى قَوْلِهِ: [ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً]
ثانياً: بيان معنى الآية وأمَّا معاني المفردات فقد تقدَّم توضيحه في البحث، وبيان المعنى الكلّيّ أنَّه كان نساء العرب قبل الحرائر منهنَّ يلبسن الخمار، ويضربْنه خلف ظهرهن، بحيث تظهر الأقراط، والصّدر، ومقدَّم الرّأس فيكون ما ذكر ظاهراً، وكن يلبسن فوقه جلباباً وهو الثَّوب الواسع الذَّيل، يوضع على الرّأس ويصل إلى الرّكبة تقريباً.
ثالثاً: تقريب الاستدلال بالآية الآية تبيِّن لزوم إدناء الجلباب لا أصل وضع الجلباب؛ باعتبار الأمر بالإدناء للجلباب ولم تأمر بأصل الجلباب. ومن هنا يتبيَّن أن القول بأنَّ المقصود هو أصل لبس الجلباب بعيد؛ لأنَّ الآية كأنَّها تفرض أنَّهنّ يلبسن الجلباب لا أنّهن لا يلبسنه من رأس، بل كنَّ يلبسنه ولكن ولا يدنينه، فالأمر الجديد هو الإدناء لا اللبس، وحمل الإدناء على اللبس خلاف الظَّاهر.
قد يقال: الآية تشير إلى أنَّ الحرائر في الجاهليّة محصَّنات بالنَّظر العرفيّ، لا يجرأ أحد من ضعاف النُّفوس أن يتحرَّش بهن، بخلاف الإماء، فهنا تأمر الآية الحرائر؛ حتَّى يتميَّزن عن الإماء فلا يتحرَّش بهنَّ، فكأنَّ الآية جاءت للتَّفريق، وبما أنَّ في زماننا لا يوجد إماء وجواري، فالهدف والغاية المذكورة في الآية قد ارتفع، فلا يجب إدناء الجلباب.
الجواب: أوّلاً: لا دليل على تقييد الآية الكريمة بالحرائر دون الإماء؛ إذ الآية مطلقة والتَّقييد يحتاج إلى دليل وقرينة، ولا يوجد من ذلك شيء. ثانياً: الآية -كما تقدَّم- تأمر بإدناء الجلباب لا لبس نفس الجلباب، ومن المعروف أنَّ الإماء والجواري كنّ لا يلبسن الجلباب عادة، فالتَّفريق قد كان موجوداً وحاصلًا آنذاك، فكيف تأتي الآية لتحصيل الحاصل! ثالثاً: في تفسير الآية وسبب نزولها قد ذكروا بأنَّه من الأسباب هو التّحرّش بالإماء، فالأوفق هو الخطاب لهنَّ بلبس الجلباب لا أمر الحرائر بإدناء الجلباب، وهذا كاشف عن بعد هذا التَّفسير. فالمناسب أنَّ الآية بحسب السِّياق هي دفع إيذاء النِّساء، وأن تكون النِّساء عفيفات. صحيح أنَّ الخمار غير واجب على الإماء، ولكنَّه مطلوب وراجح شرعاً.
فالمحصَّل: أنَّ الآية تدلُّ على لزوم إدناء الجلباب(الحجاب بالمعنى العرفيّ) لكلّ النِّساء، غايته أنَّ الإماء بدليل آخر غير الآية نستقيد عدم وجوبه عليهنّ مع مطلوبيّته لهن.
إن قلتَ: إنَّ الآية الكريمة لا تدلُّ على حكم إلزاميّ وهو وجوب الحجاب؛ وذلك أنَّ الآية قد صدَّرت بالخطاب للنّبيّ(ص) لا للرّسول، وما كان كذلك فهو تعليم وإرشاد مرحليّ لتدارك مفسدة، نعم لو صدَّرت بالخطاب للرّسول لكان الحكم إلزاميّاً؛ وذلك لأنَّ ما يأتي بعد الرّسول يكون حكماً إلزاميّاً، فلا تدلّ الآية على حكم إلزاميّ.
قلتُ: أوّلاً: لا دليل على هذا التَّفريق المذكور بين الخطاب للنّبيّ والرّسول، مع التّسليم بوجود فرق بين الرّسول والنّبيّ، إلّا أنّه في المقام وفي مثل هذا الخطاب فهو إلزاميّ.
ثانيّاً: ذيل الآية [وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] لا يناسب أن يكون الحكم تعليماً وإرشاداً؛ إذ إنّ مخالفة التّعليم والإرشاد لا يوجب العقاب، فيقال للمخالف إنّ الله غفور رحيم، فالمناسب لذيل الآية هو الحكم الإلزاميّ.
الدَّليل الثَّاني:
(آية الخمار): [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ..] (النور:31).
أوّلاً: سبب النُّزول:
أنَّ النِّساء كنَّ في زمان النَّبيّ، يغطِّين رؤوسهنَّ بالأخمرة (وهي المقانع)، ويسدلنها من وراء الظَّهر، فيبقى النَّحر (أعلى الصّدر) والعنق لا ستر لهما، فأمرت الآية بليّ (أي: إسدال) المؤمنات للخمار على الجيوب، فتضرب الواحدة منهنّ بخمارها على جيبها (أعلى الجلباب)؛ لتستر صدرها.
ثانياً: تقريب الاستدلال بالآية:
1 إنّها تتضمَّن حكماً عامّاً: بأن تغضَّ المؤمنات أبصارهنَّ وأن يحفظن فروجهنّ. وهو حكم يقصد إلى نشر وتأكيد العفَّة بين المؤمنات عموماً. وتفيد أنَّ بعضهن كنَّ يطَّلعن على وجوه الرِّجال. كما تفيد الآية السَّابقة عليها: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ..] (النور:30) أنَّهم كانوا يطَّلعون على وجوه بعض النِّساء.
2 الآية في صدد بيان حكم الزِّينة، التي تكون خفيَّة والتي تكون ظاهرة.
وهنا نقول بشكلٍ مختصر: بأنَّ المعروف بين الفقهاء أنَّ المراد بالزِّينة، هو تمام البدن، وكلُّ ما تضعه المرأة على البدن من زيادات تجملها، فهذه تحرم إلّا ما استثني.
والزِّينة الظّاهرة أو التي يجوز للنِّساء والفتيات إبداؤها، هي الوجه والكفين والكحل والسّوار والأقراط والخواتم على اختلاف بين الفقهاء؛ فبعضهم يحرم حتى إظهار الوجه والكفين، وبعضهم يحرِّم مطلق الزِّينة في الكفين حتى الخاتم، -وكلّ يرجع إلى من يقلّده-؛ والزّينة الخفيّة هي ما عدا ذلك، مثل: الفخذ والصّدر والبطن وغيرها. وهذه لا يجوز أن تبدو إلّا لمن عدَّدتهم الآية، ومنهم: الأزواج، والآباء، والأبناء، وآباء البعول، وأبناء البعول (من زوجات أخرى)، والإخوة، وأبناء الإخوة، أو نسائهن.
وفي هذا الصَّدد فإنَّ على المرأة ألّا تضرب برجلها، أي تضع ساقاً على ساق -كما فسر بعضٌ-، أو لا تضرب بقدمها على الأرض، فيظهر ما يخفى من زينة الفخذ أو غيره، أو ما تضعه من أساور على قدمها.
3 ما ورد في الآية من جملة [..وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ..] لا يعني فرض الخمار (الغطاء) أصلاً وشرعاً -كما تقدَّم في الآية السَّابقة-، لكنَّه يرمي إلى التَّعديل في عادة كانت قائمة وقت نزول الآية، بوضع الخمار ضمن المقانع وإلقائه على الظَّهر، بحيث يبدو الصَّدر وشيء من الرَّقبة والأذنين ومقدَّمة شعر الرَّأس ظاهرين. ومن ثمَّ كان القصد هو تعديل العادة ليوضع الخمار على الجيوب، وكانت الجيوب في ذلك الزَّمان، ولا زالت في هذا الزّمان، توضع على الصَّدر. قوله تعالى [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ]، والمقصود في غير الوجه والكفين، فتدلّ على وجوب ستر تلك المواضع وحرمة كشفها، وحيث إنَّ من الواضح عرفاً أنّه لا موضوعيّة لستر الزّينة، وإنّما هو مقدِّمة لعدم نظر الرَّجل إليها، فتثبت حرمة نظر الرّجل إلى تلك المواضع. ففي صحيحة الفضيل حيث ورد السُّؤال فيها عن الذّراعين من المرأة، هما من الزّينة التي قال اللّه!: [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ]؟ فأجاب(ع)نعم.» فدلَّت على حرمة إبدائهما لغير الزَّوج ومن ذكر في الآية الكريمة.
إن قلتَ: الآية قسَّمت الزّينة، فقالت بجواز الإبداء للظّاهر دون غيره، والظّاهر هو ما أظهره الله كالشّعر والرّقبة والصّدر والبطن والسّاقين، وأمَّا الباطن فهو ما خلقه الله مستوراً وهو الجيوب والجيب هو كلّ فتحة لها طبقتان، فينطبق ذلك على ما بين النّهدين وتحتهما، وتحت الإبطين وما بين الإليتين وغيره، فلا يجب ستر الرّأس.
قلتُ:
أوّلاً: هذا خلاف كلام أهل اللغة، ولم نجد ما ذكر في كلام اللغويّين.
ثانياً: الآية تفرض أنَّ الظّاهر والباطن هما من الزّينة، فهل ما ذكر من الضَّابط والمصاديق التي هي من غير الظّاهر من الزّنية؟
ثالثاً: يلزم التَّكرار في الآية؛ حيث ذكرت الآية: [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ..] ثمَّ يقول: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]، فعلى هذا التَّفسير أنَّ المراد من المقطع الأخير هو النَّهي عن إبداء الزِّينة، فهذا خلاف بلاغة القرآن الكريم.
الدَّليل الثَّالث:
الأخبار الدالَّة على حرمة النَّظر إلى وجه المرأة ويديها، وذلك في الرِّواية المفسِّرة لهذه الآية الكريمة: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ...]، بتقريب أنَّ المقصود من الأمر بغضِّ البصر ترك النَّظر.
ففي معتبرة سعد الإسكاف الواردة في مورد نزول الآية عن أبي جعفر(ع) قال:«استقبلَ شابٌّ من الأنصار امرأةً بالمدينةِ، وكانت النّساء يتقَنَّعْنَ خَلفَ آذانِهِنَّ. فنظرَ إليها وهي مُقبِلةٌ، فلمَّا جازت نَظَر إليها، ودخلَ في الزُّقاق -قد سمّاهُ ببني فلانٍ- فجعل ينظرُ خلْفها، واعترضَ وجهه عظمٌ في الحائط أو زُجاجَةٌ فَشُقَّ وجْهُهُ، فلمَّا مضت المرأةُ نظر فإذا الدِّماءُ تسيلُ على ثَوْبِه وصدره، وقال: واللّه لآتينَّ رسول اللّه(ص) ولأُخبرنَّهُ، فأتاهُ فلمَّا رآهُ رسول اللّه(ص) قال: ما هذا؟ فأخبرهُ، فَهَبَط جبرئيلُ(ع) بهذهِ الآية: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ].
بتقريب أنَّه لولا نظر الشَّابّ الأنصاريّ إلى وجه المرأة ومحاسنها، لم يصر مجذوباً لها لكي يدخل في الزُّقاق، فينشقّ وجههُ باعتراض العظم. وبمقتضى مناسبة مورد نزول الآية لا بدَّ أن يكون المقصود من الأمر بغضِّ البصر إيجاب ترك النَّظر. ويمكن أن يقال: مقتضى إطلاقه حرمة النَّظر إلى جميع بدن المرأة حتَّى الوجه والكفّين. إذن فهي تدلُّ بالأولويَّة القطعيَّة على حرمة النَّظر إلى غيرهما من أعضائها.
الدَّليل الرَّابع:
الرُّوايات الدَّالة على جواز النَّظر إلى شعر المرأة وساقها لمن يريد التَّزويج منها، أو يريد شراء الأمة، كصحيحة محمَّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر(ع) عن الرَّجل يريد أن يتزوَّج المرأة أن ينظر إليها؟ قال: «نعم، إنَّما يشتريها بأغلى الثّمن.» فإنَّ اختصاص الحكم فيها بمريد التَّزويج والشِّراء، يدلُّ بوضوح على الحرمة، إذا لم يكن الرَّجل بصدد الزَّواج منها، أو شرائها.
الدَّليل الخامس:
معتبرة السُّكوني الدَّالة على جواز النَّظر إلى نساء أهل الكتاب، معلِّلة ذلك بأنَّهن لا حرمة لهنَّ، فعن أبي عبد اللّه(ع)، قال:«قال رسول اللّه(ص): لا حرمة لنساء أهل الذِّمّة أن ينظر إلى شعورهنّ وأيديهنّ، فإنَّها تدلُّ على حرمة النّظر إلى المسلمة؛ نظراً إلى كونها محترمة من حيث العرض.
الدَّليل السَّادس:
النُّصوص الدَّالة على جواز النَّظر إلى نساء أهل البادية؛ باعتبار أنَّهنّ لا ينتهين إذا نهين؛ لصحيحة عبَّاد بن صهيب، قال: سمعت أبا عبداللّه(ع) يقول: «لا بأس بالنَّظر إلى رؤوس أهل تهامة، والأعراب، وأهل السّواد والعلوج؛ لأنَّهم إذا نهوا لا ينتهين.» فإنَّ التَّعليل يكشف عن حرمة النَّظر إلى المرأة بحدِّ ذاته، وإنَّ الحكم بالجواز في أهل البادية إنَّما ثبت؛ نتيجة إلغائهنَّ لحرمة أنفسهنَّ، وإلّا فالحكم الأوَّلي فيهن أيضاً هو عدم الجواز.
▪ النُّقطة السَّادسة: الشُّبهات حول الحجاب
الشُّبهة الأولى: الحجاب يمنع المرأة من التَّعلّم والعمل والرّياضة وو..، فيقيدها ويمنعها من التَّقدّم في حياتها.
الجواب: الإسلام حينما فرض الحجاب فقد كرَّم المرأة وحافظ عليها؛ كي لا تتعرَّض للإيذاء من قبل الشَّواذ والفسّاق وضعاف النُّفوس، والحجاب لا نسلِّم أنَّه يمنع المرأة من التَّقدّم في شتَّى المجالات، فقد وصلت كثير من النِّساء المسلمات إلى أعلى المستويات في العلم والعمل وشتَّى المجالات وهنَّ محجَّبات، ولذا نرى كثيراً من النِّساء في عدَّة مجالات كالطَّبّ والتَّدريس والإدارة.
الشُّبهة الثَّانية: المرأة حرَّة فيما تصنع، فلها أن تستر رأسها ولها إلّا تستر، وليس لأحد أن يفرض عليها شيئاً لا تقبله، ولا يوجد إكراه في الدّين [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..] (البقرة:256)، فلمَ تُكرهون المرأة على الحجاب؟
الجواب:
أوّلاً: الإنسان مخلوق من قبل الله تعالى، فالخالق الذي خلقنا له الحقُّ في أن يلزمنا بأي إلزام وليس لنا حقُّ الاعتراض.
ثانياً: نعم الإنسان حرٌّ، ولكنَّ هذه الحرّيّة مقيَّدة بألّا تخالف الحدود الإلهيّة، فعند مخالفة الحدود الإلهيّة يكون الإنسان قد تجاوز حدَّه، فلا بدَّ من تحديد سعة وضيق الحريَّة في مرحلة سابقة بما وضعها لنا سيُّدنا وإلهنا وخالقنا ومالكنا، ثمَّ يأتي الكلام في أنَّه هل الإسلام قيَّدهما أم لا.
ثالثاً: هذا الاستشهاد بالآية غير صحيح؛ فيحتمل أن يكون المعنى هو الإخبار أنَّ دين الإسلام هو دين المنطق والعقل والحكمة، فلا يحتاج إلى إجبار أحد على أن يعتنقه، فكلُّ إنسان إذا أعمل عقله والتفت إلى فطرته يجد عقيدة الإسلام وأحكامه منسجمة مع الطَّبيعة والفطرة والعقل، وبالتّالي يعتنقها باختياره دون إكراه. وهناك نقاش في فهم الحرّيّة العقديّة من هذه الآية، أتركه لمحلّ آخر فهو ليس بحثنا، ويكفي ما ذكرناه.
الشُّبهة الثَّالثة: الفكر الإسلاميّ لا يتناسب مع متطلَّبات الزَّمان والمكان؛ فالحجاب كان في زمن النَّبيّ مناسباً لذلك الزَّمان؛ فذلك الزَّمان لا تعمل المرأة في شتَّى المجالات كاليوم، وأمَّا هذا الزَّمان فالذي يتناسب مع عمل المرأة في شتَّى المجالات هو عدم لزوم الحجاب.
الجواب: من الذي يحدِّد أنَّ هذا هو المناسب أم لا؟ هل هو الذَّوق أم الأهواء؟ فهذه تختلف من شخص إلى شخص، ومن مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان، والحجاب تشريع إلهيّ من قِبَل خالق الكون، وهو سبحانه الأعرف بما يصلح الإنسان وبما يفسده. ثمَّ إنَّا لا نسلِّم عدم مناسبة الحجاب لهذا الزَّمان أو غيره، بل الحجاب مناسب لهذا، وكلُّ زمان وفي شتَّى المجالات.
الشُّبهة الرَّابعة: الحجاب يحول دون إبراز المرأة جمالها، فهو يحجبها ويغطِّي أهمَّ ما في المرأة؟
الجواب:
أوّلاً: لا نسلم أنَّ الحجاب الشّرعيّ يحجب جمالها، وأنَّ جمالها في كشف بدنها.
ثانياً: من قال بأنَّه يجب عليها أن تبرز مفاتنها وجمالها؛ فهي ليست بضاعة.
ثالثاً: وهل جمال البدن هو أهمُّ ما في المرأة؟ نعم، الغرب المتحلِّل يصوِّر لنا المرأة أنَّها بضاعة، ولكنَّ الواقع ليس كذلك، فالجمال جمال الرُّوح أوَّلاً، والبدن يبلي ويفسد شيئاً فشيئاً مع كِبَرها.
الشُّبهة الخامسة: أنا امرأة وليس القرآن حكراً على أحد، فلي حقَّ التَّفسير، ولم أفهم من آيات السِّتر والحجاب أنَّ الحجاب أمرٌ إلزاميّ، فلا يجب عليَّ أن أتستَّر.
الجواب:
أوّلاً: أمّا أنَّ القرآن ليس حكراً على أحد، فإن كان المراد هو القراءة والتَّدبُّر في آياته فنعم، كيف لا وقد قال تعالى: [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ..] (النساء:82)، ولكن لا يمكن التَّدبُّر بلا مفاتيح وآليَّات، ومن الآليات علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وعلم الأصول والرِّجال والفقه، وقد تحتاج إلى الفلسفة وعلم الكلام وغيرها، وفهم روايات أهل البيت(ع)الذين هم أدرى بالذي في القرآن، يحتاج إلى هذه العلوم وغيرها، ولا يمكن للعقل أن يستقل بنفسه في التَّدبر. نعم يمكن التَّدبر في بعض الآيات التي هي مورد اتفاق في فهمها، وليست من المتشابهات. وأمَّا إن كان المقصود هو التَّفسير فما ذكر ليس بصحيح؛ إذ إنَّ التَّفسير كذلك يتوقَّف على عدَّة علوم كعلوم اللغة وعلم الفقه والحديث والرَّجال والأصول وغيرها، وهذه عادة يدرسها بإتقان قليل، فإذا كان المستشكلّ قد درس ذلك وفهم هذه العلم فله أن يفسِّر. وإلّا إذا استند الإنسان إلى عقله فقط، فإنَّه يصدق عليه أنَّه فسَّر القرآن برأيه، والذي قد وردت روايات عن أهل البيت في ذمَّهم.
ثانياً: هذا حكم شرعيّ إلزامي وليس أمراً مباحاً، فكلٌّ يرجع إلى المرجع الذي يكون تقليده مبرئاً لذمته؛ للزوم التَّقليد -كما ثبت في محلِّه- وليست هذه المسألة من المسائل التي يمكن للمكلَّف العمل بها أو تركها باختياره.
الشُّبهة السَّادسة: المهم في الإنسان الطَّيبة والوجه الضَّحوك مع النَّاس، والأخلاق الحسنة، وأنَّ يكون القلبُ نظيفاً، وتكون المعاملة حسنة، ولا يجب الحجاب؛ إذ هو أمر ظاهري لا يكشف عن الباطن. خصوصا إذا كانت خادمة لأهل البيت(ع)، فهذه الخدمة تشفع لها يوم القيامة، فلا تنفِّروها من الخدمة؛ بالطَّلب منها أن تلبس الحجاب.
الجواب:
أوّلاً: المهمّ في حياة الإنسان هو طاعة الله تعالى، واكتساب رضاه وتجنُّب معصيته وغضبه.
ثانياً: لتكن هذه المرأة طيَّبة القلب وغيرها من الصِّفات الحسنة وتكون مع ذلك محجَّبة؛ فلا منافاة، بل الحجاب تكليف لوحده، فقد يجتمع عنوان طيبة القلب والحجاب وقد لا يجتمعان، كما يقال بينهما عموم من وجه، والمطلوب العفاف القلبيّ والظَّاهري بالحجاب.
ثالثاً: خدمة أهل من أعظم القربات، ولكن قد يغالط الإنسان نفسه بالطَّاعة والمعصية في وقت واحد، ويكون أشبه بالمرجئة؛ وكأنَّ الطَّاعة لا تضرُّ معها المعصية، فالخدمة طاعة والسُّفور وعدم ستر الرّأس مع العلم والقصد وعدم العذر معصية، فلا يغالط الإنسان نفسه. ثمَّ أهل البيت(ع)الذين نخدمهم هم من أمرونا بالحجاب للمرأة. وأمَّا تنفيرهن عن الخدمة، فلا معنى لنفرتهنّ أو امتعاضهنّ؛ إذ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تكليف إلهيّ، علَّمنا إيّاه أهل البيت(ع)الّذين نخدمهم، نعم يبقى أن يختار الإنسان الأسلوب المناسب.
الشُّبهة السَّابعة: إذا أراد الله أن يهدي هذه المرأة غير السَّاترة لرأسها، فسوف يهديها في يوم من الأيام، فلا تكلِّفوا أنفسكم بأمرها.
الجواب: الهداية لها أسبابها، فما لم يوفِّر ويهيئ الإنسان الأرضيَّة للهداية فبعيد أن تحصل الهداية، ثمَّ هذا لا ينافي الحكم التَّشريعي والتَّكليف بلزوم الحجاب، فما لم تستر رأسها تكون عاصية، فكيف باستمرارها في المعصية فهل هذا تمهيد لأرضّية الهداية؟
الشُّبهة الثَّامنة: الإنسان لا بدَّ أن يفعل الشَّيء عن قناعة، فما لم يقتنع الإنسان بشيء فلن يفعله برغبة، وما دمتُ لستُ مقتنعة فلن ألبسَ حجابي، إلّا بعد القناعة؛ لكيلا يكون لباسي للحجاب بلا قناعة منّي.
الجواب: الحجاب وستر الرأس ليس أمرا تأتي فيه القناعة، بل حكم شرعيّ إلزاميّ، اقتنع من اقتنع ورفض من رفض، ومتى كانت الأحكام الإلزامية تدور مدار القناعة وعدمها؟ فهل أنَّ العبد إذا أمره سيده ومولاه ومالكه وخالقه لا بدَّ أن يقتنع حتى يتحرَّك؟ وهل الجندي لا يتحرَّك إلا بعد اقتناعه بأوامر قائده؟
الشُّبهة التَّاسعة: بعض النَّساء المتحجِّبات ظاهرهنَّ شيء وباطنهنَّ شيء آخر، فنجد بعض النِّساء متستّرة ظاهراً، والحال أنَّها متكدّرة -إن صحّ التّعبير- وليست بنظيفة في الباطن؛ فتحمل الأحقاد والأضغان، إذن كلُّ المحجبات هكذا، فلا داعي أن ألبسه؛ لأنَّه لن يغير من شخصيّتي.
الجواب:
أوّلاً: نحن لا نعلم ببواطن النَّاس، فينبغي أن نحسن الظّنّ بالآخرين، ولا نتهمهم.
ثانياً: لو سلَّمنا وجود بعض النِّساء عُرفن بذلك، فما يفعلونه في الباطن ليس بصحيح، وحسابهم عند ربِّ العالمين، ولسنا نحن من نحاسبهم.
ثالثاً: من أين هذا التَّعميم؟ فلو ثبت في بعض فمن أين هذا التّعميم لكل المحجّبات؟!
رابعاً: الحجاب حكم شرعيّ إلزاميّ مخاطب به النّساء المكلَّفات، فكلُّ امرأة مكلَّفة بهذا الحكم الشّرعي ولا علاقة لها بالآخرين، ولا علاقة له بالتغيُّر من عدمه، فإذا لم تغيِّر الصَّلاة في الإنسان من جهة النَّهي عن الفحشاء والمنكر فهل يتركها؟ وهل يترك الجندي أمر قائده لأنَّه لم يرَ أثرَ أمرِ قائده؟
الشُّبهة العاشرة: الحجاب وستر الرّأس يبعد الشَّباب عنها، وبالتَّالي يمضي وقت الزَّواج ويفوتها قطار الزَّواج كما يقال، بينما لو كانت غير متسترة، فإنه تكون في معرض نظر الرِّجال، فيتقدَّمون لها لخطبتها والزّواج منها، فلا يفوتها القطار.
الجواب:
أوّلاً: لا علاقة ولا ملازمة بين خطبة المرأة والحجاب؛ فإذا كان لها نصيب ورزق ستحصل عليه، حتَّى لو كان في قاع البحر، كثير من المؤمنات لا يخرجن من بيوتهنَّ، ومع ذلك تزوَّجن وعشن حياةً سعيدة مستقرِّة.
ثانياً: هذا الكلام مبني على نظرة خاطئة للمرأة، وأنَّها سلعة وبضاعة، وهذا خلاف نظرة الإسلام للمرأة وأنَّها جوهرة مصانة.
▪ خاتمة
مسألة الحجاب وستر المرأة للرّأس هي من المسائل الضّروريّة الواضحة، التي لا يتطرَّق إليها الشَّكّ، ولزوم الحجاب هو حكم شرعي إلهيّ وراءه مصلحة شديدة، بحيث يكون ترك هذه الفريضة موجباً لخسران هذه المصلحة، وموجباً لحصول المفسدة العظيمة. فعلى المرأة المسلمة أن تفتخر بحجابها الشَّرعيّ، والذي هو شرف وفخر لها وفيه تكاملها، ولا تصغي لما يطرح من شبهات ووساوس، من قبل من يدَّعي الدِّفاع عن المرأة، وهو لا يريد الخير لها، تحت عناوين برَّاقة لامعة تغري. فينبغي ألّا نحيد عن الحكم الشَّرعيّ والتَّكليف الإلهيّ قيد أنملة، ففي السَّير على خطِّ القرآن والعترة والفقهاء الفلاح والسَّعادة في الدَّارين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة رسالة القلم