□ مقالة/ الجزء الثاني
تاريخُ المرجعيَّة ونيابتها عن الإمام(عج) في زمن الغيبة
□ الشيخ جاسم الوائلي
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
لقد بحثنا في الجزء الأول من هذه المقالة، عن المقام الأول من المقامات الثلاثة التي بناها الکاتب للمقالة، لتفصیل الکلام في إثبات قدم مرجعیة الفقیه تأریخیا ومعاصرتها للإمامة وعصر المعصومین(ع) وهو «قدم المرجعیة حسب نصوص المعصومین(ع)»، وفي هذا الجزء نقدم لکم المقام الثاني والثالث من هذا التفصیل.
▪ المقام الثاني: قِدَمُ المرجعيّة حسب كلمات الأعلام
ولنعطف الكلام إلى ما قاله رجاليُّوا الطائفة في حقِّ جماعة من الرواة عن الأئمة(ع)، مما يدلُّ على أنهم كانوا مراجع للشيعة في عصور الأئمة(ع)، وإليك بعض كلماتهم في حقِّ بعض الرُّواة ممن يغنى ذكرهم عن ذكر من سواهم:
١. ما جاء في رجال الكشي تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله(ع)) من قوله: (أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر(ع) وأبي عبد الله(ع) وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستَّة زرارةُ، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري).
٢. وقال تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله(ع)): (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم لما يقولون، وأقرُّوا لهم بالفقه، من دون أولئك الستّة الذين عددناهم وسمَّيناهم، ستة نفر: جميل بن درّاج، وعبد الله بن مُسكان، وعبد الله بن بكير، وحمَّاد بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه - يعني ثعلبة بن ميمون - أنَّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله(ع)).
٣. وقال تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا(ع)): (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم، وأقرُّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستّة نفر أُخر دون الستّة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله(ع)، منهم: يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيَّاع السَّابريّ، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب: الحسن بن عليّ بن فضَّال، وفُضالة بن أيُّوب، وقال بعضهم مكان ابن فضَّال: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى).
ومن المعلوم أنّ هؤلاء المذكورين في العبارات الثلاثة للكشي(رح) لو لم يكونوا مراجع تفزع الشيعة إليهم في زمن الأئمّة(ع) فلا معنى لقول المجمعين بأن الأصحاب انقادوا لهؤلاء الثمانية عشر وأقرُّوا لهم بالفقه والعلم.
٤. ما ذكره النجاشيُّ في ترجمة أبان بن تغلب، من قوله(رح): وقال له أبو جعفر(ع): «اجلس في مسجد المدينة وأَفتِ الناسَ، فإنّي أحبُّ أن يُرى في شيعتي مثلُك». ولعمري إن الأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح، وفي هذا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأمّا مرضى القلوب ومن قبلهم النّواصب فلا حرص لنا على إقناعهم.
المقام الثالث: قِدَمُ المرجعية حسب دليل العقل:
إن قدم المرجعية أمر لا يحتاج في إثباته إلى نصٍّ، فإنه مما تقتضيه طبيعة الحال، بل هو أمر لا بدَّ منه، إذ لا يمكن للمكلَّفين - بأيَّة حال - تحصيل العلم بمعظم الأحكام الشرعية إلّا من خلال الرجوع إلى العالمين بها.
وبيان ذلك يتمُّ بتقديم ثلاث مقدمات بديهيّة:
الأولى: إن كلَّ مسلم يعلم بوجود تكاليف شرعيّة يجب عليه إحرازُ امتثالها.
الثانية: إن إحراز امتثالها يتوقَّف على العلم بها.
الثالثة: إن الأحكام الشرعية منها ما هو واضح ومعلوم لكلّ مسلم، وهو أقلُّ القليل من الأحكام، كوجوب الفرائض اليومية، واستحباب صلاة الليل، وحرمة قتل النفس المحترمة، والزّنا، وشرب الخمر، وأمّا القسم الأعظم منها فيتوقَّف العلم به على عملية الاستنباط، ويعبَّر عن هذا القسم بالأحكام الاجتهادية، ومعه فلا يمكن تحصيل العلم بها لغير الفقهاء والمجتهدين.
هذه ثلاث مقدّمات لا كلام فيها بعد بداهتها.
ونتيجتها الحتميّة: أن إحراز امتثال التكاليف الاجتهادية يتوقَّف على أحد طرق ثلاثة:
١. الاجتهاد.
٢. التقليد لمن بلغ رتبة الاجتهاد.
٣. الاحتياط، وهو طريق وقع الخلاف في مشروعيّته.
والطريق الممكن للسَّواد الأعظم من المكلَّفين هو الثاني دون غيره.
أمّا الطريق الأوَّل فيتوقَّف على بلوغ المكلَّف رتبة الاجتهاد والاستنباط، وهي رتبة لا يمكن تحصيلها لكلّ أحد، بل لا يمكن في العادة أن يتفرَّغ لتحصيلها إلّا أقلُّ القليل ممن يمكنهم تحصيلها، ولذا تجد أن عدد الفقهاء في كلِّ عصر قليلٌ جدّاً بالقياس إلى عدد المكلّفين في ذلك العصر.
وما ذلك إلّا لما تقتضيه طبيعة الحال، فإنها تقتضي أن ينصرف معظم الناس إلى شؤونهم الحياتية، فينصرف التُّجار إلى مواضع تجاراتهم، والموظَّفون إلى وظائفهم، والمزارعون إلى مزارعهم، والعُمَّال والحرفيُّون إلى أماكن عملهم، والكَسَبَة إلى مصادر كسبهم، والمعلِّمون والطلبة إلى مدارسهم، والأطباء والممرضون إلى مستشفياتهم، وربّات البيوت إلى إدارة شؤون أسرهنَّ، ورجال الجيش والأمن إلى ثكناتهم، وهكذا.
وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة آنفة الذكر: [وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] (التوبة: ١٢٢)، أي: ليس لهم أن ينفروا جميعاً إلى المدينة لتحصيل الفقه بالأحكام الشرعية وغيرها من أمور الدين من النبي الأكرم(ص)، بل يكفي أن ينفر إليها من كلِّ بلدة أو قرية جماعة لتحصيل ذلك، ثم تقوم هذه الجماعة بدورها بنقل ما حصَّلته إلى أهل ناحيتهم وسُكّان بلدتهم.
ومن هنا يتضح لك جليّاً أن مفاد الآية الكريمة هو الإرشاد إلى ما تقدَّم من حكم العقل، وليس مفادها حكماً مولويّاً تأسيسيّاً كما قد يُتوهَّم.
وأمّا الطريق الثالث - أعني الاحتياط - فمضافاً إلى وقوع الخلاف في مشروعيَّته هو متعسِّر على العوامِّ، بل مستحيل في العادة.
توضيحه: أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد لو أراد إحراز امتثال التكاليف من غير طريق التقليد فعليه أن يكون محيطاً بجميع آيات وروايات الأحكام المبيِّنة لتلك التكاليف، مضافاً إلى الإحاطة بجميع المسائل الخلافية بين الفقهاء، ثمَّ يلاحظ في كلِّ مسألة ما هو الأحوط فيها بحسب ما لاحظه من نصوص الكتاب العزيز والروايات الشريفة وكلمات الفقهاء.
ومن المعلوم أن الإحاطة بذلك كلِّه تحتاج إلى تحصيل علميٍّ عالٍ يقرب من تحصيل رتبة الاجتهاد، والمفروض أن كلامنا في السَّواد الأعظم من المكلَّفين المنصرفين إلى حياتهم كما ألمحنا.
هذا كلُّه فيمن يجيد قراءة النصوص وكلمات الأعلام بأقلِّ مستوى مقبول، وأما من لم يكن كذلك وهم الأكثر فلا سبيل لهم إلّا التقليد، فضلاً عن الأميِّين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وفي حكمهم الأعاجم الذين لا يجيدون العربية أو لا يعرفونها أصلاً.
هذا كلُّه في الموارد التي يمكن فيها الاحتياط، وأمّا التي يكون مستحيلاً فيها - كموارد الدوران بين المحذورين كالدوران بين وجوب فعل وحرمته - فينحصر طريق الامتثال فيها بالاجتهاد والتقليد، وحيث إن الكلام في غير المجتهدين فيتعيَّن عليهم التقليد ولا سبيل لهم غيره.
والمتحصّل مما تقدَّم: أن مرجعيّة الفقهاء لغيرهم من المكلَّفين أمر قديم بقِدَم الإسلام، ولا أقلَّ بقِدَم الإمامة ولو في عهد الإمامين الباقرين(س)، وأنها ليست حالة طارئة اقتضتها غيبة المعصوم(ع) كما يتوهَّم ذلك كثير من الناس، كما أنه أمرٌّ لا بُدَّ للعوامِّ منه في تحصيل تكاليفهم الاجتهادية.
▪ الحلقة الثانية: حقيقة المرجعيّة ونيابة الفقيه عن المعصوم(ع)
لا كلام في أن المكلّفين في زمن الغيبة الصغرى كانوا يرجعون إلى الوكلاء الذين أمر المعصومون(ع) بالرجوع إليهم، ولذا فقد تمثَّلت المرجعيّة آنذاك بهم، ويصطلح عليهم بالنوَّاب الخاصِّين، لنصِّ المعصوم(ع) عليهم بأعيانهم وأسمائهم، أوَّلهم: عثمان بن سعيد العَمْري الزَّيّات، ثمَّ من بعده ابنه محمد بن عثمان الخَلاني، ثمّ من بعده الحسين بن روح النَّوبختي، ثمّ من بعده عليُّ بن محمد السَّمَري، والذي بموته انقطعت السّفارة والنّيابة الخاصّة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وأمّا في زمن الغيبة الكبرى فلا شكَّ في أن الحاجة إلى المراجع تكون أشدّ وأكبر كما اتَّضح مما سبق، وليس ثمّة من يليق بهذا المقام الخطير إلّا الفقهاء العدول، ويصطلح عليهم بالنوَّاب العامِّين، لأنَّ المعصوم(ع) لم ينصَّ عليهم بأسمائهم، بل بأوصافٍ تصدق على العديد منهم في كلّ زمان، وأعطى ضابطة عامّة في ذلك، فمن توفّرت فيه جاز الرجوع إليه، كما في قوله(ع): «... فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه...».
والوجه في ذلك: أن التشريع لم يجعل لزمان دون زمان، بل أريد له أن يبقى إلى آخر الدنيا، ومن المعلوم أن الأحوال والوقائع في تغيُّر دائم وتطوَّر مستمرّ في الوسائل والأدوات والعلوم والفنون والمعاملات، وغير ذلك ممَّا يدعو إلى ضرورة معرفة الموقف الشرعي منها، وهو ما أشار إليه(ع) في الرّواية الرابعة من الروايات المتقدّمة: «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»، وحيث إن معرفة أحكام تلك الوقائع تتوقَّف على استنباطها من مصادر التشريع - أعني: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل - فانحصر تحصيلها بالفقيه، لأنه هو وحده من له القدرة على استنباط الأحكام من تلك المصادر.
وفي حال لم يجد الفقيه حكمها في شيءٍ من تلك المصادر فلابد من تحديد الموقف الشرعي من طرق أخرى، وهنا تكون الحاجة إلى الفقيه أشدَّ منها في الموارد التي يمكن له أن يستنبط حكمها من تلك المصادر، فيرجع إلى قواعد ثبت لديه بالدليل وجوب الرجوع إليها في تلك الحالة، كقاعدة البراءة، والاستصحاب، والتخيير، والاشتغال، وغيرها من القواعد. ولا يمكن لأي شخص أن يفتي استناداً إلى تلك الأدلّة أو القواعد ما لم يكن قد قطع شوطاً بعيداً وزمناً طويلاً في دراسة جملة علوم لا يمكنه الوصول إلى مرتبة الاجتهاد إلّا بالغوص في أعماقها وسبر أغوارها واستيعابها وهضمها جيداً نظريّاً ثمَّ تطبيقيّاً، ولذا تجد كثيراً من طلبة العلوم الحوزوية لا يتمكّنون من الوصول إلى هذه المرتبة، الأمر الذي يكشف عن مدى دقّتها وصعوبتها ووعورة طريقها.
وتشتدُّ الحاجة إلى الفقيه أكثر فأكثر في المسائل المرتبطة بالدماء والأعراض والأموال. ولا ينبغي أن ننسى في هذا المجال باب القضاء، والذي يحتاج إلى مرتبة عالية جداً من العلم والفقاهة.
كما لا يخفى اشتداد الحاجة بشكل مضاعف لو قلنا بثبوت الولاية للفقيه في إدارة البلاد في هذه الأجواء الخطيرة والغارقة في السياسات الدولية المعقّدة والمخادعة، والتي تتطلَّب من الفقيه - زيادة على الإحاطة بالعلوم الحوزويّة- أن يكون له اطّلاع واسع على السياسة والقوانين الدولية، ولو من خلال الاستعانة بالخبراء والمستشارين الثقات في هذا المجال.
ومن هذا كلّه يتَّضح ما للمرجعيّة من مكانة خطيرة ومنزلة تساوق مقام الإمامة بالمعنى الأعمّ، فإنّ الإمامة بالمعنى الأعمّ تعني القيادة، وهي إمّا تؤدّي بالأتباع إلى الجنة وتلك هي إمامة أئمّة الهدى، وإمّا تؤدّي بهم إلى جهنّم، وتلك هي إمامة أئمة النار، وحيث إن إمامة الفقهاء العدول امتدادٌ لإمامة المعصومين(ع) الذين هم أئمّة الهدى - كما يستفاد من بعض النصوص المتقدّمة لا سيما قوله(ع): «فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» - فتكون إمامتهم إمامة هدى أيضاً، وأمّا غير الفقهاء أو الفقهاء المنحرفون فحيث لم يكونوا من أئمة الهدى فلابد أن يكونوا من أئمّة النار، لعدم التوسُّط بين الإمامتين.
والحاصل: أن المرجعيّة - حقيقةً - هي الظهير والداعم للإمامة في زمن الحضور، وهي الامتداد لها في زمن الغيبة ولو برتبة نازلة.
ومنه يتّضح ما هو مقامها ومكانتها عند الإماميّة، وكونها تالية الإمامة الكبرى، كما أن الإمامة تالية النبوَّة، من غير مبالغة ولا غلوٍّ في أي شيءٍ من ذلك ألبتة.
▪ الخاتمة: مرجعية الفقيه أمر غنيٌّ عن الدليل النقلي
ينبغي أن لا نغفل عمّا قدَّمناه في المقام الثالث من الحلقة الأولى من أنَّ الحاجة إلى الفقيه أمر تقتضيه طبيعة الحال، وليس أمراً مستفاداً من النصوص إلّا بنحو الإرشاد إلى حكم العقل.
ومن هنا تعرف أننا لا نعير كثير أهميّة لتصحيح أسانيد بعض الرّوايات المتقدّمة، ومعه فلا يشكل علينا بأن أسانيد بعضها ضعيف.
نعم، يمكن أن تشكّل بمجموعها دليلاً قطعيّاً، لاجتماعها على لازم واحد مشترك بينها بحيث يكون أمراً متواتراً تواتراً إجماليّاً، ألا وهو مشروعيَّة الرجوع إلى الفقهاء في جميع العصور لمن لم يكن فقيهاً.
فإن لم تبلغ بمجموعها رتبة الدليل فهي تصلح مؤيّداً لما ذكرنا.
وعلى جميع التقادير يكفينا دليل العقل القطعي المتقدّم والذي لا ينكره إلّا جاهل أو مكابر أو متكبّر.
والحمد لله تعالى أولاً وآخراً، وله الشكر باطناً وظاهراً، وصلواته على عباده الذين اصطفى، محمد وعترته خير الورى، ورضوانه ورحمته على أمنائهم على الحلال والحرام فقهاء الأمّة العدول، ومعتمدي الأئمة الأطهار من آل الرسول(ص).
المصدر: مجلة الموعود، القسم: العدد ٧/ جمادي الآخر/١٤٤٠ه