مقالة
الإسلام في زمن العولمة: وعد إلهي يفرض كلمته في نهاية المطاف (تیتر روی تصویر کار بشه)
م د الشيخ حسين التميمي.
إن الإسلام دين الله الخاتم، لم يكن مشروعًا بشريًا أو حركة تاريخية محدودة الزمان، بل هو المنظومة التي أرادها الله لتكون كلمة الحق العليا على مرّ العصور. لقد مرّ الإسلام بمراحل عديدة من التحدي والصراع مع الجاهليات المتكررة، من مكة إلى المدينة، ومن صراع الفكرة إلى صراع الحضارة، لكنه في كل مرة كان يثبت أنه الدين الذي يحمل سرّ البقاء، وأنّ وعد الله قائم لا يتبدد: "أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة: 22). هذه الآية ليست جملة تاريخية، بل قانون إلهي يتجدد في كل زمان، يختصر المسار البشري كله في مواجهة بين حزب الله وحزب الشيطان، بين مشروع العدالة ومشروع الطغيان، بين الإيمان والمصلحة.
ومنذ بزوغ الإسلام، كان واضحًا أنّه ليس مجرد دين تعبدي، بل مشروع حضاري شامل، يصوغ الإنسان ويهذب المجتمع ويؤسس للعدالة في الأرض. وعندما واجه النبي محمد(ص) قوى الشرك في مكة، لم يكن يواجه أفرادًا فحسب، بل منظومة فكرية واقتصادية وسياسية متجذرة في الظلم والتمييز. ورغم ضعف الإمكانات وقلة الأنصار، انتصر الإسلام لأنّ الله وعد بالنصر لمن نصره، كما قال تعالى: "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7). فكان النصر وعدًا لا يتخلف، يتحقق كلما تحقق الإيمان الصادق والعمل المخلص.
واليوم، في ظل العولمة المادية والانهيار القيمي الذي تعيشه الإنسانية، يعود الإسلام من جديد ليؤكد حضوره العالمي لا من خلال السيف، بل من خلال العقل والإقناع والروح، ومن خلال صموده أمام العواصف الفكرية والسياسية التي أرادت طمسه. فقد حاولت قوى كثيرة بعد الاستعمار أن تفصل الدين عن الحياة، وأن تُحوِّل الإسلام إلى مجرد طقوس فردية لا تتدخل في النظام الاجتماعي والسياسي، لكن الواقع المعاصر أثبت أن الإسلام ما زال يمتلك القدرة على تجديد ذاته، وعلى فرض كلمته في ساحة الفكر والحضارة.
ولم يعد الإسلام اليوم يواجه جيوشًا غازية كما في الماضي، بل يواجه حملات إعلامية وفكرية وثقافية تريد أن تحصره في زاوية ضيقة وتقدمه على أنه سبب التخلف، لكن المفارقة أن هذه الحملات نفسها ساهمت في إحياء التساؤل العالمي حوله. فالعالم المتعب من الأيديولوجيات المادية بدأ يبحث عن معنى، عن روح، عن توازن بين العلم والإيمان، فوجد في الإسلام أجوبة عميقة ومتزنة، تُعيد للإنسان هويته المفقودة.
وإن وعد الله بانتصار الإسلام لا يعني فقط الغلبة العسكرية، بل يعني غلبة الفكرة والمبدأ والقيم. فقد يضعف المسلمون، وقد تتراجع مجتمعاتهم في مراحل معينة، لكن الإسلام كفكرة باقية تتحدى الزمن. وما نراه اليوم من انتشار الإسلام في الغرب والشرق، ومن إقبال الملايين على معرفته رغم التشويه، هو دليل أن هذا الدين يحمل من القوة الذاتية ما يجعله يتغلغل في أعماق الإنسان مهما حاولوا حجبه. هذه القوة ليست قوة المال أو الإعلام، بل قوة الحقيقة، فالحقيقة لا تموت وإن خفت صوتها مؤقتًا.
وفي عصر التكنولوجيا وعلى رغم وجود الذكاء الاصطناعي، يبدو الإسلام أكثر حيوية من أي وقت مضى. بينما يعاني الغرب من أزمات أخلاقية عميقة، تتفكك فيها الأسرة وتضعف فيها الروابط الإنسانية، يقدّم الإسلام منظومة متكاملة تحفظ الكرامة وتعيد التوازن بين الفرد والمجتمع. لقد أصبحت القيم الإسلامية مثل العدالة والرحمة والعفة واحترام الإنسان موضوعًا للدراسة في جامعات غير إسلامية، لأن العالم بدأ يدرك أن الحداثة المادية وحدها لا تكفي لبناء سعادة الإنسان.
وإنّ وعد الله بانتصار الإسلام في آخر المطاف لا يتحقق بالعصبية أو الصدام الأعمى، بل بتحقق شروطه: الإخلاص، الوعي، الوحدة، والتمسك بالقرآن والعترة. فالإسلام لا يُفرض بالقوة، وإنما يفرض كلمته بالقوة الأخلاقية والروحية والفكرية. وهذا ما عبّر عنه الإمام السجاد(ع) حين قال: " أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلّا اللّه " الإمام الحسين عليه السلام" 2/77. هذه المهمة مستمرة في الأمة، لأن الإسلام دين حيّ لا يموت بموت رجاله.
وفي ضوء الأحداث المعاصرة، يتضح أنّ الإسلام يفرض نفسه ليس من خلال السيطرة السياسية فقط، بل من خلال قدرته على الصمود أمام التحديات الفكرية الكبرى. فكلما ظهرت نظرية أو فلسفة جديدة تحاول تفسير الوجود بعيدًا عن الله، ينهار بنيانها أمام بساطة الإسلام وعمق منطقه. فالإسلام لا يصطدم بالعقل، بل يخاطبه ويهديه، لا يعادي العلم، بل يحث عليه، لا يكره الآخر، بل يدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذه المرونة هي سرّ بقاء الإسلام في كل زمان ومكان.
ولقد أخبر القرآن الكريم عن هذه السنة الإلهية بوضوح: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة:32). هذه الآية ليست وعدًا غيبياً فحسب، بل قراءة دقيقة للتاريخ البشري، إذ مهما اشتدت المؤامرات وتكاثرت الوسائل، يبقى النور الإلهي هو الأعلى. فالإسلام لا ينتصر فقط حين تفتح البلدان، بل حين تفتح القلوب، ولا يفرض كلمته حين يُرفع السيف، بل حين تُرفع القيم ويُرفع الوعي.
ومن هنا، يمكن القول إنّ انتصار الإسلام في نهاية المطاف هو انتصار المنهج الإلهي على الفكر المادي، انتصار الرحمة على العنف، والعقل على الهوى، والعدل على الاستكبار. وهذا الوعد الإلهي سيتجسد بأتم صوره في زمن الظهور المهدوي، حيث تمتد العدالة لتشمل الأرض كلها، كما ورد في الحديث الشريف: "يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا." بحار الإنوار: 51/74. وهذا ليس خيالًا ميتافيزيقيًا، بل استكمال للمسار الطبيعي لحركة التاريخ التي يقودها الله نحو الكمال.
وإنّ كل ما نراه من اضطرابات في العالم ليس إلا مقدمات لهذا التحول الكبير. فالطغيان حين يشتدّ، يخلق مقاومته، والظلم حين يبلغ ذروته، يهيئ الأرض لعدالة قادمة. وهكذا تتجه البشرية اليوم رغم ضلالها الظاهري نحو لحظة وعي، لحظة إدراك أن الإسلام ليس خصمًا للحضارة بل خلاصها.
وحين يتحقق وعد الله، لن يكون انتصار الإسلام في شكل دولة فقط، بل في سيادة قيمه في الوعي الإنساني، حين تصبح العدالة والرحمة والمساواة ثقافة عامة. فالإسلام في جوهره ليس راية قوم أو مذهب، بل مشروع رباني لإحياء الإنسان. لذا قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (الصف: 9).
وفي نهاية المطاف، حين ننظر إلى مسيرة التاريخ، نجد أن كل القوى التي حاربت الإسلام زالت، بينما بقي الإسلام متجددًا ومتوهجًا. هذه ليست مصادفة، بل هي البرهان على أن الإسلام ليس فكرة بشرية قابلة للزوال، بل هو كلمة الله التي لا تبلى، نوره الذي لا يُطفأ، وعده الذي لا يُخلف. وسواء أكان هذا الانتصار قريبًا أم مؤجلًا، فإن المؤمن يعيش على يقين أنّه قادم لا محالة، لأنّ الله وعد، ووعد الله حق:"أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة: 22).
برچسب ها :
ارسال دیدگاه




