
مقالة
النصر المؤجَّل للإسلام: المؤمنون وصناعة زمن الظهور
إنّ مسيرة الإسلام منذ انبثاقها مع بعثة النبي الأكرم (ص) إلى يومنا هذا تكشف عن حقيقة راسخة، وهي أن النصر ليس حدثًا آنيًا يُقاس بنتيجة معركة أو موقف سياسي، بل هو مسار تاريخي ممتد تحكمه سنن إلهية عميقة. هذه الحقيقة تجلّت في كل المراحل التي مرّت بها الأمة الإسلامية، حيث واجهت التحديات والانكسارات، لكنها لم تذُب ولم تَنتهِ، بل استمرت قادرة على النهوض وإعادة صياغة نفسها. ومن هنا تنبع فكرة "النصر المؤجَّل"، أي أن الغلبة الحقيقية للإسلام ليست آنية ولا جزئية، بل هي وعدٌ إلهي بالتحقق الكامل في الزمن الذي تكتمل فيه شروط العدل الإلهي، وهو زمن ظهور الإمام المهدي (عج).
وفي التجربة النبوية نرى أن الإسلام لم يُمنح النصر دفعة واحدة، بل انطلق ضعيفًا، محاصرًا، يعاني من القلّة والاضطهاد. المؤمنون الأوائل كانوا يواجهون أشدّ ألوان التعذيب، وحوصر النبي وأصحابه في شعب أبي طالب، واضطر إلى الهجرة من مكة إلى المدينة. ومع ذلك لم تكن هذه المرحلة هزيمة، بل كانت تمهيدًا لصياغة مجتمع إيماني جديد، وإعدادًا لنصر مؤجَّل تحقّق لاحقًا بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا. لقد علّمنا النبي أن النصر لا يُختصر في الغلبة العسكرية، بل هو تراكم وعي وإعداد أرضية تُثمر في الوقت الذي يشاء الله.
وعندما نتأمل نهضة الإمام الحسين (ع)، ندرك بعمق هذا المعنى. فالمشهد في كربلاء بدا ظاهريًا وكأن يزيد هو المنتصر، لكن الحقيقة أن النصر الحسيني كان مؤجَّلًا، لأنه تحوّل إلى ثورة قيمية وأخلاقية خالدة. لقد انقضت معركة كربلاء في ساعات، لكنها ولّدت مشروعًا ممتدًا عبر القرون، مشروعًا يصوغ الوعي ويُحيي روح المقاومة ويُعلّم الأجيال أن الدم ينتصر على السيف ولو بعد حين. ومن هنا فإن كربلاء كانت نموذجًا صريحًا للنصر المؤجَّل، الذي يظهر أثره في وجدان الأمة كلما واجهت ظلمًا أو استبدادًا.
وإذا انتقلنا إلى حاضرنا، نجد أن الإسلام يواجه تحديات مركّبة: استلاب فكري، تشويه إعلامي، أنظمة استبدادية، وتيارات متطرفة تحاول سرقة اسمه لتشويه صورته. قد يظنّ البعض أن الإسلام اليوم في تراجع أمام العولمة والقوى المهيمنة، لكن القراءة المتأنية تكشف أن هناك مسارًا آخر يتكوّن بهدوء. فالوعي الشبابي يتجه أكثر فأكثر نحو البحث عن الهوية والمرجعية الروحية، والمجتمعات التي جُرِّبت فيها النظريات المادية أو الليبرالية المتطرفة باتت تتطلع إلى قيم العدالة والكرامة التي يمثلها الإسلام. هذا التحول ليس نصرًا سريعًا، لكنه علامة على نصر مؤجَّل يتشكل في العقول والقلوب قبل أن يظهر في الواقع السياسي والاجتماعي.
وإنّ المؤمنين في كل هذه المراحل هم الفاعل الأساسي في صناعة هذا النصر. فالله تعالى حينما قال: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128]، لم يكن يخاطب الناس خطابًا قدريًا جامدًا، بل كان يربط تحقق النصر بصفاء الإيمان وصدق الموقف. المؤمنون هم الذين يزرعون البذور بالصبر والتضحية والعمل الصالح، وهم الذين يحمون الرسالة من الانحراف ويحملونها إلى الأجيال التالية. النصر المؤجَّل إذن ليس غيابًا ولا تأجيلًا سلبيًا، بل هو مشروع يُبنى على أكتاف المؤمنين، ويتحقق بجهودهم مهما طال الزمن.
وما يزيد هذه الرؤية وضوحًا هو ارتباط النصر المؤجَّل بالوعد الإلهي بظهور الإمام المهدي (عج). إن فكرة الإمام المهدي تمثل ذروة الأمل الإنساني في العدالة والكرامة، وتجسيدًا لوعد الله بأن الأرض يرثها عباده الصالحون. الظهور ليس حدثًا مفاجئًا معزولًا، بل هو تتويج لمسار طويل من التمهيد الذي يقوم به المؤمنون عبر التاريخ. إن بناء الوعي، ومقاومة الفساد، وحماية القيم، وصناعة المجتمعات الواعية، كلها أشكال من التمهيد لهذا الظهور المبارك. ومن هنا فإن كل جهد يقوم به المؤمن في ميدانه، سواء كان جهدًا علميًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا أو تربويًا، يدخل في سياق صناعة النصر المؤجَّل الذي يكتمل في زمن الظهور.
ولقد أكدت الروايات أن المؤمنين في عصر الغيبة الكبرى ليسوا مجرد منتظرين سلبيين، بل هم فاعلون في صياغة الأرضية لليوم الموعود. ففي الحديث الشريف: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»، وهذا الانتظار ليس قعودًا ولا استسلامًا، بل هو حركة مستمرة تعني بناء الذات والمجتمع، والتمسك بالقيم، ورفض الاستبداد والظلم، لأن زمن الظهور لا يأتي في فراغ، بل يحتاج إلى أمة مستعدة، وشعوب واعية، ومؤمنين يملكون من الصلابة ما يجعلهم جنودًا أوفياء للإمام حين يُعلن رايته.
والنصر المؤجَّل للإسلام إذن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمؤمنين وبمشروع الظهور المهدوي. فالمؤمنون هم الذين يحافظون على جذوة الأمل مشتعلة، وهم الذين يربطون الماضي بالحاضر والمستقبل، فيرون في انتصارات النبي والوصي، وفي دماء كربلاء، وفي تضحيات الصالحين، إشارات إلى أن وعد الله لا يتخلف.
وكلما ازدادت التحديات والضغوط، كلما ازدادت مسؤولية المؤمنين في الثبات والتمهيد، حتى يتحقق الوعد الكبير الذي بشّرت به الأنبياء والأوصياء، ويملأ الإمام المهدي الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا.
وفي عالم مضطرب كالذي نعيشه اليوم، حيث تتكاثر الأزمات الاقتصادية والسياسية والفكرية، تزداد الحاجة إلى هذا المفهوم. النصر قد يتأخر، لكنه ليس غائبًا، بل هو قادم في موعده الذي يحدده الله. وما على المؤمنين إلا أن يجعلوا من حاضرهم أرضية لذلك المستقبل، بأن يعيشوا قيم العدالة في سلوكهم، وقيم الرحمة في مجتمعاتهم، وقيم الصمود في مواقفهم. فالنصر المؤجَّل لا يُبنى على الأمنيات، بل على العمل والإيمان، وعلى وعيٍ عميق بأن الزمن الإلهي يسير وفق حكمته، لا وفق استعجال البشر.
وهكذا يتضح أن النصر المؤجَّل للإسلام ليس خسارة مؤقتة، بل هو وعد ممتد، ومسار متراكم، ومسؤولية يتحملها المؤمنون جيلاً بعد جيل. وفي النهاية، سيُعلن الإمام المهدي (عج) لحظة اكتمال هذا النصر، حينما تتهيأ الأرضية البشرية والروحية لذلك، ليكون ظهوره خاتمة لمسيرة طويلة من التضحيات، وميلادًا لزمن العدالة الإلهية الذي انتظرته البشرية عبر العصور. وهذا هو المعنى الأعمق لقول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
م د الشيخ حسين التميمي
برچسب ها :
ارسال دیدگاه