مقالة / الجزء الأول
الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي
محمّد علي آذرشب
ملخّص
مرتضى مطهّري من الإحيائيين الذين اهتمّوا باستئناف الحركة الحضارية لهذه الأمة، وكان اهتمامه الأول في عملية الإحياء الساحة الفكرية، لأن هذه الساحة كانت مستهدفة أكثر من غيرها في إيران. فهذا البلد عاش غزوا ثقافياً غربياً منذ مطلع القرن الثامن عشر، ولذلك شمّر عن ساعد الجدّ لخوض مواجهة وتأسيس في ساحة المعرفة والمفاهيم والعادات والوعي النخبوي والجماهيري، لكنه مع ذلك لم ينس الدور الذي يجب أن ينهض به المفكر في ساحة الدفاع عن المظلومين في المجتمع.
العودة إلى الحياة الإسلامية تبدأ من العودة إلى المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وتطهير الأفكار والنفوس مما علق بها من انحراف. هذا هو الأساس الذي تبنّاه كلّ المصلحين في عالمنا الإسلامي لعملهم الإصلاحي على اختلاف اجتهاداتهم في تشخيص نوع الانحراف وترتيب الأولايات.
الشهيد مطهري من أولئك الدعاة الذين نذروا أنفسهم لإصلاح المجتمع الإيراني، مبتدئاً بإصلاح المفاهيم ومحاربة الإنحرافات الفكرية، ويطلق على هذه العملية اسم "إحياء الفكر الديني" كما سمّاها أيضاً إقبال اللاهوري من قبل.
ويوضّح مقصوده من إحياء الفكر الديني بقوله: "المقصود من إحياء الفكر الديني ليس هو إحياء الدين نفسه، بل إحياء التفكير بشأن الدين، وبعبارة أخرى غسل الأدمغة مما تراكم فيها من انحرافات وتشويهات بشأن الدين".
نستطيع أن نفهم عِظم المسؤولية التي نهض بها الشهيد مطهري في عملية الإصلاح الفكري لو عرفنا ضخامة الجهود التي بُذلت في إيران خلال القرون الأخيرة لتشويه صورة الإسلام ولمسخ المفاهيم الإسلامية عن طريق مزجها بالمفاهيم المادية الغربية.
الهزيمة التي مُني بها العالم الإسلامي أمام الاستعمار الغربي كانت هزيمة نفسية بالدرجة الأولى، وهذه الهزيمة الداخلية دفعت بكثير من المثقفين المهزومين إلى الطعن في تراث الأمة وتاريخها وأصالتها، وإلى التبعية الفكرية والنفسية لعالم المستعمرين.
لقد نهض نفر من العلماء لدراسة هذه الظاهرة في العالم العربي وفي شبه القارة الهندية. ولكن قلّما احتوت المكتبة العربية دراسات عن هذه الظاهرة في إيران.
في اعتقادنا أن الجهودَ التي انصبّت لمسخ المفاهيم الإسلامية وتشويهها وإشاعة روح "التغرّب" و"الالتقاط" في إيران كانت أعمق وأوسع مما كانت عليه في أجزاء العالم الإسلامي الأخرى، ذلك لما يتمتع به هذا البلد من علماء ومن حركة علميّة تتجه نحو الاجتهاد في مسائل الدين، ولابد أن تكون الخطة لمواجهة هذه الحركة العلمية المعمّقة في إيران عميقة ومدروسة.
أول من نهض بعملية الغزو الفكري وعملية مسخ الشخصية الإسلامية في إيران دولة بريطانيا، فمنذ سنة 1600 ميلادية وضعت لإيران خطة تمثلت – كما ورد في الوثائق البريطانية – بما يلي:
1_ تقوم وزارة الخارجية البريطانية بتأسيس سفارة ومؤسسات بريطانية أخرى في إيران.
2- الشركات البريطانية مكلفة بتأسيس فروع تجارية وبنوك في إيران وبالسعي للحصول على امتيازات استثمار المعادن والمناجم.
3- المستشرقون البريطانيون مكلفون بالتوجه إلى إيران ودراسة آدابها وتاريخها وفنونها.
4- علماء الآثار يتحملون مسؤولية دراسة آثار إيران وإجراء التنقيبات والحفريات فيها. وصاحب ذلك طبعاً نهب كثير من آثار إيران القيّمة.
5- المركز الماسوني الأعلى مكلّف بإرسال أفراد إلى إيران لتشكيل اللوج الماسوني في هذا البلد، وتشجيع الإيرانيين القادمين إلى بريطانيا على الانتماء إلى الماسونية.
6- على البريطانيين الموجودين في إيران أن يستغلوا نقاط الضعف الموجودة في إيران من رشوة وفساد وسرقة لتحقيق أهدافهم وأن يسعوا لتعميق هذه المظاهر السلبية ونشرها.
7- البريطانيون الموجودون في إيران يسعون لتقسيم إيران وإضعاف الحكومة المركزية ومحاولة الحطّ من قيمة الحضارة والثقافة الإيرانية.
لعلّ عملية نشر الماسونية والاستشراق في إيران كانت أكثر من الغزو العسكري والاقتصادي تأثيراً في التمهيد لاستعمار إيران والسيطرة على مقدراتها. آثارها ملموسة في الهزيمة النكراء التي مُني بها المثقف الإيراني… هذا المثقف الذي تعلّم في أوروبا وفي جامعات إيران ليتولّى أمور بلده في مجلس الشورى والوزارات والدوائر، وليسوق بلده نحو أهداف المستعمرين، وليقدّم كل مقدسات بلده على مذبح الطامعين والغاصبين.
من أجل أن نعطي صورة أكثر وضوحاً عن الهزيمة النفسية والفكرية التي سادت المثقفين الإيرانيين نذكر بعض روّاد الماسونية والتغرّب في إيران، ونبدأ بالميرزا يعقوب خان الأرمني.
عاش الميرزا يعقوب في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، ويعتبر أول رائد للتغريب في إيران، والد ملكم خان الذي سيأتي ذكره، ومن مؤسسي الماسونية في إيران، وأحد أعضاء عصابة ميرزا آقاخان نوري قاتل المصلح السياسي الإيراني المعروف "أمير كبير" ومن عملاء بريطانيا العاملين على تجزئة أرض خراسان.
فريدون آدميّت (وهو كاتب إيراني ماسوني ألف كثيراً في تاريخ المثقفين التقدميين! في إيران) يفخر بأنه عثر على رسالة للميرزا يعقوب خان يذكر فيها أن الحل الوحيد لانتعاش اقتصاد إيران هو فسح المجال للأوروبيين أن يوظفوا رؤوس أموالهم في إيران، وتنشيط سياحة الغربيين فيها.
الميرزا يعقوب هذا يوجه رسالة إلى ناصر الدين شاه في حدود سنة 1290هـ، ويدعوه إلى إعادة النظر في الأحكام الدينية، ويركز على الجهاد بالذات ويقول: إن المفهوم القديم للجهاد لم يعد له أي اعتبار الآن، ويجب تحويل مفهومه إلى شكل معاصر يرتبط بتحصيل الخير العام، مثل الجهاد من أجل دفع الفيضانات ومن أجل إنماء البلاد.
يأتي بعد الميرزا يعقوب خان في قيادة حركة التغريب في إيران ابنه ملكم خان، ناظم الدولة (1249 – 1326هـ.ق)، ويحمل لقب برنس من بلاط الشاه، تولى سفارة إيران في لندن ثم في روما. ويعتبر دماغ الماسونية المفكر في إيران ورائد التغريب فيها.
كان بيته منتدى يجتمع فيه كل المشكوكين ومتزلزلي العقيدة من الإيرانيين مثل الشيخ محمد باقر بواناتي (معلم إدوارد براون في اللغة الفارسية) والحاجي بير زاده، وسائر المثقفين الذين تولوا فيما بعد الحركة الدستورية في إيران!! وهذا يبين لنا سبب انحراف الحركة الدستورية في إيران وسبب معارضة علماء الدين الواعين لها من أمثال الشيخ فضل الله نوري.
ويتحدث ملكم خان بنفسه عن سبب تأسيس المركز الماسوني في إيران ويقول: لقد خططتُ من أجل أن أمزج بين العقلية السياسية الغربية والعقلية الدينية الشرقية، لأنني ألفيت أن تغيير إيران على النمط الأوروبي لا يتحقق، من هنا سعيت إلى تقديم فكرة التطور المادي في لفافة الدين، لكي يفهم أبناء وطني هذه المعاني جيداً، ودعوت أصدقائي والشخصيات المرموقة وحدثتهم عن ضرورة "إصلاح الإسلام"!
ونرى بين أعضاء المركز الماسوني الذي أسسه ملكم كتّاباً ساروا على نفس النهج منهم "الميرزا يوسف خان" مستشار الدولة، وصاحب كتاب "يك كلمة" أي كلمة واحدة، وهو من دعاة مزج الإسلام بآخر ما أنتجته الحضارة الغربية، ويصرح بضرورة تكميل الإسلام! وتغييره وفق مقتضيات العصر! وأنه لابد من تقليد أوروبا في تنظيمات إدارة البلد، وبغير ذلك لا يمكن لدولة أن يكتب لها البقاء.
ويقول: بين دول الغرب تعتبر بريطانيا أول وآخر سند وصديق لنا.
ومن رؤوس التغريب والمسخ في إيران "فتح علي آخوند زاده" (آخوند أوف). يقول عنه فريدون آدميّت: ".. في مدرسة الأفكار الجديدة يعتبر ميرزا فتح علي آخوند زاده (1228 – 1295هـ) من المبدعين. إنه يمثل التفكير العلمي الناقد، رائد كتابة المسرحية والقصة الأوربية في الشرق، مبتكر إصلاح الخط وتغيير الحروف الهجائية في المجتمعات الإسلامية، منتقد الأدب الكلاسيكي، ورافض التقليد في كتابة التاريخ، ومن دعاة أخذ العلم والحكمة الغربية، واضع أسس التفكير القومي الإيراني، ومنتقد السياسة والدين، والمؤمن بانفصال الدين عن السياسة، وعدوّ الحكم الاستبدادي وكل حكم فردي، من أنصار المشروطة (الحكم الدستوري) العقلي-العرفي القائم على الحقوق الطبيعية، والمنادي بالإصلاح الديني، مفكر مادي متحل بأفكار منظمة مبوّبة، ليس في نظام تفكيره تناقض أو تباين، كل ما يحمله هو أصالة المادة وسلطان العقل".
وهذا النص الذي يمثل خلاصة شخصية آخوند زاده، على لسان واحد من أنصاره والمستوعبين لحياته وأفكاره، يبين اتجاه الطبقة المثقفة أو المستنيرة! كما يسمونها، وأهدافها وآمالها، وهي: إصلاح الدين! وفق نظرة مادية، ثم إحياء القومية الإيرانية وتغيير الخط العربي واستبدال الحرف اللاتيني به، ثم الدعوة إلى النظام الدستوري، وهي دعوة لم تكن تستهدف القضاء على الحكم الفردي بقدرما كانت ترمي إلى جعل زمام التقنين بيد عملاء الغرب، وسدّ الطريق أمام فقهاء الشريعة ومنعهم من التدخل في شؤون المجتمع. وهذا هوالذي حدا بالشيخ فضل الله نوري – كما ذكرنا – إلى إعلان المطالبة بالحكومة "المشروعة" بدلاً من الحكومة "المشروطة" التي كان ينادي بها هؤلاء المهزومون أمام الغرب، وكان يشبّه هؤلاء المتغربين بالسامري الذي أضلّ قوم موسى، وكان ينادي قائلاً: "أيّ أحمق يقبل أن يكون الكفر حامياً للإسلام؟! وملكم النصراني حامياً للدين المبين؟!".
من الأسماء البارزة بين المثقفين المتغربين الإيرانيين "عبد الرحيم طالب أوف". ولد في تبريز سنة 1250هـ، وفي السابعة عشر من عمره هاجر إلى جنوب روسيا، وألف كتباً في الاجتماع والسياسة، وأرسلها إلى إيران، يبث فيها أفكاره بشأن إجراء إصلاحات في الدين! وتغيير الحروف العربية في الخط الفارسي.
في كتابه "مسائل الحياة" (بالفارسية) يعقد حواراً بين آقا رضا (وهو عالم دين تقدمي!) وأحمد آقا (مثقف مزود بالعلوم الحديثة) يتحدث فيه آقا رضا عن علوم الدين التي تعلمها، ويستهين بها، ويصفها بأنها "ألسنة الأموات، وأنها معلومات قد سقطت من حيّز الانتفاع وأصبحت من الخرافات!" ثم يبدأ بتوضيح عطاء العلوم الحديثة.
ماذكرناه من أسماء لمثقفين متغربين إيرانيين إنما يمثل الرعيل الأول، وتبعهم رهط كبير ألّفوا في بثّ فكرة التغريب وإصلاح الإسلام (أو مسخ الإسلام) كثيراً من الكتب والمقالات، وأسسوا المحافل والجمعيات، وكان لهم أكبر التأثير على الأدب والفكر والسياسة في إيران.
يلاحظ في العقود الأخيرة من تاريخ إيران ظهور ردّ فعل بين المثقفين الإيرانيين تجاه الليبرالية الغربية، بعد أن سجّل الغرب أبشع صور مصادرة الحريات وظلم الناس واستعبادهم في بلدان الشرق الإسلامي. لكن ردّة الفعل هذه كانت كما يقول الأستاذ مالك بن نبي(ره) أشبه بصحوة إنسان لا يزال يثقل جفونه نوم عميق. فلم يتّجه هؤلاء المثقفون إلى الأصالة بعد أن صدمهم الغرب، بل اتجهوا إلى الغرب أيضاً، ولكن في إطار ماقدمه الغرب كبديل لليبرالية، وهو الاشتراكية والشيوعية. وظهر "حزب توده" ليقدم الفكر الماركسي اللينيني في إطار الإسلام!! وظهرت تفاسير لآيات من القرآن الكريم ينحو فيها أصحابها منحى ماركسياً ثورياً!! وحتى الغيب فسروه بأنه "المراحل التمهيدية لنمو الثورة التوحيدية، وفترة حدوث التحولات الكمية".
يطول بنا الحديث لو أردنا استعراض كل جهود المتغربين في إيران لبث الأفكار المنحرفة عن الدين والتشكيك في المنهج الإسلامي الأصيل، لكننا أردنا تقديم نموذج من تلك الجهود، لنفهم عظم المهمة التي أخذها على عاتقهم دعاة الأصالة الإسلامية ودعاة إحياء الفكر الإسلامي في إيران، ومنهم الشهيد مطهري(رض).
تتابع
المصدر: ثقافتنا - العدد 6
برچسب ها :
ارسال دیدگاه