مقالة/ الجزء الثاني
نظرة في وظائف الحوزة العلميّة ومسؤولياتها وفق رؤية الإمام الخامنئي
الشيخ حسن أحمد الهادي
في الجزء الأول من هذه المقالة، أخذنا بالبحث عن الأسس والمنطلقات التي تبتني علیها أطروحة الإمام الخامنئي للحوزات العلمیة وبحثنا عن الأساس الأول وهو أصالة الحوزة وعمقها والآن نتابع البحث حول الأسس والمنطلقات الأخری.
*2ـ التخطيط:
يعتبر التخطيط ركناً أساسياً لكل عمل منظّم ومدروس، ولذلك ورد التأكيد عليه في الروايات المأثورة عن المعصومين(ع)، روي عن الإمام علي(ع): "قدّر ثم اقطع، وفكّر ثم انطق، وتبيّن ثم اعمل". وهو في المصطلح الإداري عبارة عن: "عملية تفكير وتقدير منهجية واعية لاستشراف المستقبل، وتوقّع أحداثه، بغرض التحكّم فيها، وتوجيهها تحقيقاً للأهداف المرسومة". ولعملية التخطيط هذه مجموعة من الأسس أهمها:
أ- تحديد الأهداف: يعتبر تحديد الأهداف جزءاً أساسياً من عملية التخطيط، ويشير الإمام الخامنئي إلى ضرورة وجود جهاز مخطّط للحوزة العلمية قائلاً: "الموضوع الأول هو موضوع البرمجة والتخطيط في الحوزات.، فالحوزة العلمية بصفتها مكوّنة من مجموعة كبيرة من العلماء العظام والباحثين والكبار في العلوم المختلفة من فقه وتفسير وأصول وكلام وفلسفة وسواها من العلوم الحوزوية، فإنه لابد لها من جهاز للتخطيط يمارس عمله بنشاط مستمر" .
ويؤكّد على ضرورة تحديد الأهداف في كل عمل تخطيطي: "إنّ إنشاء المنظّمات دون رسم أهداف واضحة وتحديدها بدقة، أم فقدان خطة دقيقة تكفل الوصول إليها، سوف يؤدّي إلى إفشال المؤسّسة في عملية الإنتاج وزوالها أخيراً، وفي حال عدم الزوال نهائياً فإنّها ستظل شكلية" .
ب- استمرارية التخطيط: إنّنا نعيش في بيئة متغيّرة ومتحركة باستمرار، لذلك لا يمكن أن نعتمد خطة وبرنامجاً واحداً لكل الظروف والأحوال، بل ينبغي الاستعداد التام للتخطيط في كل الأوقات نظراً لما يطرأ من مستجدّات، ولما يحصل من انحرافات في الأداء وتتطلّب تعديلاً في الخطط الموضوعية، والاستزادة المستمرّة من التطوّر الحاصل في مجال العملية التعليمية: ". لابد من وضع برنامج يتصف أولاً: بالدقة والإتقان، وثانياً: أن يطاله التطوير باستمرار. بمعنى أنّه إذا تمّ وضع برنامج في هذا العام فلابد أن يتم مراجعته في العام المقبل، لا أن يصار إلى هدمه وإلغائه بل ليجبر ما فيه من نقص. كما أنه لابد من وجود جهاز للرقابة على وضع البرامج، مهمّته المراقبة الدقيقة والمستمرة الميدانية للبرامج، لمعرفة مواضع الخلل، ومدى تناسبه مع قدرات الطلاب لجهة التقّبل والاستيعاب."
ج ـ ملائمة التخطيط للبيئة المحيطة: إنّ وضع البرامج من أجل الحوزة كما في غيرها لا يمكن أن يكون منقطعاً عن بيئتها، حيث إنّ البيئة وتداعياتها تلعب دوراً كبيراً في تأييد أو تحجيم الفكر خصوصاً إذا كان تطويرياً، من هنا، وقبل أن يصار إلى طرح برنامج متطوّر ينبغي العمل من أجل إيجاد أجواء ملائمة للبرنامج حتى يمكن طرحه وإجراءه في تلك البيئة: "ينبغي العمل من أجل إيجاد أجواء منفتحة لتنمية المواهب الفكرية. ولابد من العمل في هذا المجال في الحوزة لأنّه يؤدّي إلى إحيائها."
دـ أهداف الدين الكبير في عملية التخطيط: هذه الخصوصية تتطلّب من الحوزويين أن ينطلقوا في تقديرهم للأمر وفي تخطيطهم للعمل التعليمي والتربوي من هذا الاعتبار وأنّ: "الطرح الإسلامي مبتنٍ على أساس أن الدين هو رسالة الحياة، والطريق الوحيد للخلاص من المشاكل والمصاعب التي حلّت بالعالم، والتي ستحلُّ فيما بعد، وهو القادر على إعطاء الحلول الناجعة للمعضلات الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات البشرية".
انطلاقاً من هذا الاعتبار ينبغي الحذر من الوقوع في فخ العلمانية في الحوزات العلمية و"يجب الاهتمام بقضية الوحدة بين الدين والسياسة، في التفقّه وفي العمل. وليعلم الأخوة أن فكرة فصل الدين عن السياسة هي آفة لم تستأصل بشكل كامل، ولا تزال إلى الآن موجودة في الحوزات مع الأسف. يجب تأصيل وترسيخ فكرة وحدة الدين والسياسة في الحوزة بحيث تكون الفقاهة، والاستنباط الفقهي على أساس إدارة النظام والمجتمع لا مجرد الإدارة الفردية".
هـ- الإستفادة من الخبرات العلمية والمنهجية: إن الحوزة العليمة مؤسسة تعليمية وتربوية مثلها مثل باقي المؤسسات المماثلة لا يمكن أن تكون بعيدة عن التطورات العلمية والمنهجية والمهاراتية في العالم. بل ينبغي لها أن تستفيد من تلك الخبرات بشكل لائق، وعليه" فلابدّ للمتوّلين لتنظيم شؤون الحوزة أن يهيّئوا الأرضية اللازمة لجعل الطلاب على صلة وثيقة بمجريات الأمور في العالم، ولا ينبغي أن ينزوي الطلبة بعيداً عن التطوّرات، والوقائع، والمواضيع العلمية، والنظريات والاكتشافات الجديدة في مجال الطبيعة والعلوم على الأخص، حيث إنّ معرفة الموضوعات ركن مهم في إصدار الحكم والفتوى".
"فلابد لنا من النظر إلى العالم حولنا وما تحتاج إليه البشرية، ولابد لنا منّ الوقوف على ما يستجد من أفكار ونظريات وآراء وقضايا في كل يوم وآخر، بل بين الفينة والأخرى، مما يتعلّق بشؤون الحوزات العلمية، ليس ما يتعلّق بالحوزات العلمية بشكل مباشر، بل ما يتعلّق بالأمور ذات الصلة المباشرة بالحوزات العلمية بشكل خاص".
وـ مراعاة التحديد الكمي والرقمي للحاجات: ينبغي لكل المعنيين في شؤون الحوزة العلمية أن يتعاطوا مع مسائل الحوزة بواقعية وأرقام ولا يستندوا إلى *تصورات ذهنية وخيالية بعيدة عن الواقع ومتطلباته إن التحديدات الكميّة والرقمية المعتمدة اليوم في التخطيط والبرمجة ينبغي أن تأخذ طريقها إلى الحوزة، كي يصار إلى وضع برامج مدروسة ودقيقة، وقد أشار الإمام الخامنئي إلى هذا بقوله: "من جملة الأمور التي تحتاج إليها الحوزة العلمية هو نظام التعليم والتعلّم، بحيث لا تضيع الأوقات، وفي عصرنا لا يمكن أن نجيز أن تهدر ساعة واحدة من عمر شاب مؤمن، قد أعدّ نفسه لبذل الجهد والعمل في سبيل الدين". وعليه فلا يمكن التهاون بأمر عملية التعليم والتعلّم فينبغي: "أن يملأ هذا الخلل (عدم الانتظام الدقيق) من خلال وضع برامج تتّصف أولاً: بالدقّة والإتقان، وثانياً: بالتطوّر باستمرار. "
ولا يكفي أن نراجع البرامج التي يتم وضعها باستمرار بل ينبغي أن تتم تلك المراجعة من خلال تقدير دقيق للحاجات الواقعية والفعلية للمجتمع: "ينبغي أن نخطّط للمستقبل، فإذا قدّرنا أن الدولة الإسلامية تحتاج إلى عدد معيّن من القضاة في الثلاثين سنة القادمة، فعلى الحوزة أن تنهض لتأمين هذا العدد، والتخطيط لتربية عدد من المجتهدين للقيام بهذه الوظيفة".
*3ـ ضرورة سيادة النظام:
كانت الحوزة العلمية تدار عبر قرون طويلة من عمرها من خلال نظام بسيط، ومن دون وجود جهاز وإدارة، فضلاً عن مستلزمات العملية التعليمية الأخرى، إلى درجة أنّه شاع في الحوزة مقولة: "نظامنا هو في عدم انتظامنا". وقد تصدّى الإمام الخامنئي لهذه الذهنية قائلاً: "النظام، هو مقابل الفوضى، ولا يمكن الجمع بين الأمرين، كما أنّ عدم انتظامنا في عدم إتباعنا للنظام، وتأخّرنا في عدم سيادة النظام بيننا".
"وإن عدم النظام في الحوزات العلمية يعتبر نقصاً كبيراً فيها، وإن انعدام النظام كان يشكّل أساساً للعمل الحوزوي، وهذا ليس أنه لم يكن يحكم أي نظام، بل كان هناك نوع من النظام، بمعنى أن المدرِّس كان يحضر للتدريس ساعة معيَّنة، وكان الطلاب يلتزمون أيضاً بساعة الحضور، أو أنَّهم كانوا يلتزمون بمراجعة ومطالعة دروسهم بعد صلاة المغرب والعشاء ـ مثلاً ـ إذ كان هناك انتظام بمستوى معيّن، كما أنه كان في الحوزة أناس منتظمون يستفيدون بدقة من أوقاتهم. ولكنني لا أقصد من النظام هذه الأمور. ما أقصده تحديداً، هو وجود برنامج دراسي منظّم ومخطّط، ونحن كنا نعاني من هذا النقص في الحوزات". وهكذا يدعو سماحته إلى سيادة النظام التعليمي المدرسي على الحوزات العلمية وعدم الرضا بما يسود من الاستمرار على بركة الماضين، حيث إنّ العلماء السابقين خُلقوا لزمانهم وأجادوا في رفد عصورهم بما كانوا يملكون من مواهب متعدّدة في مجالات شتّى ولا يمكن لنا القول بأن الخلف لم يترك للسلف شيئاً. ومن هنا يؤكد سماحته قائلاً: "الشرط الأساس في تغيير سليم وتطوير طبيعي في الحوزة، هو التقيّد بالنظام والانضباط من خلال إنشاء مركز مخطّط ونافذ ومطاع في قراراته" .
* 4ـ استقلال الحوزة العلمية:
إن استقلال الحوزة العلمية في تنظيمها الخاص، والاحتفاظ بخصوصياتها جزء مهمّ من السابقة التاريخية للحوزات العلمية الشيعية التي طالما أصرّ علمائها ومراجعها على أهميتها بالنسبة إلى الحوزات العلمية. يقول "الإمام الخامنئي": "إن الحوزة العلمية مؤسسة علمية وروحية، ولا ينبغي أن تتحوّل إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة، وإن كانت الدولة هي الجمهورية الإسلامية".
* 5ـ تقدير الحاجات الواقعية (معرفة المشكل):
لا يمكن أن نصل إلى حلول ملائمة لمشاكل الحوزة إلا بعد تحديد دقيق للمشكلات والمسائل التي تعاني منها الحوزة العلمية، ومن ثم السعي نحو إعطاء الحلول المناسبة لتلك المشاكل، فمن لا يؤمن بوجود المشكلة لا يمكن أن يتحرّك للبحث عن الحل، يقول الإمام الخامنئي: "لا بدّ من الإذعان بوجود المشكل، فلا يأتي أحد ويقول، ما هذا الكلام؟، أليس "الشيخ الأنصاري" و"الميرزا النائيني" و"صاحب الكفاية" "والإمام الخميني" وباقي العظام تخرَّجوا من هذه الحوزات، وأنتم تطرحون أموراً جديدة، فإن لم يذعن هؤلاء بالمشكل فلا يأتي الحل، فيجب الاعتراف بأنَّ هذا المريض مريض حقاً، وانّ هذا الكائن الحيّ يعاني من الألم، فإن لم يدركوا الألم ولا يعالجوا فلن يشفى من مرضه" .
*6 ـ تقديم الأولويات والحاجات الملحّة :
إن الحوزة العلمية نتيجة تراكم المشكلات عبر الزمن لا تستطيع أن تواجه تلك المشكلات في فترة زمنية واحدة كما لا تستطيع أن تقدّم حلولاً ومعالجاتً ناجعة في آن واحد، من هنا، لابد من العمل المرحلي الذي يؤخذ فيه بالحسبان التدرّج في المعالجة. ثم إنّ عملية التدرّج لابد أن تستند إلى قاعدة عمل واضحة تقدّم فيها الأولويات الفورية والحاجات الملحة على غيرها. "إنّ الإدارة في الحوزة العلمية تواجه مسائل ومشاكل عديدة، كما أنها سوف تواجه مستجدّات متوقّعة وغير متوقّعة، وينبغي لها أن تحدّد المهمّة الأولى لها تحديد الأولويات والحاجات الملحّة" .
* 7ـ العمل الفريقي (الجماعي):
من المشاكل التي تعاني منها الحوزات العلمية هي سيادة العمل الفردي وعدم التواصل والتكامل بين الأفكار والتوجّهات والاجتهادات المختلفة، وهذا ما يؤدّي إلى عدم الاستفادة من الخبرات الموجودة لدى الآخرين. من هنا، يبدو أنّ الحلّ يكمن في السعي لإشاعة ثقافة العمل الفريقي (الجماعي) في الحوزات لكي تتم الاستفادة من أكبر عدد ممكن من الطاقات العلمية والمهاراتية لإنجاز مشروع عمل معيّن، سواء كان إنجاز دراسة أم تدريس أم أي عمل آخر يتطلّب تكافؤ الأفكار والجهود المختلفة، لأنّ العمل الجماعي (الفريقي) يتطلّب تكافؤاً للجهود كما يتطلّب آليات ملائمة للعمل، إنه عمل جديد في عصرنا.".
تتابع
المصدر: مرکز الأبحات و الدراسات التربویة