هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

عصر الإمام الرضا(ع) سياسياً

□ مقالة

عصر الإمام الرضا(ع) سياسياً

□  عبّاس الذهبي

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
​​​​​​​

عاصر الإمام‌(ع) عدداً من الحكام العباسيين، حيث شهد بقية حكم هارون الرشيد ( ۱۷۰ ـ ۱۹۳ هـ)، ومن بعده ابنه الأمين المخلوع ( ۱۹۳ ـ ۱۹۸ هـ ) وأوائل حكم المأمون ( ۱۹۸ ـ ۲۱۸ هـ ) الذي عهد إليه بولاية العهد.
كانت سيرة الخلفاء العباسيين شبيهة إلى حد كبير بسيرة الحكام الامويين، كلاهما مارس الظلم والعدوان على العباد، واتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً.
وأخذت رياح الفتن تعصف مثل ريح السموم على المسلمين عموماً وعلى العلويين بصورة خاصة، فقد فتح العباسيون أبواب السجون وشهروا السيوف ضد الاحرار من أهل بيت الرسالة، وكان شغلهم الشاغل ملاحقة العلويين الذين يطالبون بحقهم في الحكم، لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
كان الإمام الرضا‌(ع) يرقب عن كثب، بمرارة وألم تلك الأحداث والفجائع المؤلمة التي تعصف بالبيت العلوي، وكان يتبع الحكمة وسياسة النفَس الطويل مع السلطة وجلاوزتها، هذا الكلام لانقوله جزافا فمصاديقه كثيرة، منها: « لما خرج محمد بن جعفر بن محمد ـ وهو عمّ الإمام الرضا‌(ع) ـ في المدينة بعث هارون الرشيد أحد جلاوزته المعروف بالجلودي، وأمره ان ظفر به أن يضرب عنقه وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحداً.. فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا‌(ع) وهجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضا‌(ع) جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لابي الحسن‌(ع) لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضا‌(ع): أنا أسلبهن لك وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئاً إلّا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضا‌(ع) فلم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلّا أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير ».
وكان واضحاً من هذا الموقف مدى الحقد الدفين الذي يكنه هارون للعلويين بسبب معارضتهم التي تشكل كابوساً مؤرقاً للعباسيين، لذلك شن « هارون » ومن قبله من حكام العباسيين حرباً شعواء منظمة في كل الاتجاهات ضد العلويين، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، ولم يسلم حتى من تظاهر بمسالمتهم فقد دسوا إليه السّم، ولعل أوضح شاهد على الجو الخانق والضيق الشديد الذي تعرض له أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك الوقت ماجرى للإمام موسى الكاظم عليه‌السلام حتى أنه سمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ عن أعدائه وخاصة العباسيين منهم، كان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بالمعارضة، قال لهشام بن سالم:
« من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاع فهو الذّبح » وأشار بيده إلى حلقه. وكان يشغل أكثر أوقاته بالعبادة، ومع ذلك ألقوه في غياهب السجون أكثر من مرة على الرغم من تصريحه لهم بعدم الخروج عليهم، مع كل ذلك أمر المهدي العباسي ( ۱٥۸ ـ ۱٦۹ هـ ) بجلبه إلى بغداد وحبسه، وقال له: تؤمنني أن لاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي‌؟ فقال الإمام‌(ع): « لا والله ! لافعلت ذلك، ولا هو من شأني ». ولما هلك المهدي وقدم هارون إلى المدينة منصرفاً من عمرة رمضان سنة ۱۷۹ هـ، حمل معه موسى الكاظم‌(ع) إلى بغداد وحبسه إلى أن توفي في محبسه، قتله السندي بن شاهك في سم جعله في طعام قدّمه إليه.
وبذلك عاصر الإمام الرضا‌(ع) مأساة أبيه من بدايتها إلى نهايتها، تلك المأساة التي تمثل من جهة أخرى رسالة مفتوحة في خطاب التهديد والإنذار والوعيد، يتلقّاه في مطلع شبابه.
وفي عصر كهذا..، كان الإمام‌(ع) يتصرّف في حدود ما هو متاح له، وكان يجهر بالحقيقة ولاتأخذه في الحق لومة لائم، حتى أن بعض أصحابه قد خاف عليه من السلطة الظالمة، والبعض دعاه الى التمسك بالتقية.. ففي رواية ينتهي سندها الى صفوان بن يحيى، قال:
لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر‌(ع) وتكلم الرضا‌(ع) خفنا عليه من ذلك، فقلت له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً وإنّا نخاف من هذا الطاغي ـ يقصد هارون ـ فقال: « ليجتهد جهده فلا سبيل له عليّ».
ومن هنا يبدو متوقعاً أن العباسيين سوف يضعون الإمام‌(ع) في دائرة الضوء، يراقبون تحركاته، ويحصون أقواله وأفعاله، ونتيجة لذلك تظاهر الامام‌(ع) بالانصراف عن الشؤون العامة والانشغال عن مناوئة السلطة، وأوحى لها باهتمامه بشأنه الخاص وفق أسلوب بارع تنقله الرواية التالية، عن أبي الحسن الطيب، قال: لمّا توفّي أبو الحسن موسى بن جعفر‌(ع) دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضا‌(ع) السوق، فاشترى كلباً وكبشاً وديكاً، فلما كتب صاحب الخبر الى هارون بذلك، قال: قد أمنا جانبه. وكتب الزبيري أن علي بن موسى الرضا قد فتح بابه ودعا الى نفسه، فقال هارون: واعجباً من هذا ! يكتب أن علي بن موسى قد اشترى كلباً وكبشاً وديكاً، ويكتب فيه ما يكتب.
ويبدو أن مناورة الإمام هذه هي حالة امتصاص بارعة للضغوط والمراقبة الشديدة التي يتعرض لها من « هارون » وجواسيسه، لم يكتب لها النجاح طويلاً فسرعان ما أدركت السلطة أن الإمام‌(ع) لا يتوانى ولا يستكين ولا يكف عن كشف زيف العباسيين والمظالم التي يرتكبونها باسم الدين، وكان من الطبيعي أن تثور ثائرتهم، فلم يتركوه طليق اليدين.
وبعد هلاك هارون ونشوب الخلاف الدموي بين ولديه الأمين والمأمون أصبح الطريق سالكاً أمام الإمام‌(ع) فوجد الفرصة سانحة له بعض الشيء للقيام بدور فعال في إحياء ما دثر من مآثر الإسلام الخالدة، وبما يتناسب مع تلك المرحلة الحرجة من تاريخ بني العباس السياسي الدامي، كما انفسح المجال أمام شيعته للاتصال به، وعلى ضوء هذا التحول واتساع النفوذ والتعاطف الجماهيري الكبير، قاد الإمام‌(ع) حركة فكرية واسعة سرعان ما أثمرت بوقت قصير.
وهناك روايات تاريخية تُلقي ضوءاً على حقيقة ما قلناه، فقد قام بجولة واسعة في العالم الاسلامي، وقد ابتدأ جولته من المدينة إلى البصرة لكي يجتمع مباشرة مع قواعده الشعبية ويحدثها في كل شيء، وكان من عادته قبل أن يصل تلك المنطقة أن يرسل إليها رسولاً يخبرهم بمقدمه إليهم خلال الأيام القلائل الآتية.. ثم يأتي إليها الإمام‌(ع) والجمهور متهيء لاستقباله والاجتماع به، فيعقد معهم اجتماعاً واسعاً يلقي عليهم الحجة بإمامته وقيادته ويطلب منهم بعد ذلك أن يسألوه، لكي يجيب على أسئلتهم في مختلف جوانب المعرفة الاسلامية.
بعد هلاك هارون وجد المأمون نفسه بعد خلعه لأخيه، في مأزق خطير، فقد كشف الناس زيف شعارات العباسيين الداعية للرضا من آل محمّد‌(ص) بعد أن تبين للقاصي والداني أن سياستهم غير المعلنة تقوم على التفرد والاستئثار بالسلطة، من جهة أخرى أخذت الثورات وخاصة ثورات العلويين تقضُّ مضاجعهم، إضافة إلى الصراع الذي نشب داخل البيت العباسي، مما أضعف قوتهم وشتت شملهم، وفي الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين، اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام، اذ ثار السفياني وهو « علي بن عبد الله بن خالد بن معاوية بن أبي سفيان » ودعا الى نفسه، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها، وكاد أن يقيم حكماً أموياً في بلاد الشام، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين، أضعف قوته، فنجح الأمين بعد جهود كثيرة استمرت أكثر من عامين في القضاء عليها، كل تلك العوامل دفعت المأمون الى الامساك بزمام الامور، وكان معروفاً بالدهاء والحنكة السياسية، اذ وجد أن السيطرة على الوضع لاتتم إلا بانهاء القطيعة مع العلويين الذين اشتد ساعدهم وتزايدت ثوراتهم وتوسعت قواعدهم الجماهيرية، ولهذا قام باستدعاء الامام الرضا‌(ع) من المدينة متظاهراً بانه سوف يتنازل له عن الخلافة، أو على الأقل يوصي له بولاية العهد، خصوصاً وهو يعلم ان الامام هو زعيم الطالبيين، وهذا التحول السياسي المدروس بدهاء أبدل الظرف السياسي الخانق الذي كان يحيط بالامام‌(ع) الى نوع من الحرية السياسية من حيث الظاهر، فبينما كان هارون يورد العلويين حياض الموت والذل والجوع، وأراد لهم أن يأخذوا دور التابع الذليل الذي لاحول له ولاقوة، أخذ المأمون يقرب العلويين ويتودد إليهم ويغدق عليهم ويشيد بفضلهم ويتظاهر بالدفاع عن حقهم بالحكم، كما أرجع فدكا على ولد فاطمة‌(س)، وغدا دورهم دور الشريك الفاعل، لا دور التابع الخامل، كما كان الحال في عهود أسلافه.
وكل من يتتبّع المجرى العريض لهذا التحول السياسي، يجد أن المأمون أراد أن لايسير عكس التيار، فالتيار الجماهيري العريض كان لصالح العلويين في زمانه، وكان تيار الحب للعلويين قد تعاظم حتى في عقر داره وبالتحديد في عاصمته « مرو » بخراسان. زد على ذلك زيادة تحركات الامام الرضا‌(ع) في المدينة وهي العاصمة الروحية للخلافة الاسلامية، ويكفينا الاستدلال على خشية المأمون من العلويين عامة ومن زعيمهم الامام الرضا‌(ع) على وجه الخصوص، ماقاله المأمون لقادة العباسيين عندما وجهوا اليه اللّوم والعتاب على تقليده ولاية العهد للرضا‌(ع)، قال: قد كان هذا الرجل مستتراً عنا يدعو الناس الى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه إلينا، وليعرف أن الملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المعتقدون أنّه ليس مما ادعى لنفسه في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشقَّ علينا منه ما لا نقدر على سدِّه.. وأن يأتي علينا ما لا طاقة لنا به...
هذا النص يعكس لنا بدون لبس مدى خوف المأمون من تحرك الامام ومن اتساع قاعدته الجماهيرية، وقد تمكن المأمون من خلال مخطط ولاية العهد من تطويق الامام وعزله عن الناس ووضعه في الاقامة الجبرية في خراسان، لم يضعوه ـ هذه المرّة ـ في السجون المظلمة كما كان الحال مع أبيه الكاظم‌(ع) من قبل، بل وضعوه في قصور شاهقة وأبنية فارهة، لم يكن التغير ـ اذن ـ في الجوهر بل في الظاهر، وقد كان الامام‌(ع) يشتكي على الدوام من الوضع الخانق الذي يحيط به، فعيون السلطة ترصد حركاته وسكناته، وتحجب عنه أقطاب شيعته، وكان محاطاً بالدسائس والمؤامرات التي تحاك هناك بين أقطاب السلطة أنفسهم من أجل الايقاع به ومنعه من الاتصال بالناس.
ومن أجلى الشواهد على ذلك أن المأمون وجد في يوم عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلاً عن الخروج الى الصلاة بالناس، فقال لأبي الحسن علي الرضا‌(ع): يا أبا الحسن قم وصل بالناس، فخرج الرضا‌(ع) وعليه قميص قصير أبيض وعمامة بيضاء لطيفة، وفي يده قضيب.. فلما رآه الناس هرعوا إليه وانثالوا عليه لتقبيل يديه، فأسرع بعض الحاشية الى الخليفة المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين تدارك الناس واخرج وصلّ بهم وإلا خرجت الخلافة منك الآن، فحمله على أن يخرج بنفسه وجاء مسرعاً، والرضا‌(ع) بعد من كثرة زحام الناس عليه لم يخلص الى المصلى، فتقدم المأمون وصلّى بالناس.
ومن هنا يبدو متوقعاً أن يسعى المأمون للتخلص من الامام‌(ع) عن طريق دس السّم اليه، كما سيأتي في محله من هذا البحث.
وخلاصة القول أن الإمام الرضا‌(ع) عاصر أحداثا سياسية جسيمة عصفت بالبيت العلوي خاصة وبالمسلمين عامة، فقد قضى شطراً كبيراً من عمره زمن هارون يشاهد مأساة العلويين، وخاصة بعد سجن أبيه‌(ع) ومن ثم اغتياله بالسم، ومعاصرته للصراع الدموي الذي تفجر داخل الكيان العباسي بين الاخوين ( الأمين والمأمون ) حيث انقسمت الدولة العباسية التي كانت كياناً واحداً الى شطرين متحاربين.
وفي خضم هذه الاحداث وقف الامام‌(ع) بكل شموخ مدافعاً عن صرح الإسلام العظيم، معريّاً السلطة مما كانت تذيعه من شرعية وجودها السياسي.
مقتبس من كتاب: [ الإمام الرضا‌(ع) سيرة وتاريخ ] / الصفحة: ۱۰ ـ ۱۷

برچسب ها :
ارسال دیدگاه