
مقالة
مع الأصول الأربعمائة
اعتاد شيعة آل البيت كتابة أقوال أئمّتهم في كتب، حتّى عُدُّوا بعملهم هذا من أوائل المدوّنين في الفقه الإسلاميّ. قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق عند ذكره مَن دوَّن الفقه:... وعلى كلّ حال، فإنّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأنّ اعتقادهم العصمة في أئمّتهم أو ما يشبه العصمة، كان حريّاً أن يسوقهم إلى الحثّ على تدوين أقضيتهم، وفتاواهم.
والأمر كما قاله الأستاذ وخصوصاً على عهد الإمامين الباقر والصادق (ع)، أي بعد انتهاء الحكم الأمويّ وابتداء الحكم العبّاسيّ الذي روّج أو ادّعى سياسة الانفتاح في أوّليّات سنينه، وبتعبير آخر: في فترة الشيخوخة الأمويّة والطفولة العبّاسيّة.
فالإمامان (ع) قد استفادوا من هذه الفرصة خصوصاً لمّا رأوا إقبال قبائل بني أسد، ومخارق، وطيّ، وسليم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبّة، وبني الحارث، وبني عبد المطّلب عليهم وإرسال فلذات أكبادها إليهم للتعليم.
وقد عدّ المزّيّ في ترجمة الإمام الصادق (ع) من تهذيب الكمال: سفيان بن عيينة ومالك بن أنس وسفيان الثوري والنعمان بن ثابت-أبا حنيفة-وسليمان بن بلال، وشعبة بن الحجّاج وعبد الله بن ميمون القداح، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وآخرين ممّن أخذوا عن الصادق (ع).
ونقل عن أبي العبّاس بن عقدة بسنده إلى الحسن بن زياد قوله: سمعت أبا حنيفة وقد سئل عن أفقه مَن رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلَيَّ فقال: يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر فهيّ له من مسائلك الصعاب. قال: فهيأت له أربعين مسألة...، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بَصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر فسلّمت، وأذِن لي... الخبر.
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة في مقدّمة كتابه الإمام الصادق - الذي ألّفه بعد كتب سبعة أُلّفت عن أئمّة المسلمين، وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعىّ، وابن حنبل، وابن تيميّة، وابن حزم، وزيد-: أمّا بعد فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب في الإمام الصادق، وقد كتبنا عن سبعة من الأئمّة الكرام، وما أخّرنا الكتابة عنه [أي الإمام الصادق] لأنّه دُونَ أحدهم، بل إنّ له فضل السبق على أكثرهم، وله على الأكابر منهم فضلٌ خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، ومن كان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة ومالك فحسب ذلك فضلاً، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص، ولا يقدّم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره، فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهريّ وكثيرون من التابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جمع الله تعالى له الشرف الذاتيّ، والشرف الإضافيّ بكريم النسب، والقرابة الهاشميّة، والعزّة المحمّديّة....
وفي حلية الأولياء: لقد أخذ عن الصادق جماعة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصارىّ، وأيّوب السختيانىّ، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وشعبة بن الحجّاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وغيرهم...
وقد علمت مما تقدّم أنّ هذا العِلم الضخم والأحاديث المتلقّاة من أئمّة أهل البيت (ع) قد دوّنت من قبل أصحابهم في صحف، وكان سهم الإمامين الصادق والباقر (ع) هو الأكبر، وقد أُطلق على هذه المجاميع تارة اسم (نسخة) وأُخرى (كتاب) وثالثاً (أصل) ورابعاً (رسالة) وغيرها.
روى السيّد رضي الدين عليّ بن طاووس في مهج الدعوات، بإسناده عن أبي الوضّاح محمّد بن عبد الله بن زيد النهشليّ، عن أبيه أنّه قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن (الكاظم) من أهل بيعته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك.
وقال الشيخ البهائىّ في مشرق الشمسين: قد بلغنا عن مشايخنا (قدس سرّهم) أنّه كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولهم لئلاّ يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام.
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين من رواشحه: قد كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا من أحدهم حديثاً بادروا إلى ضبطه في أُصولهم من غير تأخير.
قال الأستاذ عبد الحليم الجندىّ:
كان أوّل المستفيدين بالتدوين الباكر أُولئك الذين يلوذون بالأئمّة من أهل البيت فيتعلّمون شفاهاً أو تحريراً، أي من فم لفم أو بالكتابة، فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث، هو التراث النبويّ في صميمه... في حين لم يجمع أهل السنّة هذا التراث إلاّ بعد أن انكبّ عليه علماؤهم قرناً ونصف قرن حتّى حصلوا ما دوّنوه في المدوّنات الأولى، ثمّ ظلّوا قروناً أُخرى، يجوبون الفيافي والقفار في كلّ الأمصار... إلى أن يقول: وإذا لاحظنا أنّ من الرواة من قيل إنّه روى عشرات الآلاف من الحديث عن الإمام، تجلّت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الأمّة.
وإذا لاحظنا توثيق الشافعيّ ومالك وأبي حنيفة ويحيى بن معين وأبي حاتم والذهبىّ للإمام الصادق (ع) وهم واضعوا شروط المحدّثين وقواعد قبول الرواية وصحّة السند ـ فمن الحقّ التقرير بأنّ حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السنّة عن الإمام الصادق (ع).
والشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث إلى الإمام (ع)، لا يطلبون إسناداً قبل الإمام جعفر، بل لا يطلبون إسناداً قبل الأئمّة عموماً، لأنّ الإمام بين أن يكون يروي عن الإمام الذي أوصى له، وبين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه، إلى ذلك، فإنّ ما يقوله سنّةٌ عندهم، فهو ممحَّصٌ من كلّ وجه، فليست روايته للحديث مجرّد شهادة به، بل هي إعلان لصحّته.
وإذا كان ما رواه الصادق (ع)، رواية الباقر (ع)، ورواية السجّاد عن الحسين عن الحسن أو عن علىّ عن النبىّ (ع)، فهذا يصحّح الحديث على كلّ منهج، فالثلاثة الأخيرون من الصحابة المقدّمين، يروون عن صاحب الرسالة، إذ يروي الحسن والحسين عن علىّ عنه(ص).
ولا مرية كان منهج عليّ (ع) ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين، منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، وأقفل الباب دون افتراء الزنادقة والوضّاعين، فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة، ولمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة بالإجماع لعلىّ وبنيه، والسنّة شارحة للكتاب العزيز، وهو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة فهي كمثله حقيقة بالكتابة.
إنّما كان المحدّثون من أهل السنّة في القرون الأولى مضطرّين لسماع لفظ الحديث من الأشياخ، أو عرضه عليهم، لأنّ السنن لم تكن مدّونة فكانت الرحلة إلى أقطار العالم لتلقّي الحديث على العلماء، وسيلتهم الأكيدة.
وقال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عن الصادق (ع) من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل.
قال الشيخ الطبرسىّ في «إعلام الورى»: ولم ينقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات فكانوا أربعة آلاف رجل.
وقال في القسم الأول: وروى عن الصادق (ع) من أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب هي معروفة بكتب الأصول رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله، وأصحاب ابنه موسى الكاظم (ع).
وقال الشيخ محمّد بن علىّ الفتّال: وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف.
قال ابن شهرآشوب في «المناقب»: نقل عن الصادق (ع) من العلوم ما لا ينقل عن أحد وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الثقات على اختلافهم في الآراء فكانوا أربعة آلاف.
وقال المحقّق الحلّيّ في «المعتبر»: فإنّه انتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول، حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حد الالهية، وروى عنه جماعة من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل....، وكتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمُّوها أُصولاً.
وقال الشهيد في «الذكرى»: إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (ع)كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف ودوَّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز وخراسان.
وقال الشيخ حسين والد العلاّمة البهائىّ: ودوَّن العامّة والخاصّة ممّن تبرّز بعلمه من العلماء والفقهاء أربعة آلاف.
وقال أيضاً: قد كتب من أجوبة مسائل الإمام الصادق (ع) فقط، أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، تسمّى الأصول في أنواع العلوم.
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين [من «الرواشح السماوية»]: والمشهور أنّ الأصول الأربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من رجال أبي عبد الله الصادق (ع)، بل وفي مجالس السماع والرواية عنه، ورجاله من العامة والخاصة زهاء أربعة آلاف رجل، وكتبهم ومصنّفاتهم كثيرة إلاّ أنّ ما استقرّ الأمر على اعتبارها والتعويل عليها وتسميتها بالأصول هذه الأربعمائة.
وقال الشهيد الثاني في «شرح الدراية»: استقرّ أمر المتقدّمين على أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها أُصولاً، فكان اعتمادهم عليها، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، وألحقها جماعة في كتب خاصّة، تقريباً على المتناوِل، وأحسن ما جمع منها (الكافي) و(التهذيب) و(الاستبصار) و(من لا يحضره الفقيه).
وقد جاءت أسماء بعض أصحاب هذه المدوّنات في كتاب «الرجال» لعبد الله بن جبلة الكنانيّ المتوفّى سنة 219 هـ و(مشيخة) الحسن بن محبوب المتوفّى سـنة 224 هـ (، و(الرجال) للحسن بن فضّال المتوفّى 224 هـ، و(الرجال) لولده علىّ بن الحسن، و(الرجال) لمحمّد بن خالد البرقيّ، و(الرجال) لولده أحمد بن محمّد بن خالد الذي توفّي سنة 274 هـ، و(الرجال) لأحمد العقيقيّ المتوفّى 280 هـ، وغيرهم.
وقال الشيخ محمد تقي المجلسي في (روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه) 14: 327 وعند شرحه لمشيخة الفقيه قال: أحمد بن الحسين بن عبدالملك الأودي يقع غالباً في طريق الحسن بن محبوب عنه ويشتبه بغيره لو لم يذكر الجد... إلى أن يقول: والظاهر أنه لا يحتاج إلى الطريق أصلاً لأنه لا ريب في أنه كان أمثال هذه الكتب التي كان مدار الطائفة عليها كانت مشتهرة بينهم زائداً على اشتهار الكتب الأربعة عندنا، ولا ريب في أن الطريق لصحة انتساب الكتاب إلى صاحبه فإذا كان الكتاب متواتراً فالتمسك بأخبار الآحاد الصحيحة كان كتعرف الشمس بالسراج.
ثم يقول:... والمراد بكتاب المشيخة، الكتاب الذي صنفه الحسن بن محبوب وألفه من أخبار الشيوخ من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن(ع) فإنه روى عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبدالله (ع)كتبهم التي ألفوها ما سمعوا منهم وكان دأبهم أن يكتبوا كل خبر كانوا يسمعون في كتبهم كل يوم وكان الأخبار في تلك الكتب منثوراً لأنهم في كل يوم كانوا يسمعون من أحكام الطهارة والصلاة والحج والتجارة والنكاح والطلاق والديات وغيرها ويكتبون أخبار كل يوم في كتبهم. فرتب الحسن بن محبوب أخبار الشيوخ على ترتيب أبواب الفقه وكان منثوراً لم يكن مثل هذه الكتب التي لنا، ثم جمع هذا الشيخ على ترتيب أسماء الشيوخ بأن جمع على ترتيب إسم زرارة مثلاً وذكر أخباره مرتباً أولاً، ثم ذكر أخبار محمد بن مسلم مرتباً ثانياً وهكذا وكانت فائدة هذا الترتيب عندهم أكثر لأنهم لو أرادوا خبر زرارة مثلاً كانت مجتمعه في مكان ويمكن مقابلته مع أصلا زرارة وإن كان الترتيب الأول عندنا أحسن، ولهذا جعل مشايخنا الثلاثة كل كتابه مع ما وجدوه في أصول آخر في كتبهم الأربعة ولما كان هذا الترتيب أحسن وكانوا يقابلون مع الأصول ويجدون الجمع موافقاً تركوا تلك الأصول واعتمدوا على هذه الكتب.
وأيضاً قال المجلسي: وكانت هذه الأصول عند أصحابنا ويعملون عليها مع تقرير الأئمة الذين في أزمنتهم(ع) إياهم على العمل بها وكانت الأصول عند ثقة الإسلام، ورئيس المحدثين، وشيخ الطائفة أجمعوا منها هذه الكتب الأربعة ولما أحرقت كتب الشيخ وكتب المفيد ضاعت أكثرها وبقي بعضها. لكن لما كان هذه الأربعة كتب موافقة لها وكانت مرتبة بالترتيب الحسن ما اهتموا غاية الاهتمام بشأن نقل الأصول ثم ذكر المجلسي بعض الأسباب في عدم ذكر الرجالیين أصحاب الأصول في كتبهم الرجالية فقال:... وأما لبعد العهد بين أرباب الرجال وبين أصحاب الأصول وغيرهم من أصحاب الكتب التي تزيد على ثمانين ألف كتاب كما يظهر من التتبع. نقل أنه كان عند السيد المرتضى(رض) ثمانون ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقرواته وذكر الوشاء أنه سمع الحديث في مسجد الكوفة فقط من تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد (روضة المتقين 1: 87).
وقال الشيخ الطوسىّ في مقدّمة «الفهرست» (... وإنّي لا أضمن الاستيفاء، لأنّ تصانيف أصحابنا وأُصولهم تكاد لا تنضبط لكثرة انتشار أصحابنا في البلدان).
ونقل السيّد الأمين في أعيان الشيعة عن الحافظ أحمد بن عقدة الزيديّ الكوفىّ أنّه أفرد كتاباً فيمن روى عنه، جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم، ولم يذكر جميع من روى عنه.
فهذه المزايا هي التي دعت الشيعة أن تهتمّ بأُصولها قراءة ورواية وحفظاً وتصحيحاً، لأنّ فقهها وحديثها قد استقي منها.
المصدر: موقع مؤسسة السبطین العالمیة
برچسب ها :
ارسال دیدگاه