الفتنة كالنار، تشتعل لتأكل الأخضر واليابس، وتعمّ بأثرها القريب والبعيد. إنها امتحان للأرواح والعقول، اختبار تُكشَف فيه المعادن، وتُميَّز فيه السرائر. وفي خضمّ هذا الدرب الوعر، يُوجّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) نصيحته الثمينة قائلاً: "كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب."
هذه الكلمات الموجزة، ببلاغتها المعهودة، تحوي حكمة عميقة في كيفية التعاطي مع الفتن. فابن اللبون، وهو الجمل الذي لم يبلغ سنّ القوة ولا النضج، لا يحمل ظهرًا يتحمّل الأحمال، ولا يملك ضرعًا يُرتجى منه الحليب. إنه كائن لا يُستفاد منه في ركوب أو حلب، ولا يُؤمل منه أي نفعٍ مباشر. وهكذا، في الفتنة، ينبغي للمرء أن يكون في حال أشبه بحال هذا المخلوق: بعيدًا عن أن يكون أداةً تُستغل أو طرفًا يُستنزف.
فالفتنة، مهما تنوعت أشكالها- سياسية كانت أم اجتماعية، فكرية أم طائفية- تحتاج إلى تعامل حكيم. إذا اندفع المرء في أتونها، أصبح وقودًا لها أو أداةً بيد من يشعلها. أما إذا التزم الحياد الواعي، فإنه يحافظ على نقاء نفسه ووضوح بصيرته، فلا يكون عونًا لظالم ولا سببًا في معاناة مظلوم.
وهذا الموقف ليس دعوة إلى السلبية، بل هو دعوة إلى التعقّل. فالتورط في الفتنة يُفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، ويُعمي بصيرته عن الصواب. أما التريث والابتعاد، فيمنحان الفرصة للتفكر والتبصر، حتى ينكشف غبار الفتنة ويظهر الطريق جليًا.

إن هذا المبدأ النبيل ليس محصورًا بزمان أو مكان؛ فهو قاعدة ذهبية لكل عصر يعصف فيه التشويش والاضطراب. فكن في الفتنة ثابتًا كالجبل، لكن خفيفًا كابن اللبون؛ لا يُمكن أن تُركب ظهرك المصاعب، ولا تُستنزف طاقاتك بلا فائدة.