تتكرر دعوات العديد من الجهات الدينية والاجتماعية والإنسانية إلى السلطات السعودية بشأن الاستجابة لمطلب بناء أضرحة مقبرة البقيع، الكائنة بالقرب من المسجد النبوي في المدينة المنورة، منذ أن قامت السلطات السعودية الحاكمة بعملية هدم هذه المقبرة، وذلك لكونها أول وأقدم مقبرة للمسلمين، وقد حرص النبي الكريم(ص) على زيارتها دائما، وإن النبي جعلها أول مكان من ثلاثة أماكن زارها قبل موته، وهو مثقل بالمرض، الأولى كانت للبقيع، والثانية لمقبرة شهداء أحد، والثالثة ليخطب في الناس. وتضم أضرحة عدد كبير الصحابة والصحابيات الأجلاء، وفيها قبر السيدة فاطمة بنت أسد والدة علي بن أبي طالب(ع) ومربية النبي التي كان يدعوها بـ «أمي» وقال فيما يروى عنه «ما أعفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد» وفيها عدد من أئمة أهل البيت(ع) ومنهم السجاد والباقر والصادق. يستند قرار هدم قبور مقبرة البقيع إلى اجتهاد علماء المذهب الوهابي، وهو المذهب الحاكم في السعودية الذين يرون أن تعظيم القبور هو عبادة لها، وأنها صارت كالأصنام تعبد من دون الله تعالى، وأنه تعالى نهى عن البناء على القبور؛ وذلك بحسب فتوى علماء أهل المدينة في حينها التي تنص على الآتي: أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث علي(ع) أنه قال لأبي الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله(ص) أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته؛ رواه مسلم. وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع لحديث ابن عباس: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أهل السنن. وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ودعاء أهلها مع الله، فهو حرام ممنوع شرعا لا يجوز فعله أصلاً. وأما التوجه إلى حجرة النبي(ص) عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب؛ ولأن أفضل الجهات جهة القبلة. وأما الطواف والتمسح بها وتقبيلها؛ فهو ممنوع مطلقاً. وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة، فهو محدث هذا ما وصل إليه علمنا. بينما ترى المذاهب الأخرى جواز زيارة القبور والتعبد فيها، استنادا لقول الرسول(ص) (كُنْتُ نَهَيْتُكُم عَنْ زيارَة الْقُبُور، فَزُورُوها فَإنَّها تُزَهِّدُ في الدُّنْيا وتُذَكِّرُ الآخِرة) وأن علماء الإسلام وفقهاء الشريعة قد أفتوا بجواز زيارة القبور، وخاصّة قبور الأنبياء والصالحين، استناداً إلى مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وبالإضافة إلى الجواز فإنّهم أفتوا باستحبابها وفضيلتها. يقول علماء الإسلام إن نهى الله ونبيه نهي كراهة وتنزيه، لا نهي منع وتحريم عن الاهتمام ببعض الآثار التاريخية والثقافية، وذلك من قبيل الأبنية على القبور، فقد ورد في الحديث ما يدل على كراهة تشييد الأبنية على القبور، وخرجت عن هذا العموم مقابر النبي والأئمة والصالحين لورود الدليل بتخصيص هذه الكراهة لغير مقابر الرسول وأهل البيت والصالحين من أوليائهم التي يشملها قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغُدُوِّ والآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. ولو كان البناء على قبور المؤمنين محرما كما يقول الوهابيون؛ ولو كانت زيارة قبور المؤمنين محرمة؛ فلماذا لم يمنع علماء المدينة المنوّرة البناء على القبور من ذي قبل؟ ولماذا لم يفتوا بوجوب هدمه طيلة هذه القرون من صدر الإسلام، وما قبل الإسلام، وإلى اليوم الأسود الذي اقترف فيه آل سعود تلك الجريمة البشعة؟ وبناء على ذلك، فالمساجد والأماكن المختصة بالعبادة والأماكن التي صلى فيها النبي والأئمة من أهل البيت(ع) أو مقابرهم التي يقصدها الناس للصلاة عليهم هي من أهم القربات التي أكدتها النصوص الشرعية ـ وكذا الأماكن المختصة بنشر العلم وغير ذلك من القربات الشرعية، كل ذلك مما يعتبر من شعائر الله التي يجب تعظيمها وعمارتها وصيانتها، ويحرم التفريط بها والتساهل في صيانتها أو أي عمل يوجب الوهن في المعلم الرباني أو الحط من قدر الشعار الإلهي وشأنه عند الناس. كما ترى المنظمات الإنسانية والأممية التي تعنى بالتراث والتاريخ أهمية هذه المقابر والمحافظة عليها وصيانتها من العبث وترميمها كونها تمثل معلما تاريخيا وحضاريا يعكس تاريخ الأمم وحضارتها الإنسانية عبر التاريخ، ومن حق الشعوب والأمم ان تفتخر بتاريخها ورموزها وعلماء بل ترى من الواجب على جميع الحكومات والشعوب أن تستنهض الهمم، وتشرع القوانين، وترسم الخطط، وتضع الاستراتيجيات، وتجمع الأموال من أجل المحافظة عليها وصيانتها ما وسعها ذلك، استنادا إلى النصوص القانونية الدولية. فقد نصت المادة (53) من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف على أنه (تحظر الأعمال التالية، ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب) ونصت المادة(16) من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف على أن (يحظر ارتكاب أية أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية وأماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب، واستخدامها في دعم المجهود الحربي). أما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (روما) لعام 1998 فقد عدّ الاعتداء على المباني الدينية إحدى جرائم الحرب وذلك في (الفقرة 2 من المادة 8) من هذا النظام حيث نصت على أن (2-تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية…). وفي هذا الإطار، يرى عموم فقهاء المسلمين والمفكرين والمثقفين، أن للتراث الثقافي الإسلامي وظيفة مهمة في استمرارية هوية الأمة والحفاظ على ثقافتها وقيمها الحضارية، حتى يمكن القول إن من غير الممكن أن تكون للأمة ثقافة يُقَوَّم بها كيانها الروحي والمعنوي من غير تراث ثقافي يمدّ روح الأمة وشخصيتها الفكرية والثقافية بالمضمون الثقافي الخاص، وبالقيم الحضارية المنبثقة منه. بناء على ما تقدم فان وقوع هذه المقبرة التاريخية في ضمن أراضي التابعة للمملكة العربية السعودية لا يعطيها الحق أبدا بالتصرف فيها منفردة، وكان ينبغي عليها أن تراعي في هذا المجال الاعتبارات الدينية والمذهبية والإنسانية الآتية: 1. إن مقبرة البقيع هي أول وأقدم مقبرة في تأريخ المسلمين، ولها بعد ديني وعقائدي لأتباع الديانة الإسلامية من حيث أنها شهدت أحداثا تاريخية كبيرة، كان للرسول الكريم دور بارز فيها، كما أنها تضم رفات العديد من الصحابة الأجلاء وأئمة أهل البيت، وهؤلاء جميعا يمثلون تاريخا ناصحا لجميع المسلمين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم، فلا ينبغي أن يتصرف مذهب دون مذهب، ولا حكومة دون حكومة، وإن كانت هذه المقبرة تقع تحت حكم دولة ما أو يسودها مذهب ما. 2. إن كثيرا من المذاهب الإسلامية، لاسيما مذهب أهل البيت؟عهم (الشيعة) لا ترى أي مانع شرعي يحول دون بناء هذه المقبرة أو ترميمها أسوة بالمسجد النبوي الذي يضم قبر الرسول(ص) والمقابر الإسلامية المنتشرة في العديد من الدول الإسلامية والتي تمثل معالما حضارية ودينية يرتادها السائحون والمسلمون بقصد التقرب إلى الله من خلال استذكار المواقف البطولية والعقائدية والإنسانية لتلك الرموز. ولا يجوز للحكومة السعودية، ولا للمذهب الوهابي أن يفرض اجتهاده وتصوراته على أتباع مذهب آخر، بل ينبغي السماح لهم بالتعبد والتبرك بالطريقة التي يراها علماءهم. 3. إنّ المسلمين كانوا يحافظون على جميع الآثار والأماكن الإسلاميّة المقدَّسة إلى ما قبل تواجد الوهابيّة في مدينتَي مكّة والمدينة، ولم يصف أحد منهم زيارة قبور الأكابر بالشرك، ولكنّ الوهابيّين قاموا بتخريب الآثار الإسلاميّة عندما سيطروا على هاتَين المدينتَين، وكادوا يدمّرون المرقد المطهّر للرسول(ص)، إلّا أنّ الخوف من ردود أفعال المسلمين صرفهم عن ذلك. 4. ينبغي أن لا ننسى أنّ الأبنية والآثار التاريخيّة هي الهويّة لأيّ ثقافة، وحتّى آل سعود أنفسهم يحافظون على كثير من الأماكن التاريخيّة المتعلّقة بهم، ومنها قصورهم التاريخيّة، وينفقون مبالغ سنويّة باهظة من أجل المحافظة عليها. ولكن العجيب أنّهم يدمِّرون كلّ الآثار التي ترمز إلى الإسلام والتاريخ الإسلاميّ المُشرق. وهذا أحد أهمّ الاختلافات بين المسلمين والوهابيين الذين يحاولون إبراز ذلك على أنّه اختلاف بين الشيعة والسنّة. 5. إن هدم أي معلم تاريخي وارث حضاري في أي دولة يعد انتهاكا صريحا للقوانين الدولية التي تعنى بالآثار والتاريخ. وعلى المجتمع الدولي أن يأخذ دوره، ويتحمل مسؤوليته القانونية والأخلاقية، ويدافع عن حقوق الأمم والأجيال، ويطلب من سلطات المملكة العربية السعودية إعادة بناء قبور أئمة البقيع وإرجاعها بشكل أفضل مما كانت عليه قبل هدمها، لان بقاء مقبرة البقيع بهذا الشكل يعد إهانة للعقيدة والتاريخ الإسلامي وانتهاكا للتراث الإنساني، ويعد بقاءها بهذا الشكل تحريضا على العنف والكراهية، وعلى شرعية استهداف الأماكن العبادية المقدسة للشيعة والمسلمين ومختلف الأديان.