printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الثاني
حرب الروايات؛ إعلامنا وإعلامهم

‏8 – كيف للبشرية اخذ العبرة في مسألة الحفاظ على الحقيقة واستمراريتها رغم تقادم الزمن؟
للبشرية نمطان في التعامل مع الحقائق المتواترة عبر الزمن: نمط يأخذ جزءا من الحقيقة ويغض النظر ‏عن الباقي، ونمط يعتبر من الحقيقة بجميع أبعادها.‏
رغم تقادم الزمن، فإن تطوّرات الأحداث وأدوار الاقوام لها أساسها واستمراريتها عبر التاريخ ويجب ‏أخذ العبرة منها باعتبارها جزءا من حقبة زمنية تشكل حيزا من الدراسات التاريخية قديمة وحديثة.‏
نحن نلمس مثالا واقعة كربلاء ودور الإمام الحسين(ع) في تلك الحقبة الزمنية. لقد اختار الإمام ‏الحسين(ع) قرار الحرب والمواجهة رغم علمه بأنه محكوم بالشهادة. ونرى في تحليل الكثيرين من ‏الناحية العسكرية أنها تعتبر هزيمة، أما من ناحية الاعتبارات التاريخية وتطورات الأحداث السياسية ‏التي جرت ونقلت عبر الأجيال لتصلنا في زماننا الحالي، فإن الحفاظ على تفاصيل هذه الرواية ‏وأهداف هذا الحدث بأبعاده المختلفة يعتبر انتصارا تاريخيا عظيما.‏
نحن نعتبر كربلاء امتدادا للمواجهة بين الحق والباطل، بين الخير والشر اللذين كانا ولا زالا قطبي ‏الصراع الدائمين عبر التاريخ، وهذه الرواية التي نقلت من جيل إلى جيل، والفضل الأول يعود في ‏ذلك إلى السيدة زينب(س)، المرأة، والعاقلة المتزنة التي اخذت على عاتقها حمل هذه الرسالة الثقيلة، ‏فكانت والامام زين العابدين ابن الإمام الحسين(ع)، الشاهد على واقعة كربلاء والناقل لتفاصيل ‏رواياتها عبر رحلة السبي الأليمة، حيث كانا هنا يأخذان الدور الاعلامي في نقل المواقف والأحداث ‏بأسلوب العزاء، فكانا، إضافة إلى كلّ من تجاوب مع كلامهما وموقفهما وشاركهما تعقّل الحقيقة ‏والعزاء في فجيعة هذا القتل الأليمة، سببا في وصول هذه الملحمة التاريخية إلى يومنا هذا دون انقطاع ‏منذ ألف واربعمئة سنة.‏
إن العبرة العميقة التي تحملها ملحمة عاشوراء، واستمراريتها المتصلة بزماننا رغم تقادم الاحقاب على ‏أحداثها، تبدأ في حقيقة كونها كتابا مفتوحا لا ينضب فحواه، فكيف لحادثة عريقة أن تظل حقيقة ‏متواترة بهذا الوضوح عبر الشعوب والأقوام، لتصبح بعد ذلك ثورة عالمية وحقيقة عالمية وعبرة ‏عالمية لتشمل جميع الناس دون استثناء. فإذا اخذناها باعتبارها قصّة ثائر ضدّ الإرهاب، ففيها ما ‏يكفي من احداث وعبر للناس باختلاف افكارهم واعتباراتهم ليميزوا بين الخير والشر والحق والباطل ‏ويعرفوا حقيقة الإنسان ودوره الاساسي في كيفية أخذ المواقف في مثل هكذا أحداث.‏
نحن الذين وصلت الينا هذه الرسالة التاريخية وتلقفنا حقيقتها وعبرتها، نعتبر التهديد الزماني والتهديد ‏المكاني باعتبار اللحظة، كلّ يوم هو عاشوراء وكل مكان هو كربلاء، واذا ما حفظنا هذه العبرة وهذه ‏الحقائق التاريخية وآثارها نستطيع بذلك الحفاظ على قيمنا وهويتنا وقوتنا ومناعتنا التي تحفظ لنا ‏أحقية المواجهة والنتيجة القائمة عليها ألا وهي النصر المستمد من الله تعالى، رغم كلّ ما قد تشهده ‏البشرية من تقلبات زمانية ومكانية وما يتبع ذلك من احداث وتطورات.‏
‏9 – فلسطين الرواية: كيف استطاع العالم الافتراضي تحويل حرب الروايات إلى كفة الفئة المستضعفة ‏والمنكوبة في غزّة، حتّى تنطلق الحملات الاعلامية المناهضة للاستعمار من عقر دار المستعمر، ومن ‏قلب جمهوره ومجتمعه؟
لم يكن الإعلام الغربي او القنوات الغربية كـ ‏BBC‏ وCNN‏ وfox news‏ وغيرها من القنوات العاملة ‏لصالح الكيان الصهيوني، لم تكن تتوقع أن التغطية الاعلامية قد تصل لهذا المستوى في نقلها وقائع ‏الحرب على غزّة وتطورات الأحداث في جنوب لبنان ومواجهات المقاومة الإسلاميّة في العراق ‏وكذلك خصوصا التدخل اليمني الشجاع والبطل في هذه الحرب، الذي استطاع تهديد جبهة العدوّ ‏وتوجيه خطر مباشر للأميركـي وتلويح وقوع حرب عسكرية معه. كلّ هذه التفاصيل لم تكن ضمن ‏توقعات الجبهة المعادية او اعلامها، ولم يتوقع ان العالم سيتعرف بهذا العمق على الشعب الفلسطيني ‏المستضعف والمقاومة بشكل عام ضمن هذه الحرب الاعلامية.‏
فإن الدكتاتورية التي يعيشها الغرب وخصوصا الدكتاتورية الاعلامية، على الرغم من قدراته وتقنياته ‏التي تخوّله نشر ومحو ما يحلو له من وقائع، والحدّ من وصول المنشورات المختلفة والحسابات ‏الداعمة للقضية إضافة إلى التحكم بمنع نشر أسماء وصور كبار قادة ورايات جبهات المقاومة، كلّ ‏هذه القدرة لم تستطع منع صورة وصوت الحقيقة من الانتشار حول العالم وبشكل اوضح من المتوقع.‏
الغرب متناقض في مفاهيمه، وبالتالي فإن نتيجة أفعاله لن تكون متوازنة، ألم يوهم العالم أجمع أن ‏الديموقراطية من قيمه؟ ثمّ إنه يدعم في رواياته التاريخية شخصا بوحشية الاسكندر المقدوني الذي ‏قتل الكثير من الناس في آسيا وإيران وبلاد الشام وجعل من دكتاتوريته بطولة في الفكر الغربي، ‏وعلى إثر هذا تسير الرواية الاعلامية الغربية لما يحدث في غزّة، حيث علا صوت الغرب تضامنا مع ‏‏40 طفل (مزيف) من الصهاينة بادعائه أن مجاهدي المقاومة الفلسطينية كانوا السبب في قتلهم، ‏ليتضح بعدها زيف هذا الادّعاء، فليس فقط لم تعتدي المقاومة على الأطفال، بل ليس هناك في أصل ‏الحدث أطفال أصلا. هذا وفي المقابل يقتل ثمانية آلاف طفل فلسطيني وترى الغربيين صما بكما ‏عميا عن كلّ تلك الأرواح المزهقة، ذلك لأن مصالحهم تستدعي ذلك.‏
إذا فحضارة كهذه قائمة على التناقض ومنجرة وراء المصالح الدونية التي تحققها بالقتل والدمار ‏والإرهاب، يضاف إلى سجلها آلاف الأحداث التاريخية مثل هيروشيما وناكازاكي في اليابان خلال ‏الحرب العالمية الثانية، وفي (درزن) في ألمانيا خلال نفس الحقبة، وكثير من الأحداث في افريقيا ‏وأميركا اللاتينية.‏
لقد عجز الغرب عن السيطرة على وسائل الإعلام، بل لقد عجز عن إيقاف تفشي الحقيقة التي دفعت ‏بشعوب تلك القارات إلى التظاهر وملء الشوارع بهتافاتهم واستغلال جميع قدراتهم في دعم الشعب ‏المظلوم في فلسطين، فلم يوفروا وسيلة بدءا من التظاهر، والنشر على مواقع التواصل، وحتّى صناعة ‏المحتوى والكثير من الأعمال المميزة في الدفاع عن أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه المغتصبة. لم تعد ‏هذه الحقيقة خفية عن أحد في الغرب، لم تعد تقتصر على المسلمين أو العرب في بلاد الاغتراب، بل ‏وصلت إلى اسماع وابصار شعوب الغرب جمعاء من اوروبيين وأميركيين وغيرهم. اولئك الذين ولدوا ‏وتربوا في هذه البيئة العنجهية، استيقظوا على أصوات صراخ اطفال غزّة، ليعرفوا حقيقة ما يعاني شعب ‏فلسطين الأبيّ، ما دفع بأحد النشطاء للقول: (فلسطين حررتنا)!‏
وهذا أمر ليس بالهيّن، أن يظهر من بوتقة الثقافة التحررية، ثقافة الممثلين الغربيين، من تحررت ‏بصيرته ليستطيع النظر خارج اطار ثقافة سيطرة التواصل الاجتماعي والاعلام الغربي بكل ما لديه من ‏قوة الايهام والسيطرة على العقول، وهذا (التحرير) يعد ضربة قوية موجعة استطاع تحقيقها مجاهدو ‏المقاومة في عملية طوفان الاقصى، ومن يشد على ايديهم من مؤيدين، لتشكل داعما كبيرا مؤازرا ‏لساحة الحرب الميدانية العسكرية. أقولها بكل جرأة، لقد بدأ الغرب بفقدان تلك القوّة التي استطاع من ‏خلالها نشر ثقافته إبان الحروب الصليبية وما بعدها، لقد بدأت شعوب الغرب بالتحرر من آثار الحرب ‏الاعلامية والروائية الغربية وأبسط دليل على ذلك تأثر هذا الكم الهائل من الناس بقضية فلسطين إلى ‏أن ملؤوا شوارع دولهم، بدءا من اوروبا وأميركا وصولا إلى اليونان والبرازيل وحتّى بعض بلاد الشرق ‏كاليابان وكوريا الجنوبية، حتّى العاصمة الفرنسية باريس، وكذلك العاصمة البريطانية لندن التي شهدت ‏تظاهرة حاشدة بآلاف مني المحتجين، الأمر الذي دفع بإعلامهم إلى اتهام إيران بنشر اتباعها في لندن ‏والذي علق عليه السيد القائد الخامنئي بالسخرية.‏
لقد كان للحملات الاعلامية الداعمة للقضية الفلسطينية الدور الاكبر، كما نخص بالذكر اخواننا في ‏الإعلام الحربي في المقاومة الإسلاميّة في لبنان، الذين أدوا دورا عظيما منذ بداية الحرب بالتغطية ‏المباشرة لكل حدث، ولا ننسى دور دم رفاقنا الشهداء الذين نخصهم بالتحية من على هذا المنبر.‏
باعتقادي أن هذه الحملات وتوسعها لن يتوقف عملها بل وسيظل أثرها ممتدا حتّى وإن توصلت ‏الأطراف المتنازعة إلى اتفاقية إطلاق نار. صوت الحق هذا لن يوقفه هدير منصات الباطل، بل سيزداد ‏قوة، وأرى أننا نملك من القوّة ما يخولنا البدء بتأسيس منصاتنا الخاصة في التواصل الاجتماعي ‏وغيرها من المواقع لمنافسة نظيراتها التابعة لقوى الاستعمار، بل ويجب اعتماد لغات أجنبية إضافة ‏إلى اللغة الأم كي ينتشر صداها في المجتمعات العالمية بشكل أوسع بعد أن بدأت بالتعرف على حقيقة ‏الصراع العالمي في القرن الحالي.‏
 
للتاريخ قدرة عجيبة في إعادة نفسه. تتكرّر أحداث التاريخ وتنتهي بخلاصات وعبر فيها من آثار ‏رحمة الله ما يبني في نفس الإنسان مناعة وصلابة وثباتا سموًّا به نحو مطلبه وإنسانيته.‏
الهوية، مناعة ضدّ أي هزيمة، تقوم على معرفة الزمان وأهله، ومعرفة النفس كما معرفة العدو. هنا ‏حيث تظهر نقاط الضعف والقوّة، وتدرس، حتّى يصار إلى بناء حصن يمنع كلّ فرد من جماعة من ‏الوقوع في أباطيل الوهم، أو تسلق سلالم السراب.‏
 
 
حفظ التاريخ، والثبات على الهوية، قائم على اخذ العبرة وعدم الغفلة والتجاهل اللذين يسببهما توهم ‏القوّة والمعرفة، والعبرة مفهوم ثابت متسلسل لا يقطعه أعتى حدّ من اعاصير الحروب النفسية.‏
تباد الأقوام، ولا يتوقف قلم الأزمان عن نقل الرواية. الرواية وشم مختوم بالدم، وبعض الصبر والكثير ‏من اليقين والايمان، أعمق من الجرح، عمق الأنفس في الأرواح السّارية.‏
المصدر: موقع الناشر الإلکتروني