مقالة
مدخل إلى بحث التبليغ في نهج البلاغة
تظهر عظمة كتاب نهج البلاغة بشكل أعمق وأكبر عند القيام بعملية تحليل موضوعي له. ولعل مسألة تبليغ الدين واحدة من الموضوعات الجديرة بالبحث في نهج البلاغة حيث يمكن دراستها من وجهتي نظر:
الأولى: تتعلق بالأبحاث التي تدور حول التبليغ، والثانية: حول تحليل نهج البلاغة من وجهة نظر الأساليب التبليغية التي اعتمدها الإمام علي عليه السلام في كلامه.
سنسعى في هذه المقالة تقديم بعض النماذج لعلها تشكل الخطوة الأولى في مجال اهتمام الطلاب بهذا الموضوع.
في البداية ينبغي علينا تعيين أجزاء الرابطة التبليغية وكيفية العلاقة بين هذه الأجزاء. وعلى هذا الأساس تتشكل الرابطة التبليغية من ثمانية أجزاء على النحو الآتي، حيث سنقترح لكل واحدة منها شكلاً معيناً للدلالة عليها:
١ ـ مرسِل الخِطاب التبليغي.
٢ ـ المُخاطَب بالخِطاب التبليغي.
٣ ـ الخِطاب.
٤ ـ أدوات إرسال الخِطاب.
٥ ـ أسلوب إرسال الخِطاب.
٦ ـ ظرف إرسال الخِطاب (الزمان والمكان)
٧ ـ ردّات الفعل بعد إرسال الخِطاب.
٨ ـ الموانع وعوامل الإختلال
ويظهر الشكل التالي كيفية إرتباط الأجزاء مع بعضها
سنلاحظ فيما لو اعتمدنا الشكل المتقدّم للإرتباط في نهج البلاغة أنّ الإمام أمير المؤمنين(ع) قد أشار إلى تلك الأجزاء التي تقدم ذكرها.
ما سنتحدّث حوله في هذا المقال عبارة عن مقتطفات من كلمات أمير المؤمنين(ع) يشير فيها إلى كلّ واحد من الأجزاء السابقة، لعلّ هذا العمل يكون خطوة أولى تسمح للمحققين بدراسات واسعة.
*يمكن دراسة التبليغ في نهج البلاغة من زاويتين وذلك بناءً على الشكل المتقدم:
الأسلوب الأول: هو النظر إلى نهج البلاغة باعتباره خطاباً دينياً ومن ثم السعي لتحليل الأجزاء الأخرى لعملية نقل هذا الخِطاب إلى الآخرين. فإذا كان نهج البلاغة خطاباً دينياً عندها سيكون الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو المرسِل، والمخاطَبون هم الناس في ذاك العصر، أي جيش الإمام(ع)، أهل المدينة، أهل الكوفة، جيش الأعداء والأشخاص الذين تربطهم علاقة ما بالإمام(ع)، كالإمام الحسن(ع)، محمد بن أبي بكر، مالك الأشتر، عثمان بن حنيف، الولاة الذين عيَّنهم الإمام، أعداء الإمام كمعاوية وزياد ابن أبيه، ومن جهة أخرى يمكن اعتبار كل من يقرأ هذا الكتاب من جملة المخاطَبين.
أما الأدوات التي اعتمدها الإمام لإرسال الخِطاب فهي الخطابة، كتابة الرسائل، العهود، وقد استعمل الإمام(ع) أساليب متعددة لجعل خطابه مؤثِّراً من جملتها: البرهان، التمثيل، التَكرار، العِتاب، المدح، التحذير، الترغيب، القَسَم، الإعتماد على التأريخ والإعتماد على القرآن.
أما ظرف ارسال الخِطاب من الناحية المكانية فهو محل حياة المخاطبين في تلك البرهة الزمنية، وأما الظرف الزماني فيتركز أغلبه في الفترة الواقعة بين العام ٣٥ إلى العام ٤٠ هجري قمري. وأمّا ردات الفعل فهي ما كان يظهر من آثار بعد الخِطاب أو إِرسال الرسائل والكتب.
أما الموانع وعوامل الاختلال فهي كافة الأمور التي كانت تمنع ايصال الخِطاب في حياة الإمام(ع) أو فهم مفادها. يضاف إليها الموانع التي ظهرت بعد شهادة الإمام والتي كانت تشكّل مانعاً أمام وصول الكتاب إلى مريديه.
طبعاً يحتاج البحث التفصيلي في جميع هذه الأمور إلى مجال أوسع وهنا سنكتفي بذكر بعض المعلومات والعبارات التي ذكرها الإمام في كل واحد منها.
*مُرسِل الخِطاب التبليغي
الله تعالى هو مصدر كافة الخطابات التبليغية الدينية ثم يأتي في السلسلة الطولية أنبياء الله تعالى عليهم السلام والرسول الأكرم(ص) والأئمة الهداة(ع) وأولياء الله والواعظون المُتّعِظِون.
- «فبعثَ فيهم رسله وواتَر إليهم أنبيائه ليستأدّوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم مَنسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ».
- «بل تعاهدهم بالحجج على أَلسن الخِيرة من أنبيائه، ومتحمِّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً، حتى تمَّت بنبينا محمد(ص) حجّتُه وبَلَغَ المقطع عذره ونذره».
- «إن الله بعث محمداً(ص) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل».
- «بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السرار...».
- «أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ».
المخاطَب ومتلقِّي الخطاب عامة الناس، المسلمون، المؤمنون وخاصة المؤمنين.
«أيّها الناس أني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم...».
«أيّها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ».
«اللهم أيّما عبد من عبادك، سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة..».
«واختار من خلقه سُمّاعاً، أجابوا إليه دعوته».
«فاتعظوا عباد الله...».
«إلى أصحاب المسالح».
«أي بنى...».
*الخطاب
القرآن الكريم هو الخِطاب الديني التبليغي الأساس، وبعد ذلك يمكن الحديث عن العبر كخطابات تبليغية:
«كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاَله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه, وخاصّه وعامّه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه...».
«فاتعظوا عباد الله بالعِبر النوافع، واعتبروا بالآي السواطع، وازدجروا بالنُذُر البوالغ، وانتفعوا بالذكر والمواعظ».
*أدوات ارسال الخطاب
اللسان هو الأداة الأساسية لنقل الخِطاب ثم يليها أدوات هامة كالعمل الصالح والاطمئنان والسكون:
«إن اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه من لا يحمده».
«وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى».
«ليعظكم هدوي، وخفوت أطراقي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ، والقول المسموع».
«لم يذهب من مالك ما وعَظَك».
*أساليب ارسال الخطاب
يمكن الاستعانة بأساليب متعددة لنقل الخِطاب الديني من جملة ذلك الموعظة، القول الحق، الصدق والصواب، الابتعاد عن الفحشاء، إرادة الخير، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تذكر أيام الله، حسن العشرة، العمل بالأقوال...
«أعظكم بالموعظة البالغة».
«إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه: الابلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة والإحياء للسنّة...».
«أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية».
«أيّها الناس أني قد بثثت لكم المواعظ، التي وعَظَ الأنبياء بها أممهم...».
«منطقهم الصواب».
«بعيداً فحشه، ليّناً قوله».
«أني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر».
«من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم».
«دع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلف».
«وقولاً بالحق».
«لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم...».
«وذكّرهم بأيام الله».
«سَع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك».
«من علم أنّ كلامه من عمله، قلّ كلامه، إلا فيما يعنيه».
«خالطوا الناس مخالطة إِن مُتّم بكوْا عليكم، وإن عِشتم حنّوا إليكم».
«العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل»
«لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم».
«رب قول أنفذ من صول».
«قليلٌ مدوم عليه، خير من كثير مملول منه».
«إن كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً، وإذا كان خطأً كان داءً».
«فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق».
*ظرف ارسال الخطاب
«بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخير من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً حتى تمّت بنبينا محمد(ص) حجته، وبلَغَ المقطع عذره ونذره».
«إن الله بعث محمداً(ص) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل».
*ردات فعل الخِطاب وآثاره
عند صدور الخِطاب الديني يميل إليه بعض الناس ليؤيدوه ويتخلف عنه البعض الآخر فيتحركون في طريق الضلال والعداء:
ـ «واختار من خَلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوتَه، وصَدّقوا كلمتَه، ووَقَفوا مواقف أنبيائه وتشبّهوا بملائكته... ».
- «أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه».
- «السعيد من وعظ بغيره، والشقي من انخدع لهواه».
- «استنفرتكم الجهاد، فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا».
- «اللهم أيّما عبدٍ من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والابطاء عن إعزاز دينك... ».
- «وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده».
*الموانع وعوامل اختلال ارسال الخطاب
هناك العديد من الموانع من جملتها عدم الاهتمام بميول وحاجات الناس، عدم الاعتقاد وعدم الاتعاظ، التكبّر العلمي، وعدم عمل المبلغ بأقواله وكذلك سخافة كلام المبلغ ومقاومته للحق والغرور...
- «من أسرع الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون».
- «يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ، فهو بالقول مُدلّ، ومن العمل مُقل».
- «من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله».
- «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».
- «إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً وإن حكيت ذلك عن غيرك».
- «ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب».
- «الناس أعداء ما جهلوا».
- «بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرّة».
- «من لم يستقم به الهدى، يجْرِ به الضلال إلى الردى».
- «واعلموا أنه من لم يُعِنْ على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ».
المصدر: موقع «في رحاب نهج البلاغة» الإلکتروني