البيئة الفكرية في النجف الأشرف إلى عصر الشيخ المظفر “ره”..
لمدينة النجف الأشرف کیان خاصّ ميّزها عن غيرها من الحواضر والمدن الإسلامية. فكان هذا التمييز متأتّیاً من عمق تاريخي لمثلث حضاري: «الحيرة والكوفة والنجف» قبل الإسلام، وبشرف استحقته بعد الإسلام بوجود قبر وصيّ الرسول الأعظم (ص) الذي قال فيه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» ليكون هذا القبر امتداداً للعطاء الفكري والديني والسياسي لهذه الشخصية الخالدة،
تاريخ الحركة العلمية
فقد أرجع البعض تاريخ الحركة العلمية إلى أنّها امتداد لمدرسة الكوفة، وإلى ما قبل هجرة الشيخ الطوسي في بداية القرن الرابع الهجري؛ مستدلّين على ذلك بصدور بعض الإجازات العلمية من النجف الأشرف، کالإجازة التي يذكرها الشيخ النجاشي (ت: ۴۵۰ ه) عند ترجمته للحسين بن احمد البوشنجی بقوله: «أجازنا بروايته أبو عبد الله بن الخمري الشيخ الصالح في مشهد مولانا أمير المؤمنين علیه السلام سنة أربعمائة عنه».
واعتبر الدكتور حسن الحكيم أنّ بناء عضد الدولة البويهي للرواق العلوي عند زيارته للنجف (عام ۳۷۱ هـ) الذي بقي إلى (سنة ۷۵۳ هـ)، وشاهده ابن بطوطة في رحلته دلالة على اعتبار هذا الرواق أول مدرسة علمية اتّخذها الفقهاء مكاناً للدرس والتدريس.
واستدلّ آخرون بوجود بعض الأسر العلمية النجفية آنذاك التي أنجبت عدداً من رجال العلم والفضل كأسرة «آل الطحال» وهي إحدى الأسر التي تسلّمت مفاتيح الروضة الحيدرية الشريفة، وامتدّ وجودها وشهرتها إلى القرن السادس الهجري و من أعلامها الشيخ حسن بن الحسين بن الطحّال المقدادي الذي كان يروي عنه السيد ابن طاووس في كتابه (فرحة الغري)، وأسرة بني سدرة العلوية، الذي كان من أعلامها شرف الدين محمد المعروف بابن سدرة المتوفى (عام ۳۰۸ هـ).
إلا إن هجرة الشيخ الطوسي إلى مدينة النجف الأشرف عام (۴۴۸هـ) كان نقطة تحوّل في تنظيم هذه المدرسة وإعطائها بعداً علمياً جديداً، ولتأخذ موقعها بين المدارس الفكرية، ولتكون امتداداً لمدرسته في الفكر الإمامي في بغداد، ويتّجه إليها طلّاب العلم من كلّ بقاع العالم الإسلامي، فكان دور الشيخ الطوسي دوراً تنظيميّاً، وليس تأسيسيّاً لهذه المدرسة.
وبعد وفاة الشيخ الطوسي (عام ۴۶۰هـ) استمرّت مدرسة النجف الأشرف بالازدهار العلمي في القرن السادس الهجري، وكان على رأس هذه المدرسة الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي الذي أجازه والده (عام ۴۵۵ هـ) وإليه تنتهي أكثر الإجازات العلمية عن الشيخ الطوسي حيث لقّب بالمفيد الثاني، ويقول ابن حجر: «صار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد علي».
وحافظ على هذه الأسرة العلمية من بعده ولده الشيخ أبونصر محمد بن أبي علي الطوسي، فقام برعاية المدرسة العلمية في النجف الأشرف حيث انتقلت إليه الرئاسة الدينية بعد وفاة أبيه.
وقد تهافت على النجف في عصره كثير من طلاب العلم من شتّى بقاع العالم الإسلامي، فقد أورد ابن العماد الحنبلي في حوادث (سنة:۵۴۰ هـ) نصّاً يدلّل على مدى تطوّر الحركة العلمية خلال عصره هذا بقوله:
شيخ الشيعة وعالمهم… رحلت طوائف الشيعة من كلّ جانب إلى العراق، وحملوا إليه، وكان ورعاً عالماً كثير الزهد.
فضلاً عن هذا فقد برزت مجموعة أخرى من الأعلام الذين ينتمون إلى أسر علمية لها امتدادها في هذه المدينة، كالشيخين؛ أبي طالب حمزة بن محمد بن شهریار، وحفيده الشيخ علي الذي تقلد الزعامة الدينية في النجف الأشرف بعد الشيخ أبي على الطوسي، وكذلك أعلام آخرون من أسرة آل الطحّال، كالشيخ حسين بن أحمد الطحّال، وولده الشيخ علي، ونظرائهم من الأعلام.
وقد تعرّضت مدرسة النجف لحالة من الضعف بظهور مدرسة الحلّة في القرن السابع والثامن الهجريّين بسبب استقرار أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وظهور شخصيّات علمية كبيرة فيها، کابن إدريس الحلّي المتوفّی (عام ۵۹۸ هـ)، والمحقّق الحلّي المتوفّی (عام ۶۷۶هـ)، والعلامة الحلي المتوفى (عام ۷۲۶هـ) وسواهم من رجال العلم والفكر الذين استقطبتهم مدينة الحلّة، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود شخصيات علمية كبيرة في مدرسة النجف في القرن السابع الهجري، كالسيد إبراهيم الخوارزمی، والحسين بن عبد الكريم الغروي المتوفّی (عام ۶۷۷ هـ) الذي تولّی خزانة الروضة الحيدرية، ومن أعلام القرن السابع الهجري لهذه المدرسة الشيخ الفاضل محمد بن الحسن الرضي الاسترآبادي: المتوفّی (عام، ۶۸۶ هـ أو ۶۸۸ ق) صاحب کتاب (شرح الكافية)(۱۴)، وفي القرن التاسع الشيخ محمد ابن أبي جمهور الأحسائي المتوفّی (سنة: ۸۸۰ هـ) صاحب كتاب (عوالئ اللآلي) وغيرهم من أفاضل العلماء.
وبعد وفاة فخر المحقّقين الحلّي (عام: ۷۷۱ هـ) وهجرة تلامذته إلى النجف استعادت مكانتها العلمية، ولاسيّما بعد قدوم المقداد السيوری المتوفّی (سنة: ۸۲۶ هـ) الذي بنى مدرسة خاصّة لطلّاب العلم، وشکّل قدوم المحقّق الكركي المتوفّی (سنة: ۹۳۹ هـ أو ۹۴۰ ق) تحفیزاً للعلم والعلماء، وكذلك نزول المقدّس الأردبيلي المتوفّی (سنة: ۹۹۳ هـ) أرض النجف، وما شکّله من حلقات درس اجتمع فيها من العلماء المعروفين ليعدّوا من علماء مدرسة النجف الأشرف في القرن العاشر، ئوكان للصراع العثماني – الصفوي أثر في قلّة هجرة طلّاب العلم إلى النجف في القرن الحادي عشر، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من احتضان مجموعة من العلماء وطلّاب العلم، كالشيخ أمين الدين بن محمود بن أحمد بن طریح، والشيخ إبراهيم بن محمد بن عبد الحسين من آل المظفر، والشيخ فخر الدين الطريحي صاحب كتاب (مجمع البحرين)، والمحدّث الاسترآبادي الذي قال: ممّن تشرّفت بالاستفادة وأخذ الإجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدس الغروي السيد السند، والعلّامة الأوحد، صاحب كتاب (المدارس وشرح الشرائع).
وأثر الصراع الفكري والعلمي في القرن الثاني عشر بين الأخباريّين والأصوليّين في كربلاء على الحركة العلمية في النجف الأشرف مع ظهور مجموعة من الأعلام في هذه المدرسة، كالشيخ خضر بن يحيى بن مطر والد الشيخ جعفر الكبير (كاشف الغطاء)، ليشهد القرن الثالث عشر الهجري ازدهار الحركة العلمية، وتوسّعها، وهجرة طلبة العلم إليها، وتشييد المدارس، كمدرسة الصدر، وكاشف الغطاء، ومدرسة القوام، وكان لرجوع السيّد بحر العلوم (ت: ۱۲۱۲ هـ)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: ۱۲۲۸ هـ) من كربلاء أثر واضح في ازدهار الحركة العلمية، وتنوع نشاطها الفكري،
كما تبع ذلك هجرة الكثير من العلماء الأعاظم، کالسید محمد جواد العاملي(ت: ۱۲۲۶ هـ) صاحب كتاب (مفتاح الكرامة)، والشيخ محمد حسن النجفي (ت: ۱۲۲۶ هـ) صاحب کتاب (جواهر الكلام)، والشيخ مرتضی الأنصاري (ت: ۱۲۸۱ هـ) وقد عدّت مدرسة النجف الأشرف في القرن الرابع عشر الهجري «جامعة إسلامية شاملة لميادين النشاط العلمي والأدبي والاجتماعي والسياسي، وفي الوقت نفسه كانت مركزاً مهمّاً من مراكز الفكر والثقافة الإسلامية، ومعهداً نشطاً أنجب الآلاف من الفقهاء والمجتهدین والمراجع والأساتذة والشعراء والمجاهدين».
إن هذا القرن هو الذي عاشه الشيخ المظفر، فقد تميّز بظهور أساطين العلم والفكر الذين قادوا حركة التجديد في الفقه والأصول، واستقرّت بوجودهم المرجعية العليا للشيعة، كالشيخ محمد كاظم الخراساني (ت: ۱۳۲۹ هـ) صاحب کتاب (كفاية الأصول)، والسيد محمد کاظم اليزدي (ت: ۱۳۳۷ هـ)، وشیخ الشريعة (ت: ۱۳۳۹ هـ) ومن جاء بعدهم من الأعلام.
فكان لهؤلاء الأثر الكبير في تهيئة البيئة العلمية، والنضج الفكري لدى الشيخ المظفر بما قدّمه من إسهامات علمية متنوّعة في الفقه والأصول والحديث والكلام والأدب.
إن هذا العرض السريع لتأريخ هذه المدرسة في هذه الوريقات المحدودة لا يمكن أن يعكس تأريخ علم، وحاضرة فكر كمدينة النجف الأشرف.
جانب من النشاط العلمي والفكري الخاصّ بعلم الرجال في مدرسة النجف الأشرف
ونعرض هنا الجانب من جوانب النشاط العلمي والفكري لهذه المدرسة الخاصّ بعلم الرجال، الذي يعدّ أحد الموضوعات المهمّة في الدرس الفقهي والأصولي والذي لم يكرس له درس خاصّ في الدراسة الحوزوية، وما صنّف فيه لم يكن قد أخذ نصيبه من الدراسة الكافية، كما هو الحال في علم الفقه والأصول، على أن هذا العلم «يرافق الطالب في جميع أطوار الدروس حيث إنها تدرس ضمن مباحث ومطالب الكتب الدراسية المقررة في علمي الفقه وأصول الفقه، وقد يتعرّض الأساتذة في أبحاثهم بالشرح والتحليل لموضوعات ومباحث ومسائل تتعلق بهذا العلم».
وكان ممّا صنّفه علماء هذه المدرسة في حقل الدراسات الرجالية خلال القرنين المتأخّرين:
۱. كتاب (الفوائد الرجالية) للسيد محمد مهدي بحر العلوم (ت: ۱۲۱۲ هـ /۱۷۹۷م).
۲. کتاب الفوائد الرجالية السيد محمد رضا بحر العلوم (ت: ۱۲۵۳ هـ/۱۸۳۷م).
۳. إملاءات الشيخ محسن خنفر النجفي (ت: ۱۲۷۰ هـ/۱۸۵۴م) على تلامذته في الرجال وكان من مشاهير العلماء في الدراية والرواية.
۴. كتاب (توضیح المقال في علم الدراية والرجال) للشيخ علي بن محمد الكني النجفي (ت: ۱۳۰۶ھ/۱۸۸۸ م).
۵. (أرجوزة في علم الرجال) نظم الشيخ عبد الرحيم بن محمد على النجفي (ت: ۱۳۱۳ ه/۱۸۹۵ م)
۶. کتب (تراجم آل أبي جامع العاملي) المعروف ب (ملحق أمل الآمل) للشيخ جواد آل محي الدين النجفي (ت: ۱۳۲۲ هـ/ ۱۹۰۴م).
۷. كتاب (أعلام الأعلام) للسيد مرتضى بن مهدي الغروي (ت: ۱۳۲۳ هـ/۱۹۰۵م).
۰۸ کتاب (معرفة الأحوال في علم الرجال) للشيخ محمد رضا بن قاسم الغراوي النجفي (ت: ۱۳۳۰ هـ/۱۹۱۱ م).
۹. (أرجوزة في علم الرجال) نظم السيّد عبد الحسين آل كمونة الحسیني النجفي (ت: ۱۳۳۶ هـ / ۱۹۱۸ م).
۱۰. كتاب (تراجم آل طاوس) للسيد محمود بن علي الحسيني النجفي (ت: ۱۳۳۸ هـ/ ۱۹۱۹ م).
۱۱. کتب (تكملة أمل الآمل، عيون الرجال، مختلف الرجال، حاشية على تلخيص الرجال) للسيد حسن السيد هادي الصدر (ت: ۱۳۵۴ هـ / ۱۹۳۶م).
إن هذا العرض الموجز لأهمّ المصنّفات الرجالية لمدرسة النجف العلمية الذي لم يحص جميع المصنّفات خشية الإطالة، وإنّما ذكر لأجل الوقوف على الجهد الرجالي لهذه المدرسة، وكان للشيخ المظفر نصيب في هذا الجانب وإن تفرّد في بحثه عما بحث في مدرسة النجف من جهد رجالي أحادي الجانب، فقد درس الشيخ المظفّر رجال الحديث عند أهل العامّة مبيّناً عللهم، وناقد الاسانید کتبهم الحديثية المعتبرة، وهذا ما سنعرضه بالتفصيل من خلال فصول الکتاب.
* : من أقدم الأسر العلمية في مدينة النجف ولم تذكر لنا المصادر تاريخ نزوح هذه الأسرة إلى النجف، لكن الشيخ جعفر محبوبة يذكر أنها عرفت في القرن الرابع الهجري، وبقيت شهرتها إلى أواخر القرن الرابع الهجري، وبقيت شهرتها إلى أواخر القرن السادس الهجري ثم خمد ضوءها وانقطع ذكرها أما لانقراضهم أو لتغيير الألقاب وتبدل العنوان وتناسي الألقاب كما هو الشأن في الكثير من الأسر القديمة، وتنسب هذه الأسرة إلى المقداد بن الأسود الكندي الصحابي المعروف.
وقد خدمت هذه الأسرة المرقد العلوي عدة أعوام وتشرفوا بالوقوف بأعتابه المقدسة إلى جانب ذلك عرفت هذه الأسرة بالعلم والفضيلة وأنجبت عددا من العلماء والفقهاء الذين أشارت إليهم كتب التراجم ومن أهم من اشتهر منها في ميدان العلم:
1ـ الشيخ حسن محمد بن الحسين بن احمد بن محمد بن علي بن طحال المقدادي ويعد من أهم أعلام أسرة آل طحال، قال عنه الأفندي: الشيخ حسن بن طحال من أكابر علمائنا قد ينقل عنه السيد بن طاووس في جمال الأسبوع لبعض الأخبار وينقل عنه السيد عبد الكريم بن طاووس بعض الكرامات التي ظهرت في المرقد الشريف وتوفي في أواخر المائة السادسة، لأنه ينقل عنه عبد الكريم بن طاووس في كتابه فرحة الغري في سنة 584هـ و587 بعد وفاة الشيخ محمد.
2ـ الشيخ الأمين أبو عبد الله الحسين بن احمد بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن طحال المقدادي، وتذكره بعض المصادر بالحسين بن محمد بن طحال حيث ينسب إلى الجد لشهرته والظاهر هو اتحاد الاسمين كما ذكر الأفندي وينقل عنه السيد ابن طاووس، اخبرني الشيخ أبو عبد الله الحسين بن احمد بن طحال المقدادي.
3ـ علي بن الحسين بن احمد بن طحال المقدادي، فاضل عالم جليل وكان بيده مفاتيح المرقد العلوي في السنة التي زار بها عضد الدولة مرقد الإمام علي(ع) سنة 371هـ، وقد وقع الأفندي في وهم عندما ذكر أن أبوه أيضا من الفضلاء ويروى عن الشيخ أبي علي الحسن بن محمد ولد الشيخ الطوسي, وهذا غير ممكن وذلك لان الفترة الزمنية الواقعة ما بين زيارة عضد الدولة البويهي وتقلد الشيخ أبي علي الطوسي الزعامة الدينية بعد وفاة والده في سنة 460هـ في 89عاما، إلا أن يكون من المعمرين، وقد نقلها الشيخ جعفر محبوبة دون أن يحقق في نص الرواية، ولا نعلم إذا كان والد الشيخ علي حيا عند زيارة عضد الدولة أو ميتاً.
4ـ الشيخ محمد بن الحسن بن احمد بن علي طحال المقدادي الحائري، قال عنه منتجب الدين، فقيه صالح، أما الحر العاملي، فاضل فقيه، وهو من أعلام القرن السادس الهجري، وكان هو ووالده من خدام الحضرة الشريفة وخزنتها قرأ على يد الشيخ أبي علي الطوسي، وكانت وفاته في حدود سنة 580هـ.
وقد انطمس ذكر هذه الأسرة في أوائل القرن السابع الهجري أما لانقراضها أو تغيير الألقاب أو انتقالهم إلى مدينة أخرى. (المصدر: كتاب: الأسر العلمية في مدينة النجف الأشرف للدكتور محمد جواد فخر الدين.)
المصدر: الاجتهاد