كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟
السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو: هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى بأمّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقاً، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالالتفات إلى مسألة واحدة، وهي أنّ الإنسان يصل أحياناً إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادراً على الاستمرار في طريقه بالاستعانة المستمرة بالأصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.
وهذا الأمر يشبه تماماً أن يكون الإنسان محتاجاً لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة، حتّى يقضي المراحل المختلفة، أمّا إذا حصل على الدكتوراه، أو أصبح مجتهداً له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى أستاذ جديد، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق استناداً إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين، وخاصّة أستاذه الأخير.
وبتعبير آخر، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالاستعانة بتلك الأصول الكليّة التي تعلّمها من أستاذه الأخير، وبناءً على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك).
وببيان آخر، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانباً من مسير التكامل ليكون الإنسان قادراً على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لاستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي أرسل من قِبل الله تعالى.
من البديهي أنّه مع استلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونه(ص) خاتماً، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة.
أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الأصول، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق، فهي مسألة أخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبداً نهاية سلسلة الإمامة، لأنّ «تبيين» و «توضيح» هذه الأصول و «تحقّقها في الخارج» لا يمكن أن يتمّ من دون الاستعانة بوجود قائد وإمام معصوم.
كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟
بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر، فإنّ هناك سؤالاً آخر يطرح هنا، وهو: أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيداً بملاحظة المسألة التالية، وهي: أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكماً جزئياً معيناً لكان هناك مجال لهذا السؤال، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الأصول الكلية الواسعة جدّاً، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال.
إنّنا نرى استحداث سلسلة من الاتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتاً، فمثلاً لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه (الضمان) بفروعه المتعدّدة، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الاحتياج اليومي، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة المائدة بعنوان «لزوم الوفاء بالعهد والعقد»: (يا أيّها الذين آمنوا اُوفوا بالعقود) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الاتفاقيات.
وطبعاً هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام، يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار أيضاً.
بناءً على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم.
ونضرب مثالاً آخر، وهو: لدينا في الإسلام قانون مسلّم به، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعاً ومصدراً للضرر والخسارة في المجتمع، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الاحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل «لزوم حفظ المجتمع»، و «وجوب مقدّمة الواجب»، و «تقديم الأهمّ على المهمّ» يمكن أن تكون حلاًّ للمشاكل في كثير من الموارد.
وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق «ولاية الفقيه» تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار أصول الإسلام العامّة.
إنّ بيان كلّ واحد من هذه الأمور، مع الأخذ بنظر الاعتبار كون باب الاجتهاد ـ أي إستنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية ـ يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جواباً للإشكال المذكور.
كيف يحرم البشر من فيض الإرتباط بعالم الغيب؟
السؤال الآخر هو: إنّ نزول الوحي والاتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين، إضافةً إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية، ألا يعتبر قطع طريق الاتّصال هذا، وغلق نافذة الأمل هذه حرماناً عظيماً للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه، وهما:
الأولى: إنّ الوحي والإرتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بُيّنت كلّ الاحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الأصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة.
الثّانية: إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة، أو لتكميل شريعة سابقة، لا كلّ أنواع الاتّصال بما وراء عالم الطبيعة، لأنّ للأئمّة ارتباطاً بعالم الغيب، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.
يقول الفيلسوف الشهير «صدر المتألّهين الشيرازي» في مفاتيح الغيب: (واعلم، أنّ الوحي إذا انقطع، وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين، كما قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لاحتياج الناس لاستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده).
إنّ هذا الارتباط يتولّد عادةً من سموّ النفس وإرتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة، وبناءً على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروماً من هذا الفيض العظيم، ولن يكون ـ تأمّلوا ذلك ـ.
المصدر: شبکة الفجر الثقافية