printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الثالث والأخیر
فقه الإعلام؛ المنـبر الحسيني أُنموذجاً

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن ‏رأي أصحابها
​​​​​​​

▪ المنبر الحسيني أُنموذجاً
المنبر الحسينيّ وسيلة من وسائل الإعلام الإسلاميّ الفاعلة في الدعوة والإرشاد والتبليغ، والمؤثرة في أبناء المجتمع الإنساني عموماً والإسلامي خصوصاً، وإنْ كان يحمل خصوصيّة التعريف بالنهضة الحسينيّة، وبيان أهدافها، وتوضيح أسبابها وأهم غاياتها، مع استعراض لمظلوميّة الإمام الحسين(ع) بأسلوب عاطفي، وبيان ما جرى عليه من الظلم والقتل والتنكيل والتعسف اللا إنساني واللا أخلاقي من قِبَل الأُمويين وأتباعهم، وما جرى على أهل بيته وأصحابه في معركة الطف، في العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة، مما يندى له جبين الإنسانيّة، فضلاً عن العروبة والإسلام.
فالأسلوب العاطفيّ هو الذي تبنّاه أئمة أهل البيت(ع) في استذكارهم لواقعة الطف المؤلمة، وما جرى فيها من الفجائع والمصائب على سيد الشهداء الإمام الحسين(ع)؛ لأن استجابة الجماهير تكون دائماً استجابة عاطفيّة أكثر مما هي عقليّة.
فالإثارة العاطفيّة وتحشيدها هي طريق إلى فهم ودراسة رسالة الحسين(ع) واستيعاب أهدافها ومضامينها.
وحيث إنّ رسالة الحسين(ع) هي رسالة جده المصطفى، وأهدافها أهداف الإسلام، ومسيرته مسيرة جده(ص)في الإصلاح والبناء والتكامل الإيماني والإنساني، ومصداق لقول جده رسول الله(ص): «حسين مني وأنا من حسين».
فإنّ رسالة المنبر الحسينيّ هي رسالة الإسلام، ومنهجه الدعوة للإيمان والإصلاح والتكامل الإنساني، وعلى ذلك؛ لا بد أن تكون رسالة الخطيب الحسينيّ رسالة الإسلام، وأهدافها عين أهدافه، ومضمونها هو مضمون رسالة الحسين ودعوته.
فكما أن الحسين(ع) كان ممثّلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله في دعوته ومنهجه الذي يمثّل حُكم الله عزوجل في أرضه، فكذلك الخطيب الحسينيّ المفترض أنه يمثّل الحسين(ع) في دعوته ونهضته وأهدافه على منبره.
▪ أهداف نهضة الحسين(ع) وشعارها
إنّ الإمام الحسين(ع) لم يخرج في نهضته لأهداف دنيويّة ولا لمصالح آنية، ولا طالباً لسلطة أو مال أو جاه؛ فإنه(ع) قد ملك أسباب ذلك كله، وحاز أصولَها وفروعها، وقد استغنى عنها، شرفاً ونسباً، علماً ومكانةً، إخلاصاً وإيماناً، غنىً وكرماً، شجاعةً وحلماً، جاهاً وتواضعاً، منزلةً وزهداً، إباءً ومروءةً، مع احتياج الكل إليه في ذلك.
ولكنها حميّة الرسول على ضياع الرسالة، وخوف الوصيّ من إهمال الوصيّة، وحرص المؤمن على حفظ صورة الدين؛ ولذلك قال(ع) عند مسيره إلى كربلاء: «إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقَّاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً».
ثم رفع شعاره في الخروج على الظالمين والمنافقين، الذين اتّخذوا الدين غطاءً يتسترون به لإخفاء موبقاتهم ومفاسدهم وجرائمهم، وأعلن عن أهداف نهضته، فقال(ع): «وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(ع)، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين».
▪ أهداف المنبر الحسيني
لقد أعلن الإمام زين العابدين(ع)أهداف المنبر الحسيني عندما قام بين يدي الطاغية يزيد، وقال له: «يا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلَّم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب»، فهذا  هو الهدف السامي للمنبر، وما يعرض عليه من القيم الراقية والمُثل العليا.
فإنَّ المنبر الحسيني برفعه الشعار الحسينيّ العظيم، قد أقضَّ مضاجِع الحُكّام والطواغيت، وأربك المنافقين وأعداء آل محمد، وحيّرَ التبشيريين والمستشرقين، ثم أنه بنى مجتمعاً ولائياً مخلصاً، وَرَسَّخَ فيه العقيدةَ المحمديّة الصادقة، ورسم لهم دروب التضحية والوفاء، ورفعَ بينهم راية الحريّة والإباء.
▪ المنبر الحسيني وسيلة إعلامية فاعلة
الخطيب الحسينيّ هو الإِعلاميُّ الملتزم بأهداف نهضة الحسين(ع)، والمتمسك بشعارها ومنهجها ومسيرتها، ومنبره هو الوسيلة الإعلاميّة الحيَّة والمباشرة، التي يتواصل عبرها الإعلامي ـ أو الخطيب الحسينيّ ـ في عرْضِ أهدافه ومضمون رسالته إلى المتلقين والمستمعين من أبناء المجتمع.
فبذلك يولد التفاعلُ الحيّ والترابط الوجدانيّ بين الخطيب الحسينيّ من جهة، وبين أبناء المجتمع وطبقاته المختلفة من جهة أُخرى، ويعمّق التلاقح الفكري، والانسجام الثقافي والتّآصر التربويّ بينهما.
فالمنبر الحسينيّ يمثّل مدرسة فكريّة تربويّة ثقافيّة متكاملة، ينفتح مضمون رسالتها على كل العلوم الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة، والعلميّة والاجتماعيّة والإداريّة وغيرها، ومدى صلتها بحياة الأمّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي وتكامله، وعمق تأثرها وارتباطها بقادة الأمّة، وقوة تمسكها بأهداف رسالتهم، مع الإخلاص في العرْض والمضمون.
فالخطيب الحسينيّ عليه مسؤولية شرعيّة جسيمة، ورسالة أخلاقيّة عظيمة، لا بد أن يستشعر جلالتها وأهميتها  قبل ارتقاء المنبر، وأن يكون بمستوى يؤهله للرُقي والاستعداد للتكامل الروحيّ والبناء المعرفيّ.
إن هذه المسؤوليّة تحتّم على الخطيب الحسينيّ ألاّ يرتقي المنبر حتى يستحضـر أدواته المنبريّة وإمكاناته الأدبيّة، أسلوباً ومضموناً وأداءً، وأهمّها الإخلاص وصدق النيّة والهدف؛ لأن الخطابة مَلَكَةٌ رَبانيّةٌ يهبها الله تعالى للأنبياء والأوصياء والمصلحين والحكماء والرساليين، وأن يكون مقتدراً، متمكناً معرفيّاً من الموضوع  الذي يَستَعرِضُهُ على المنبر، ومِلؤُهُ الثقة بطريقة أسلوبه وقيادته له، وإدارة محاوره أمام الملأ؛ حتى  يملك القلوب ويأسرها، فضلاً عن العقول.
▪ الخطيب الحسينيّ بين الإِعلام الداخلي والخارجي
وحيث إن المنبر الحسينيّ هو الوسيلة الإعلاميّة الفاعلة، والقناة التي تربط بين الخطيب الحسينيّ وأبناء المجتمع، ومع توسع هذه القناة الإعلاميّة وانتشارها، ومتابعة العالم له وتوجهه إليه، على اختلاف أديانه ومذاهبه، وتوجهاته ومُنعطفاتهِ، وذلك بفضل شيوع القنوات الفضائية وانتشار الشبكة العنكبوتيةالأنترنت، وسهولة الحصول عليها والاتصال بها، مع التزام بعض القنوات الفضائيّة ببثّ محاضرات ومجالس المنبر الحسينيّ، لمختلف الخطباء، ومن أماكن وبلدان متنوعة، وهذا ما جعل المسؤوليّة على الخطيب الحسيني أعظم وأدق، ومهمته أكبر وأحرج، في نشر وعَرْض رسالة الحسين(ع)، وفكر أهل البيت(ع) من العهود السالفة؛ لأن الإعلام الخارجي المفتوح غير الإِعلام الداخلي المحصور، حيث كانت المناطق التي يقام فيها المجلس الحسيني محدودةً، وفي طبقة فكريّة وثقافيّة محصورة، في بلدان خاصة، ذات طابع عقائدي واحد في الجملة، وأنّ ما يُلقى فيها غالباً لا يتعدى هذه الجموع الحاضرة والبلدان التي تقام فيها هذه المجالس، فكانت تعطي للخطيب الحسيني جانباً من الحريّة في عرض الروايات الخاصة، ومساحة من النقاش لبعض الأمور التي تمس عقائد الآخرين، بلا قيد أو تحجيم، وبما يتناسب مع طبيعة الحاضرين، وثقافة البلد الذي أحيى هذا المجلس.
أما اليوم ـ وبانتشار المجالس والمحاضرات  الحسينيّة في مختلف البلدان، ونقلها عبر الأثير على العديد من القنوات الفضائيةـ فقد أصبح المتابعون لها من المستمعين والمشاهدين يُمثّلونَ تنوّع الثقافات والاتجاهات الفكرية والعقائدية، ومختلف الديانات والمذاهب، السماويّة والوضعيّة؛ فبهذا ازدادت المسؤوليّة على الخطيب الحسينيّ وعَظُمت، واتسعت صلته  بالجماهير على اختلاف ثقافاتهم، وتنوّع مفاهيمهم الفكرية.
وعليه؛ لا بد أن يختلف العرضُ والمضمون على المنبر اليوم عن العهود السابقة، المحدودة الحضور والثقافة والبلد، وأن يكون نهج الخطباء التزام ما رُوي عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: «سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع) يقول: رحم الله عبداً أحيى أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا».
فإنّ التمسك بعلوم أهل البيت(ع)، والاغتراف من نمير مناهلها، وإيصال محاسن كلامهم ومعارفهم إلى عموم الناس -وكل كلامهم حسن-  بالحكمة والموعظة الحسنة في الأسلوب والعرض، مع إقامة الدليل العلميّ والبرهان والحجة، كُلّ ذلك خيرُ معينٍ في مخاطبة العقول، وأسلمُ الطرق للوصول إلى قلوب عامة الناس، والمفتاح لنشـر فكر أهل البيت(ع) إلى عموم الثقافات الأُخرى والمذاهب المختلفة؛ وبهذا يتأصّل نهجهم، ويتركّز كلامهم، وتثبت معارفهم في النفوس؛ تمهيداً لاتباعهم والتمسك بمنهاجهم وقبول هديهم، بعيداً عن الطعن والسُباب، والدخول في المحاور المتشنجة في العرض، الذي نأى عنه أئمة أهل البيت(ع)، من خلال سيرتهم وسلوكهم مع عموم أبناء المجتمع، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعيّة، ومذاهبهم الدينيّة والعقائديّة، وتنوّع ثقافاتهم واتجاهاتهم؛ بما يحقق التعايش السلمي بين المسلمين عموماً، وأبناء المجتمع الواحد خصوصاً، وهذا هو السلوك القويم الذي سار عليه أهل البيت(ع)؛ تبعاً لسيرة جدهم المصطفى(ص)، الذي مدحه الله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا من حَوْلِكَ]، [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسْلِمِينَ ٭ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ].
وقد روي عن أمير المؤمنين علي(ع) قوله: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم،وذكرتم حالهم، كان أَصوَبَ في القول، وأَبلَغَ في العذر».
فإِنَّ وَصفَ الأفعال وعرض المواقف أقوى وأبلغ في الحجة والدليل، وأحكم في البرهان، وهذا ما يبتغيه المؤمن الحكيم، ويبحث عنه المنصف العاقل، ويتحرّاهُ طالب الحقيقة الصادق مع الذات، لا الذي يتبّع هوى النفس والجمود على رأي السلفغير الصالح! حيث اشتبه عليهم الحال، فأخطؤوا الطريق، وقال تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ].
كما روي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «رحم الله عبداّ حبَّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله، لو يروون محاسن كلامنا لكانوا أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء». وفي رواية أُخرى: «كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبِّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا، جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح».
وقال تعالى: [وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ].
فإنّ سبّ الله ـ في الآية الكريمةـ سبّهم(ع)، «وإنما نسب سبّهم إلى ذاته المقدسة تشـريفاً وتعظيماً لهم، وليس المراد سبّ الله عزوجل حقيقة؛ لأنّ أحداً لا يسبّه، كما وقع التصريح به في بعض الروايات وبالآيات أمير المؤمنين(ع)، وقد وقع التصـريح به في بعض الروايات، وربما يؤيده تذكير الضمير في غيره».
فهذا هو خُلق القرآن الكريم، وخُلق الرسول العظيم، وخُلق أهل بيته الأطهار، وهذه توصياتهم وإرشاداتهم للمؤمنين.
فعلى الخطيب الحسينيّ أن يلتزم بهذا أيَّما التِزام، فيتثبّت بالقول الحسن، وبالأسلوب العلميّ الهادئ الرصين على المنبر، بما يرفع مكانة مَن يريد أن يوصل رسالتهم إلى الناس، ويحببهم ويقربهم إلى النفوس، ويقوِّي مودتهم في قلوبهم، وينقل علومهم إلى العالم أجمع، في تبني عرض أفكارهم ومعارفهم، والاهتداء بسيرتهم وسلوكهم؛ فيدفع بذلك عنهم كل قبيح يحاول أعداؤهُم إلصاقه بهم وبمنهجهم كذباً وبهتاناً، ولكن بعيداً عن المهاترات والسُباب، وتجاوز حدود اللياقة في العرْض، وتجريح الآخرين.
وهذا الأمر يسـري إلى عموم وسائل الإعلام الأُخرى: كالصحافة، ونشـر الكتب ونحوهما.
وفي خلاف ذلك، فإن الأمر قد يجرّ السوء أو القبح إليهم(ع)، والنفور والبعد عنهم، فيكون بذلك قد شانهم، وخالف أمرهم، والعياذ بالله...
وقد قيل للإمام الصادق(ع): «يا بن رسول الله، إنا نرى في المسجد رجلاً يعلن بسبّ أعدائكم ويسميهم. فقال: ما له ـ لعنه الله ـ يُعَرِّضُ بِنا؟! وقال الله تعالى: [وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ]».
وفي رسالة لأبي عبد الله الصادق(ع)إلى أصحابه وشيعته، جاء فيها: «وإياكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبّوا الله عدواً بغير علم، وقد ينبغي لكم أن تعلموا حدّ سبّهم لله كيف هو؟ إنه مَن سبَّ أولياء الله فقد انتهك سبّ الله، ومن أظلم عند الله ممن استسبّ لله ولأولياء الله، فمهلاً مهلاً! فاتّبعوا أمر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وقال تعالى: [إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا].
وأجزم أن هذا الأمر المهم اليوم أحوج ما نكون إلى الالتزام به على المنبر الشـريف، والسير على هدْيه ومبناه، مع توسع قنوات الاتصال الإعلاميّة وسرعتها، وانتشارها وتنوعها؛ لإيصال علوم أهل البيت(ع) ومعارفهم، التي تخاطب العقول مباشرة، وتُذْعِن لها القلوبُ مُسلّمة، صافية نقية هانئة، بلا شائبة أو دغل، إلى أقاصي بلاد الأرض، وعموم أبناء البشـر، فتدخل إلى أروقتهم ونفوسهم بلا استئذان، ومن دون جهد وعناء وكلفة.
▪ ثقافة الخطيب الحسيني وسلوكه
هذا وعلى الخطيب الحسينيّ أن يكون بمستوى عالٍ من الإيمان والورع، والتثبُّت والحكمة والدراية؛ لأنَّ الخطيب الرساليّ يكون مرآة للآخرين، تعكس أفعالهم وأخطاءهم، وعليه توجيههم إلى الطريق الصحيح، وأن يحذر من تقمّص السلوك الخاطئ مع نفسه، وينأى عن التلبس به؛ لأنه سرعان ما تنكسـر صورته أمام الناس، ويهتزّ كيانه في المجتمع، فلا يُقبل منه قول، ولا يؤخذ عنه شيء، ويصبح كلامه لا أثر له ولا قيمة  في نفوسهم، فيسقط عن أنظارهم، ولا  تقبله قلوبهم.
وعليه أن يفهم أنّ مسؤوليته هي جزء من مسؤولية الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، بل هو مصلحٌ رساليٌّ وسفيرٌ للحسين(ع) ولسانه الناطق، وسيفه الضارب على الجاهلين والظالمين والمارقين، شجاعٌ في العَرْض، لا يَهاب أحداً ما دام على الحق، وناطقاً بالصدق، وأن يكون  أهلاً لهذه الصفة الكريمة، وصادقاً في تحمُّل هذه المسؤولية الرساليّة.
إنّ المسؤوليّة الرساليّة تُحتّم عليه أن يكون كلامه فيما  يرضي الله عزوجل، ويقرّب إلى رحمته ورضوانه، في كل ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم، ويثبّت إِيمانهم ويُقوِّي عزيمتهم، فلا يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق، وأن لا يكون أداة يلهو بها الشيطان، يستفرغ سمومه وغوائله عن طريقه، فيكون مفسداً في الأرض، فعن أبي جعفر الباقر(ع)، قال: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عَبَدَ الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبَدَ الشيطان». فإنّ ما يرضي الله تعالى فيه الأجر والثواب، كما فيه صلاح الناس وهدايتهم.
وعلى الخطيب الحسيني أنّ يكون بمُستوًى عالٍ من الثقافة العامة؛ حتى يُغني المنبر بالبحث والنقاش، ويفتح آفاق المستمعين  على اختلاف مستوياتهم العلميّة والثقافيّة، بما يدور في المجتمع، من أفكار وآراء وأطروحات، بل وما يدور في عموم العالم المحيط بنا، ولو بالسؤال والاستفسار من خلال البحث والمتابعة عن ذلك، فضلاً عن معرفته ودرايته بثقافة مجتمعه، وما يحيط  به من أحداث ومشاكل ورؤى على كافة الصعد؛ حتى ينير ذهنيّة المستمع والمتلقي، ويوضّح له الطريقَ الصحيح في الحياة، بأسلُوبٍ سليم، ذي مطالب واضحة ليست بالغريبة، وحقائق علميّة ثابتة ليست بالفرضيّات، مما تتقبله القلوب والعقول، لا أن تنفر منه الطباع والنفوس، أو يثير التساؤل والتشكيك.
وعليه أن يكون مستوثقاً في نقله للروايات والأخبار على المنبر،  مميِزاً الغثّ منها عن السمين، وإن كان باعتماده على الكتب المعتبرة والموثّقة والمحقّقة، وألاّ يكون عَرْضُهُ للأفكار والآراء إلا بعد دراستها وتمحيصها، بعد تتبُّع أصولها ومنابعها، ثم التشاور والتباحث فيها مع أهل العلم والفضل والتحقيق؛ لأن الخطيب قد يقع في الخَلط أو التشويش من حيث لا يشعر، وذلك بعرْض كل ما صادفه من رأي ـ أو سمعه من قول، أو قرأه من  كتاب ـ على المنبر، بدون تدقيق أو مراجعة أو تأمّل فيها، وهذه آفة المنبر وهدم دوره البنَّاء في خلق مجتمع إسلامي واع.
كما ينأى بالمنبر عن سَرد القضايا الشخصيّة والآراء النفسيّة وغلبة الهوى، حيث يتطاول على بعض الناس ويسفّه أفكارهم وعقولهم ويستهزئ بهم؛ لمخالفتهم رأيَه الشخصـي مثلاً.
وأن يكون عَرْضه مبنيّاً على العلم والعقل، لا على المنامات والتخيّلات الشخصيّة والنفسيّة، وأن يعتمد على ما أجمعت عليه الطائفة واشتهر عندها، ويبتعد عن شواذّ الآراء والأخبار، التي قد يقف عندها المعاند رافضاً طاعناً، والجاهل مشككاً متوقفاً، والمتعلم مستغرباً مستهجناً، لاسيما مَن كان بعيداً عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولم يألف معارفهم وعلومهم، ولم يقف على معناها ولا دلالتها، مع اختلاف النظرة إليها.
 بل عليه أن يكون عَرْضهُ على مبتنيات علميّة، وأسس عقليّة، وثوابت شرعيّة، حيث لا يمكن الطعن بمقدماتها ولا نتائجها، مهما اختلفت ثقافة المتابع أو المستمع.
وعليه أن ينزّه المنبر من جعله حَلبَةً ووسيلة للصـراعات السياسيّة والاجتماعيّة التي تحدُثُ في المجتمع، فإِنَّ المنبر أجلّ وأسمى من ذلك كلّه.
ويبقى هدف المنبر خالصاً  لله عزوجل، ولما بُعث به رسوله المصطفى(ص)، وما بُشّـر  به أهل بيته الأطهار(ع)؛ وأنْ لا يُتَّخذ وسيلة  للإفساد والإخلال بين الناس، أو يستغل في مدح الظالمين والدفاع عنهم، إلا في فَضْح أصحاب المروق والضلالة، الذين ثَبَتَت ضلالتُهم في الدين وظهرت للعَيان؛ لتحصين الناس الأغمار والسُّذَّج من التأثر بأفكارهم الضالة وآرائهم المنحرفة، حتى لا ينخدعوا بهم، مع بيان وجه الضلالة والشبهة للمجتمع، وسبب الانحراف، لا التعرض لهم بالتنكيل والتطاول والإلغاء فقط؛ فإن هذا لا يحل المشكلة، ولا يرفع الشبهة.
وعلى الخطيب الحسينيّ أن يؤمن بأَنَّ ارتقاء المنبر ليس صنعة أو مهنة يعتاش منها، ويكون جُلّ همه وغايته الحصول على الأموال عن طريقه، فيتعامل على ذلك كما يتعامل على بيع أو شراء سلعة من السوق! أو يتخذه لطلب الرئاسة والجاه؛ ليشبع شهوته بحب الظهور والشهرة، فقد روي عن الإمام زين العابدين(ع) أنه قال: «وإياك أن تترأس بنا فيضعك الله، وإياك أن تستأكل بنا؛ فيزيدك الله فقراً».
إنما هو عمل رساليّ، مهمته  بناء وإِصلاح الأمّة، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً برسالة الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، الذين ضَحَّوا بكُل غالٍ ونفيس من أجل المبدأ والعقيدة، والوصول إلى الهدف السامي في نشـر الوعي الرسالي وتبليغ الأحكام والعقائد الإلهية الحقَّة...
فالخطيب الحسيني هو صاحب دَعوَةٍ رسالية، وإِعلام هادف، وغاية نبيلة سامية، وهي الدعوة لتثبيت نهج الحسين(ع)، والسير على هَدي رسالة جَدهِ المصطفى(ص)، وتركيز مبادئ الإسلام.
وعلى ذلك؛ فالمنبر الحسيني يُعدّ اليوم من أهم الأدوات والوسائل الإِعلاميّة الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، فهو حيّ وحيويّ، يربط بين الوعي المعرفيّ والتنوير العلميّ، وبين العمق الدينيّ، بما يهبه من أجر وثواب واستثمار للوقت، وما يخلقه من الترابط الاجتماعي والبناء الروحاني بين الناس،  قديماً وجديداً، حاضراً ومستقبلاً، فإنّه ما زال ينبض بالعطاء والحياة بِرَغم تطور أدوات الإعلام ووسائله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
انتهت
المصدر: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة
في النهضة الحسینیة