printlogo


printlogo


□ مقالة
کیف نقرأ کربلاء

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة،
بل تعبر عن ‏رأي أصحابها
منذ اللحظات الأولى لانفجارها الدموي المدوي دخلت كربلاء الملحمة الإلهية وجدانَ الأمة وتاريخَ الإنسانية ولا تزال كما كانت يوم ميلادها نهضة إصلاحية وحركة تغييرية لا تقف عند حدّ ولا تنثني أمام عقبة. فكيف ينبغي أن تفهمها الأمة والأجيال؟ وكيف نحول حقائقها إلى خطى ومواقف؟
قبل اقتحام تفاصيل الإجابة لا بأس بالتأكيد على جملة الحقائق التالية:
▪ أ) تكليف إلهي
كربلاء تكليف إلهي قد تم امتثاله على النحو الأكمل وليست قدَراً إلهياً بالمعنى السلبي، وهو المعنى الذي ينبغي أن تحمل عليه الكلمة المشهورة للإمام الحسين(ع): «شاء الله أن يراني قتيلاً.. وشاء الله أن يرى النساء سبايا»، فالمشيئة هنا بصفتها التشريعية لا التكوينية! والعصمة بمفهومها الصحيح لا تمنع من هذا الانصراف ولا الحمل عليه.
▪ ب) الخيار النهائي
لم يكن ثمة في البين ما هو أفضل مما كانت عليه كربلاء كخيار «تكليف» في المواجهة ضد النفاق الأموي السفياني اليزيدي وهو ما يمكن فهمه من جهة المعرفة بمقام الإمام الحسين(ع) وما قد صرح به في أقواله من قبيل: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»،وقوله عليه السلام: «ألا وإن الدَّعِي ابن الدَّعِي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة، وهيهات منا الذلة» . فلم تبقَ إلا المواجهة، وصلح الإمام الحسن(ع) تكليفه، واختلاف الأئمة(ع) في الأدوار لا الأهداف.
▪ ج) الموقف الثابت
لم يُحدّث الإمام الحسين(ع) نفسه طرفة عين في تغيير ما هو عازم عليه من رفض البيعة «ليزيد» وطلب الإصلاح في «الأمة» مهما بلغت التضحيات وكان الثمن! وبقي على هذا الموقف حتى نال وسام الشهادة وكلّ ما يمكن أن ينقله بعضُ المؤرخين مما قد يخدش هذه الحقيقة فهو مردود مدفوع بحقائق العقيدة والتاريخ على حد سواء. ومن جملة كلامه عليه السلام الدال على هذه الحقيقة قوله: «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء...»،وقوله لبني هاشم: «من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق لم يبلغ الفتح، والسلام» . فتدبر تنكشف لك الحقيقة!.
▪ د) الفتح الكبير
إن كون كربلاء مأساة دامية لا يعني عدم انتصارها في وجه النفاق الأموي وما كانوا يتطلعون إليه من أهداف تاريخية مناوئة للرسالة الإسلامية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ لأنه لولا الثبات على المواقف في وجه الطغيان اليزيدي وتقديم كلّ هذه التضحيات «القتل، والسبي» لما كان ثمة سبيل لتحقيق النصر المظفر وبلوغ ذلك الفتح الكبير! وقد بلغ النفاق الأموي من التضليل والتجهيل درجة فقدت فيها الأمة البصيرة في دينها والإرادة في عزيمتها «ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه..»  كما وصفهم الإمام(ع) في التحريض على النهوض والإصلاح!. لقد انتصر بحق - كما يقال دائماً - في كربلاء الدمُ على السيف، والنورُ على الظلام.
▪ هـ) منطق السماء
لقد عبرت كربلاء بكل ما تنطوي عليه من معاني الخير والفضيلة والسمو عن منطق السماء وفلسفة التاريخ بما ليس له مثيل في أيام الله مما كان عليه الأنبياء والأوصياء عليهم السلام من جهاد وتفاني وعطاء، ومن ثَم كانت بكل تفاصيلها ملحمة إلهية دامية وخالدة لا تزيدها منعطفات الأيام وكرُّ الليالي إلا توهجاً وتألقاً وحرارة في قلوب المؤمنين الأحرار، وهو ما يمكن أن نفهمه كأحد معاني كربلاء من مقولة الإمام الحسن عليه السلام لأخيه الإمام الحسين(ع): «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله» وهي بإطلاقها تثبت ما وصفناه بياناً وزيادة.
أقول: إذا اتضحت هذه الحقائق عن كربلاء الإمام الحسين(ع) وعاشوراء، فلنمض لما قد طرحناه من أسئلة في هذا الصدد.
هكذا تفهم كربلاء
على الرغم من أن واقعة كربلاء كحادثة تاريخية لم تتجاوز سويعات من الزمن -حيث التقى الجيشان على ما بينهما من تفاوت ملحوظ بشكل كبير في العدة والعدد! ودارت معركة دامية أسفرت عن مقتل الإمام الحسين(ع) وجميع من كان معه من الرجال ما عدا ابنه علي السجاد(ع)! ومن ثم سَبْي بنات الرسالة - إلا إنها -كربلاء- ذات تفاصيل كثيرة ربما يصعب الالتفات إلى الكثير منها وإحصاؤه.
وبالتالي، فإن ثمة مستويين وخطوتين على طريق فهمها كحادثة تاريخية من قبل كلّ المهتمين بها من أصحاب النظر والولاء:
المستوى الأول: استقصاء تفاصيلها كواقعة تاريخية ضمن زمانها ومكانها ومراحلها ورجالها وحوادثها وهو ما يمكن أن تتكفل به كتب المقاتل والتاريخ والسير- على أن تؤخذ تلك التفاصيل من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوقة والمراجع الأصح لما سيكون لها بالغ الأثر بل أساسه في عملية التحليل والفهم-.
المستوى الثاني: كون منهجية التعاطي مع حقائق الواقعة وحوادثها التاريخية تلك مناسبةً من حيث النوعية والدقة والشمول والفاعلية مع هكذا نوعية من الحوادث البالغة الأهمية والعمق والتعقيد، وذلك باعتبار أن المنهجية المختارة والمعتمدة تشكل الإطار الذي تنصهر فيه معطيات تلك المعلومات الخام المنتقاة بكلّ تثبت وعناية.
 وهذان المستويان ربما اجتمعا كما هو الحال في الدراسات التاريخية التحليلية، وربما افترقا كما هو حال الدراسات التاريخية المحضة، ولكن ما يهمنا على مستوى فهم الأمة لكربلاء الدم والشهادة هو أن تؤخذ الضوابط التالية في فهمها ليكون الفهم لها مستقيماً في مقدماته ونتائجه:
القيادة الربانية
إنها بقيادة شخصيةٍ ربانية معصومة مستقيمة بتأييد وتسديد من السماء في كلّ ما هي عليه من أقوال وأفعال «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة» . وبالتالي، فهي منزَّهة عن كلّ ما من شأنه أن يبعث في النفوس شيئاً من الشك في صحة وحقانية ما تقوله أو تفعله، ولا يجوز بحال فهم شيء مما يتصل بنهضة كربلاء من دون الالتفات إلى هذه الحقيقة وأخذها بعين الاعتبار في التعاطي مع المعلومات الواصلة وتحليلها والاستنتاج منها في الحكم لكربلاء أو عليها.
العبقرية الإنسانية
وحتى لو لم نأخذ تلك الحقيقة الآنفة الذكر بعين الاعتبار في مجال محاولة فهم النهضة الحسينية، فإنه لا يمكن بحال تجاهل ما كانت تتمتع به شخصية الإمام(ع) من عبقرية وخبرة وفهم نادر لسنن الكون والحياة والمجتمع وتجارب كثيرة في الحرب والسلم «كان مع أبيه في حروبه» ومعرفة معادن الناس وما هم عليه من طبائع وميول وبالتالي نقاط قوة وضعف، وهو الأمر الذي يمكن أن يجعل الإمام(ع) في منتهى القدرة والدراية لما يجري حوله وما هو قادم عليه ويريد القيام به في مرحلة هي الأخطر في حياة الإسلام والأمة.
التخطيط الشامل
وعلى الرغم من هاتين الخصوصيتين البارزتين في شخصية الإمام(ع) وحياته الشريفة إلا أنه لم يبتعد في تشخيص الأوضاع واتخاذ المواقف مما كان يجري حوله وفي الأمة عما يسلكه أهل العقل والحِجى والحكمة بحسب العادة في مثل ما قد نوى الإمام(ع) القيام به والعمل على تنفيذه، وهي السمة التي يجدها كلّ أحد ممن قرأ سيرة نهضته المباركة منذ لحظتها الأولى وإلى آخر رمق من حياته الزاخرة بالبطولة مما يجعل المتتبع على يقين بأن الإمام(ع) لم يرتجل كلمة هنا ولا موقفاً هناك بل كلّ شيء قد خطط له بعقل كبير وحكمة بالغة وصبر وأناة ودقة وعناية، وهو ما كان له دور أساسي في أن يكون لنهضته هذا التأثير في النفوس وهذا الحجم اللامحدود من النجاح والخلود.
الفهم من الداخل
أن يكون الفهم لكل ما يتصل بالنهضة الحسينية من داخل مدرسة أهل البيت عليه السلام لا من خارجها كالمدارس المقابلة مهما كان لونها أو شكلها، وذلك غير أنه أوفق بالموضوعية والعلمية - باعتبار أن أهل البيت(ع) أدرى بما فيه وأقدر على تفسير ما يقومون به ويتخذونه من أعمال ومواقف -، فإنه أدعى للاطمئنان بما يمكن الانتهاء إليه من معلومات ومعطيات ونتائج وأحكام وهو ما قد أكده أهل البيت(ع) في غير موقف وموطن تأسيساً للمنهجية العلمية في مجال التعرف عليهم وعلى سيرتهم وحياتهم وفضائلهم ومناقبهم وخصائصهم «يا كميل، لا تأخذ إلا عنَّا تكن مِنَّا»، وأهل البيت(ع) لم يألوا جهداً في التعريف بأنفسهم بشكل عام والتعريف بالإمام الحسين(ع) ونهضته المباركة بشكل خاص.
دفائن الأسرار
لأكثر من سبب وحيثية ستبقى النهضة الحسينية مكتنفة بالحِكَم والمصالح والأسرار الكثيرة والمتنوعة التي سيتكفل الزمن والأجيال جيلاً بعد جيل بالكشف عنها والتعرف عليها وإبرازها للعلن وهكذا فهي أكبر من أن يُحاط بها في زمن أو جيل أو جهة، وبالتالي ينبغي مدارستها أبداً والتفقه في متون أقوالها وبنود أفعالها على طول الخط والالتجاء إليها كلما رمنا قبساً من نور أو سبيلاً للنجاة فإنها مصباح هدى وسفينة نجاة، وعليه ينبغي التوغل في حقائقها برفق وعدم التسرع في الحكم عليها أو لها من دون حجة واضحة أو بينة قاطعة من نص صريح أو قرائن جلية يركن إليها العقل وتسكن لها النفس ويطمئن بها القلب السليم وربما كان الجامع لأسباب ذلك كله أن كربلاء كانت لتبقى، فعطاؤها خالد، ومعين المعرفة بها لا ينضب أبداً!.
هذا ما نراه أهم ما ينبغي الالتفات إليه من ضوابط لكلّ عملية فهم لأي جانب من جوانب هذه الملحمة الإلهية الخالدة.
المصدر: موقع مركز الإعلام الدولي