□ ملاحظة
خطوات نحو اليقين
الإيمان بالله يعني معرفة الحقّ واتّباعه. والإيمان ليس شيئاً موجوداً خارج الإنسان يدخل إلى قلبه عن طريق الحواس كالعين والأذن، بل هو أمر تكوينيّ وفطريّ أُعطي للإنسان حين خلْقه، كما أُعطي القدرة على زيادته، إذ إنّه يستطيع ببركة اتّباع الشرع والالتزام بتطبيق التعاليم الإلهيّة، أن يصل إلى أعلى درجات اليقين كما سيأتي.
▪ الإيمان مصدر طاقة
هذه الفطرة والقدرة على معرفة الله في كيان الإنسان هي كالتيّار الكهربائيّ في الأجسام. كما أنّ الاستفادة من الطاقة الكهربائيّة الكامنة في الأجسام تتوقّف على الأسباب والوسائل العلميّة والتجريبيّة، فكذلك ظهور نور العلم والإيمان المستقرّ في كيان الإنسان والمودع فيه، يتوقّف على أمور، إذا سعى الإنسان وعمل على تحصيلها، يظهر هذا النور ويظلّ يزداد حتّى يصل إلى درجة اليقين. وإذا أهمل الإنسان تحصيل هذه الأمور، يتضاءل هذا النور رويداً رويداً حتّى ينطفئ نهائيّاً.
▪ الطهارة من الأدران
يتوقّف ظهور نور الفطرة بشكل عام على أمرين:
1. "التخلية": وهي أن يُطهّر القلب ويفرّغ من أنواع الأدران والتلوّثات من النزوات والأفعال الحيوانيّة والشيطانيّة. وباختصار: أن يطهّر الإنسان قلبه من الغفلة عن الحقّ التي طغت على فطرته، فأصدأت مرآة قلبه وغطّتها، بالتفصيل الذي سيأتي.
2. "التحلية": هي أن يقوّي نور الفطرة بواسطة التفكير والذكر ليحلو القلب بذكر الله، كما سيأتي.
▪ الإيمان فطريّ
[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا] (الروم: 30)؛ أي أقبل بوجهك على التوحيد والإسلام الذي هو الدين الحقّ (الحنيف) والتفت إليه، [فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم: 30). المراد بالفطرة تلك القدرة على معرفة الله وتوحيده والالتزام بلوازم التوحيد، وهذه القدرة أودعها الله في كيان الإنسان، [لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ]؛ أي أنّ فطرة الله لا تقبل التغيير، أو أنّ المراد أنّه لا يصحّ لك أن تغيّر فطرة الله، أي يجب عليك الثبات على التوحيد وطريقة الإسلام، [ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] (الروم: 30).
▪ [لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ]
توضيح ذلك أنّ كلّ مخلوق خلقه الله، سواء أكان جماداً أم نباتاً أم حيواناً وغير ذلك، قد منحه سبحانه قدرة التكامل، أي الوصول إلى الكمال الذي يناسبه، وخلق فيه الحركة نحو هذا التكامل، بحيث إنّ التبديل والتغيير في ذلك محال؛ فحبّة القمح مثلاً، أودع الله فيها قدرته، بحيث إذا توفّرت الأسباب، أي إلقاؤها في التراب ووصول الريّ إليها، فإنّها تنشقّ ويصبح نصف منها جذراً يستقرّ في الأرض، والنصف الآخر يخرج من التراب ويتحول إلى نبتة تعطي من القمح أضعاف الحبّة الأصليّة، وهذه السُّنّة في حبّة القمح لن تتغيّر أبداً، أي أنّ حبّة القمح لن تنبت عدساً أو شعيراً أبداً.
▪ الاستقامة على طريق الفطرة: كمال الإنسان
أودع الله في الإنسان القدرة على التكامل في تنظيم حياته الماديّة، وتأمين راحته في حياته الأبديّة، والوصول إلى المراتب الروحيّة، وهو لا يبلغ هذا الكمال إلّا إذا استقام على طريق التوحيد والالتزام بدين الله.
ولأنّ بلوغ الإنسان الكمال الذي يناسبه يتوقّف على اختياره ورغبته في توظيف تلك القدرة المودعة فيه واستخدامها حتّى يصبح من أهل الإيمان والمعرفة متحلّياً بالأخلاق الفاضلة، فمن الواضح جدّاً أنّ الاستقامة على طريق التوحيد تتنافى مع الميول الحيوانيّة التي يحتاج الإعراض عنها إلى همّة عالية كما تقدّم.
وخلاصة القول: إنّ بلوغ كلّ موجود الكمال الذي يناسبه، هو أمر حتميّ عند توفّر الأسباب. وفي الإنسان، يعدّ السبب الرئيس إرادته، وغالباً ما يقنع الإنسان بالمستوى الحيوانيّ، ولا يطلب "الإنسانيّة" ولا يريدها حتّى يصل إليها. والهدف من كلّ المواعظ والتحذيرات والترغيب بالثواب والتخويف من العقاب هو تحريك هذه الإرادة والطلب في الإنسان؛ ليصبح طالباً الوصول إلى مستوى الإنسانيّة غير قانع بمستوى "الحيوانيّة".
▪ التحلية بالفكر والذكر
بعد إزالة العقبات التي تمنع من معرفة الله، تجب المواظبة على عملين: التفكير والذكر.
يقول تعالى في سورة آل عمران (الآيتان 190-191): [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ] (والكواكب التي تظلّلنا بأسرارها وعجائبها) و[فِي خَلْقِ... وَالأَرْضِ] (التي نعيش عليها بما فيها من عجائب المخلوقات)، [وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] (وفق هذا النظام الثابت)، [لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ٭ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ] (أي يذكرون الله في جميع حالاتهم، وعلى جنوبهم تعني حالة النوم والاستراحة)، [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] (فيدركون أنّ هذا العالم العظيم لم يُخلق عبثاً بل خُلق لهدف سامٍ، هو وصول الإنسان إلى مقام المعرفة والعبوديّة ومن ثمّ إلى السعادة الأبديّة)، ويقولون: [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ] (أنت منزّه عن العبث)، [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (ودلّنا على طريق المعرفة وثبّتنا عليه). هذا التفكّر يقود إلى الذكر.
▪ التقدّم الدنيويّ والتأخّر المعنويّ
أيّها القارئ العزيز: تأمّل جيّداً في هذه الآية الشريفة: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7). أليس أكثر الناس اليوم كذلك، كلّ علومهم تنصبّ على عالم الدنيا والحياة الماديّة، وقلّما تجد موضوعاً لم يحرزوا فيه تقدّماً مذهلاً؟
مثلاً: في علم الزراعة وعلم النبات، وصلوا إلى مستوىً رفيع. في علم الطبّ والجراحة، وطريق تشخيص المرض والدواء لبدن الإنسان، أحرزوا تقدّماً هائلاً بحيث يمكنهم إجراء عمليّة جراحيّة للقلب أو استبداله.
وفي مجال اختراع لوازم المعيشة وتأمين وسائل الراحة، ابتكروا أشياء لم تكن تخطر على بال. وقد تجاوزوا الأرض لتسخير الفضاء وقطعوا مسافة كبيرةً جدّاً وحطّوا على سطح القمر.
ولكن يا للأسف! بالرغم من كلّ هذه العلوم عن ظاهر هذا العالم، فإنّهم يجهلون كلّ شيء عن باطن العالم وخالقه، وهم لا يعتقدون بفناء هذا العالم وزواله، رغم أنّ العلماء في هذا العصر وصلوا إلى هذه الحقيقة وقالوا: إنّ للأرض أجلاً وعمراً تتلاشى بعده، وقالوا: إنّ منظومتنا الشمسيّة هي الآن في سنّ الشيخوخة والهرم.
وأوضح من هذا كلّه فناء كلّ فرد، فلا بقاء لأحد هنا، ولكن هذا لا يؤثّر في قلوبهم حتّى يبعثهم على التفكير في حياة ما بعد الموت!
المصدر: مقتبس من كتاب القلب السليم، ج 1، ص191 - 195. "مجلة بقية الله"