printlogo


printlogo


□  مقالة/ الجزء الثاني
الخاتمية والمرجعية العلمية لأهل البيت(ع)


  آیةالله الشيخ جعفر سبحاني/ ترجمة: السيد حسن مطر
□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
‏تضمين حجية أقوال النبي في سنة النبي(ص)
إذا كان كتاب الله وسنة النبي حجة حقاً فإننا نجد في سنة النبي المتواترة أن ‏العترة إلى جانب القرآن ‏الكريم؛ إذ يقول النبي ‏الأكرم(ص): «إني تارك فيكم الثقلين: ‏كتاب الله؛ وعترتي». وقد شبّه النبي ‏الأكرم عترته بسفينة نوح؛ إذ يقول: «مثل أهل ‏بيتي ‏كسفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلَّف عنها ‏غرق».‏
وعليه نتساءل: إذا كان علم ومعرفة كل واحد من أهل بيت النبي لا يتجاوز ‏مستوى علم ومعرفة أيّ ‏صحابي آخر فلماذا أعطى النبي ‏الأكرم كل هذه المزايا ‏لهم، وفضَّلهم على غيرهم، فيسمِّيهم تارةً بعِدْل ‏القرآن، وتارة أخرى بسفينة نوح؟! ‏ألا يشكل هذا النوع من ‏المزايا والخصائص دليلاً على أنهم كانوا ‏يتمتَّعون بعلم ‏مختلف عن العلوم التي عند غيرهم، وأنهم في ضوء هذه المعرفة يعمدون ‏إلى ‏توضيح ‏أحكام قد نزلت على النبي مسبقاً، لا أنهم يأتون بأحكام جديدة ومبتدعة؟
‏استخلاص النتائج
‏1ـ كان الأئمة المعصومون(ع) ينقلون الكثير من الأحكام، ويضعونها تحت ‏تصرّف الناس، من ‏صحيفة علي. وإنّ ما يقولونه إنما هو ‏بيانٌ لأحكامٍ تمّ تشريعها ‏مسبقاً، وليس تشريعاً لأحكام جديدة.‏
‏2ـ إذا كان الأئمة(ع) يُلهَمون من قبل الله ببعض الأحكام فالمراد من ذلك هو ‏بيان الأحكام التي ‏نزلت على قلب النبي، ولم تتوفَّر ‏الظروف والشروط لبيانها في ‏وقتها.‏
والذي نرجوه من الكاتب، ومَنْ تَرِدُ على ذهنه مثل هذه الشبهات، أن يفرّق ‏بين إنشاء الأحكام ‏والإخبار عن الأحكام التي نزلت على ‏رسول الله؛ فإنّ إنشاء ‏الأحكام الجديدة مناقض للخاتمية، إلا ‏أنّ الإخبار عن الأحكام التي نزلت على قلب ‏النبي إنما هو تأييد للخاتمية، ‏ومن جملة علاماتها ‏وأدلّتها. والغريب أن البعض يقبل ‏بحصول الإلهام لأمّ موسى(ع)، أو تكليم الملائكة لمريم العذراء÷، أو ‏زوج ‏إبراهيم(ع)، ‏الوارد خبره في القرآن الكريم، ويستكثرون في الوقت نفسه ذلك على ‏الأئمة ‏المعصومين(ع)، ويشكِّكون في إمكانية ‏اطلاعهم على الأحكام التي تمّ تشريعها سابقاً! ‏ومن ‏الآيات الواردة في تكليم الملائكة لغير الأنبياء(ع): [وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ ‏إِنَّ ‏اللّهَ اصْطَفَاكِ ‏وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ] (آل عمران: 42)؛ [وَأَوْحَيْنَا ‏إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ] ‏‏(القصص: 7).‏
لقد كان حديثنا حتى الآن مع شخص يؤمن بالخاتمية واختتام عصر النبوّات، ‏ولا يرى للإنسان من ‏سبيل نجاة سوى الإسلام، ولكنْ ‏بقراءة أخرى. ولذلك أوضحنا ‏أن خاتمية النبوّة لا تناقض المرجعية ‏العلمية لأهل البيت(ع) أدنى معارضة، وأنّ أئمة ‏أهل البيت إنما ‏يعملون على بيان الوحي والتشريع ‏الذي سبق أن نزل على النبي ‏الأكرم(ص).‏
‏تناقض في الأقوال
أجل، إن لدينا هنا عتاباً خاصّاً لشخص الدكتور سروش، وهو أنّ هذا الإشكال ‏لو كان صادراً عن ‏الآخرين لكان لنا أن نعذره، إلا أنّ مَنْ ‏كان على شاكلة الدكتور ‏سروش فالمفروض أنه يؤمن بسلسلة ‏من الأصول التي لا تنسجم مع ختم النبوّة ‏وانقطاع الوحي. وتلك الأصول ‏التي دعا إليها الدكتور ‏سروش هي:‏
أ) استمرار الوحي النبوي.‏
ب) الإيمان بالتعددية الدينية والسبل المستقيمة.‏
فقد ذكر، في ما يتعلق بالعنوان الأول، «أنّ التجربة النبوية، أو ما يشابه ‏تجربة الأنبياء، لا تنقطع بشكل ‏كامل، بل يبقى لها حضور ‏مستمر ومتواصل». ‏
وذهب في ما يتعلق بالعنوان الثاني إلى العديد من السبل المستقيمة، بدلاً من ‏الصراط المستقيم، فآمن ‏بالتعددية الدينية في أوسع ‏معانيها، وقال بأنّ جميع القراءات ‏الإسلامية صحيحة، ومدعاة إلى النجاة.‏
وعليه كيف يسوّغ لنفسه تخطئة القراءة الشيعية في ما يتعلق بالأئمة، ويذهب ‏إلى الاعتقاد المقابل ‏والمناوئ؟! وكما يقول المثل: يرى ‏القذى في عين الآخرين، ولا ‏يرى الخشبة المعترضة في عينه. وقد ‏قال في بعض تعبيراته:‏
‏1ـ «علينا أن نذعن لهذه الحقيقة بالمطلق. وعلينا أن نغيّر نظرتنا. وبدلاً من ‏القول بوجود خط واحد ‏مستقيم في العالم، والكثير من ‏الخطوط المنحرفة والمائلة، ‏علينا أن نرى تقويم جميع الخطوط، رغم ‏تقاطعها وتوازيها وتطابقها، وهناك في ‏الحقيقة امتزاج بين ‏الحقائق».‏
فإذا كانت جميع الخطوط عنده مستقيمة وصحيحة فكيف يرى عقيدة الشيعة ‏في باب المرجعية العلمية ‏للأئمة خطاً مائلاً ومنحرفاً عن ‏الصراط المستقيم، فإلى أيّ ‏شيء يشير هذا التناقض بين النظرية ‏والتطبيق؟!‏
‏2ـ «إنّ الإسلام السني فهم للإسلام. وكذلك الإسلام الشيعي، فهو فهم آخر ‏للإسلام. وإن هذا وتوابعه ‏ولوازمه أمر طبيعي وصحيح». ‏فإذا كان الإسلام ‏الشيعي ـ كما يقول ـ فهماً طبيعياً وصحيحاً عن ‏الإسلام فكيف يذهب الآن إلى ‏الاعتقاد بأن إيمان الشيعة بمرجعية ‏أئمتهم العلمية أمرٌ غير طبيعي ‏وغير صحيح؟!‏
‏نظرية تكامل المعرفة الدينية (القبض والبسط) ولوازمها الخاطئة
إنه عندما استعرض نظرية القبض والبسط في مجلة «كيهان» قال بأنّ كلّ ‏العلوم البشرية مترابطة ‏ومتداخلة فيما بينها، كالسبحة في ‏اليد، فعندما يحصل تغير ‏أو تحرك في أيّ من هذه العلوم فإنّ ذلك ‏يؤثِّر بصورة أو بأخرى على العلوم ‏الأخرى، بما في ذلك العلوم ‏الدينية. ‏
وقد قلت في نقد هذه النظرية:‏
‏1ـ إنّ التعبير بالقبض والبسط في فهم الشريعة إنما هو تعبير محترم ومؤدب ‏عن السفسطة والتشكيك ‏الذي ظهر في اليونان، وتمّ ‏القضاء عليه فيما بعد من قبل ‏حكماء من أمثال: أرسطو وغيره. وعلى مَنْ ‏أراد المزيد الرجوع إلى تلك المقالة.‏
‏2ـ إنّ فرضية (القبض والبسط في فهم الشريعة) قد حكمت على نفسها ‏بالموت؛ لأنها تشمل نفسها ‏أيضاً. فلربما تتحول هذه النظرية في ‏ضوء سلسلة من ‏الفرضيات في العلوم والمعارف إلى أكثر عمقاً، ‏بل ومتناقضاً بينه وبين نفسه أحياناً.‏
‏3ـ إنّ هذه النظرية لا تتناسب والخاتمية، في حين أنّ الخاتمية من الأسس ‏والأصول الثابتة والبديهية ‏في الإسلام. فإننا لو فرضنا تحول ‏الأفكار والعلوم ‏والموضوعات فإن ذلك يشمل الخاتمية؛ بوصفها ‏موضوعاً أيضاً، فلا بد أن يطالها ‏التغيير والتبدّل نتيجة للتبدُّل والتغيّر ‏في تلك العلوم.‏
لقد كان هذا النقد من الوضوح والقوّة بحيث اضطر أحد مناصريه، الذي ألَّف ‏كتاباً تحت عنوان: «نقد ‏بعض الاعتراضات الموجّهة لتلك ‏النظرية»، إلى القول بأنه ‏وجده وجيهاً للغاية. فما عدا مما بدا؛ إذ ‏بادر حالياً، رغم مبانيه في التجربة النبوية، ‏واستمرار الوحي، ‏والاعتقاد بالسبل المستقيمة، والتعددية ‏الدينية، والقول بمختلف ‏القراءات عن الدين، يأتي ويهدم كل ما بناه من خلال انتقاده للفكر ‏الشيعي؟! ‏أما أنا ‏ففي حيرة من أمره! وعليه أن يفتينا مأجوراً.‏
‏المحور الثاني: خصائص الأنبياء(ع)
قال سروش: إنّ للأنبياء ثلاث خصائص أساسية، وهي:‏
أـ إنهم يحصلون على علومهم ومعارفهم من الله تعالى مباشرة بلا واسطة.‏
ب ـ إنهم معصومون عن الخطأ في القول والفعل.‏
ج ـ إنّ كلامهم حجّة على غيرهم.‏
وبذلك يصل إلى نتيجة مفادها أننا كلما ذهبنا إلى اعتبار علم أئمة الشيعة ‏مباشرياً، وليس اكتسابياً، ‏ومن جهة أخرى نعتبرهم معصومين ‏عن الخطأ في القول ‏والفعل، واعتبرنا حجيّة كلامهم على ‏الآخرين، فعندها لن يكون هناك أيّ فرق بينهم ‏وبين الأنبياء، وإنّ مسألة ‏الخاتمية ستغدو مجرّد لفظ ‏بلا مفهوم.‏
ونقول في تحليل كلامه ما يلي: ‏
أولاً: صحيح أنّ الأنبياء يتمتعون بهذه الخصائص الثلاث، ولكن بالإضافة إلى ‏هذه الخصائص الثلاث ‏هناك خصيصة رابعة لا توجد ‏في الأئمة، فإنّ للأنبياء مقام ‏النبوّة والشريعة، وإنّ الوحي الإلهي إنما ‏نزل عليهم لأنهم حملة شريعة، ومؤسِّسون ‏لدين جديد. والأئمة ‏يفتقرون إلى هذه الخصيصة الرابعة، أي ‏إنهم لا يتمتعون بمرتبة ‏النبوّة، وليسوا دعاة لشريعة جديدة، وإنما هم مشمولون لنعمة الله، ‏فاستحقوا ‏حمل ‏شريعة النبي الأكرم(ص)، حيث استؤمنوا واستحفظوا عليها.‏
ثانياً: صحيح أنّ الأئمة يتمتعون بهذه الخصائص الثلاث، ولكن هذا لا يعني ‏أنّ كل من توفَّرت فيه هذه ‏الخصائص يجب أن يكون نبياً ‏بالضرورة. وكما يقول ‏المثل المعروف: «ليس كل ما يلمع ذهباً». وكما ‏يقول المناطقة: إنّ بين هذه ‏الخصائص الثلاث وبين النبوة ‏عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكلُّ نبي يجب أن ‏تتوفر فيه ‏هذه الخصائص الثلاث، ولكن ليس كلّ من توفرت فيه هذه الخصائص الثلاث ‏يجب ‏أن ‏يكون نبياً بالضرورة.‏
ففي ما يتعلَّق بالخصيصة الأولى، وهي العلم اللدني، يمكن القول: كثيراً ما ‏يحصل ذوو النفوس الطاهرة ‏على علوم من العوالم العلوية ‏إلهاماً، دون أن يكون ‏ذلك العلم اكتسابياً، ومع ذلك لا يكونون أنبياء، ‏وقد تقدم أن ذكرنا أمثلة لذلك.‏
وفي ما يتعلق بالخصيصة الثانية، وهي العصمة، فعلينا التذكير بأنّ العصمة ‏ليست من الخصائص ‏المنحصرة بالنبوّة، فإنّ السيدة مريم ‏العذراء ـ مثلاً ـ معصومة ‏عن كلّ خطأ؛ بحكم قوله تعالى: [يَا مَرْيَمُ ‏إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى ‏نِسَاء الْعَالَمِينَ] (آل ‏عمران: 42)، ومع ذلك لم تكن نبيّة.‏
وفي ما يتعلق بالخصيصة الثالثة يمكن القول بأنّ حجية الكلام لا تلازم النبوّة، ‏فالعقل ـ مثلاً ـ حجّة ‏على الجميع، مع أنه ليس نبياً. ‏وهكذا هي فتوى الفقهاء، فإنها ‏حجّة على المقلِّدين، وليس هناك مَنْ ‏يذهب إلى القول بنبوّة الفقهاء.‏
وخلاصة القول: إنّ هذه الخصائص، سواء كانت مجتمعة أو متفرّقة، ليست ‏من العلائم المنحصرة في ‏الأنبياء، وإنْ كان جميع الأنبياء ‏يتمتعون بهذه الخصائص. ‏وإن ما يمتاز به الأنبياء عن غيرهم هو ‏كونهم أصحاب شرائع، ومؤسِّسين لأديان. ‏وهذه الخصيصة لا توجد ‏عند سواهم، حتى لو كانوا أئمة. ‏وليس هناك مَنْ يدعي ‏ذلك سوى الأنبياء.‏
ونحن نسأل الكاتب: ما هو المحذور في أن يعلِّم الله تبارك وتعالى جماعة؛ ‏ليبلغوا ما أنزله على ‏صاحب الشريعة، ولم تساعده الظروف ‏على بيانها، ويجعلهم ‏معصومين من الخطأ؛ كي لا يحصل نقض ‏للغرض في إبلاغ الرسالة، ويقول للناس ‏بأنّ تقريرهم عن صاحب ‏الشريعة حجّة عليكم؟ فهل تعدّ ‏مثل هذه الموهبة والنعمة ‏مستحيلة عليه وعليهم؟!‏
فيجدر بنا عدم إنكار التعاليم تحت ذريعة صيانة الخاتمية.‏
إنّ خاتم الأنبياء(ص)، الذي جاء بالدين الإسلامي، وعرَّفه على أنه الدين الخاتم، ‏والجامع للأحكام ‏الثابتة والباقية عبر العصور، أثبت ‏بنفسه هذه الخصائص للأئمة ‏من بعده في تعابير صريحة وواضحة:‏
‏1ـ فمن جهة يعبّر عنهم بأنهم عِدْل القرآن؛ إذ يقول: «كتاب الله؛ وعترتي». ‏ولا يخفى أنّ عِدْل القرآن ‏لابد أن يكون مثله في العصمة ‏والحجية على الناس.‏
‏2ـ إنّ النبي الأكرم(ص) قال للناس: إنّ الهداية في اتباع العترة، والضلالة في ‏التخلُّف عنهم، والتمرّد ‏على أوامرهم؛ إذ يقول: «ما إن ‏تمسّكتم بهما لن تضلوا أبداً». ‏وقال في شأن أمير المؤمنين علي(ع): ‏‏«أنا مدينة العلم، وعلي بابها».‏
فهل كان علم الأئمة(ع) بالمسائل العقائدية والعلمية علماً اعتيادياً، كالعلم الذي ‏يحصل عليه الطالب ‏من خلال حضوره في الدرس ‏على يد بعض الأساتذة، أو أنهم ‏تعلَّموا ذلك بطرق غير عادية، كما هو ‏الحال بالنسبة إلى صاحب موسى(ع)؛ إذ يقول ‏عنه تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً]؟
لو كان الأئمة المعصومون(ع) كسائر الناس العاديين فما هو معنى كلّ هذا ‏التأكيد على وجوب ‏اتباعهم؟! وعليه لا ينبغي إنكار سائر ‏التعاليم بحجة الحفاظ على ‏الخاتمية، فتكون كلمة حقّ يراد بها ‏باطل.‏
مضافاً إلى استحالة أن تكون هذه المعارف والتعاليم التي وصلت إلينا من ‏الأئمة(ع) نتيجة لدراسة ‏عادية؛ فإنّ كثرتها وعمقها ‏وعظمتها لدليل على أنها ثمار جنة ‏أخرى.‏
انتهی ویلیه الجزء الثالث
المصدر: نصوص معاصرة، العـدد الواحد والعشرون
السـنة السادسة، ‏شتاء 2011م، 1432هـ