printlogo


printlogo


مقالة
ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية - الجزء الثاني
د. علي المؤمن‏

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
مصادر العدوان في العقيدة الصهيونية:
اعتمد الفكر الصهيوني الحديث في تشكيله وفي إسباغ الشرعية اليهودية على نفسه، على ثلاثة ألوان من المصادر، تعبّر عن ثلاث مراحل زمنية:
المرحلة الأولى: المصادر الدينية التاريخية:
وهي المصادر التي حرفها وكتبها الكهنة اليهود على مدى تسعة قرون وبعدة لغات (قبل الميلاد وبعده)، وهي التراث الديني اليهودي الذي يشتمل على العهد القديم بأقسامه الثلاثة وأسفاره التسعة والثلاثين، والتلمود بقسميه: (المنشاه) و(الجمارا). وقد سوغت بعض نصوص هذه المصادر ارتكاب كل ألوان العنف والعدوان ضد الشعوب غير اليهودية. فهذه النصوص تقسم البشرية إلى قسمين:
1 – «اليهود» أو «العبرانيون»، وهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحباؤه وأُمته المقدسة، ولا تقبل العبادة إلا منهم.
2 – «الجوييم» أو «الأميون» أو «الأغيار»، أي اليهود، وقد خلقوا من طينة شيطانية، والهدف من خلقتهم خدمة اليهود، ولم يمنحوا الصورة البشرية إلا بالتبعية لليهود ليسهل التعامل بين الطائفتين، وذلك تكريماً لليهود.
وقد أرّخت هذه المصادر للتاريخ اليهودي المتخم بالحروب والفتن والمصائب. ومن خلال نوعية الحروب التي قادها أنبياء بني إسرائيل وملوكهم – كما تصف هذه المصادر – أو الفتن والمصائب التي تعرضوا لها أو تسببوا فيها، سوغت الصهيونية لنفسها العدوان بكل الصور على «الجوييم»، سواء العدوان الذي يستهدف الأخلاق والعفاف والجانب المعنوي والروحي، أو العدوان الذي يستهدف الابتزاز المالي والكسب اللا مشروع للثروات، أو العدوان والعنف والإرهاب الذي يستهدف مقدسات الآخرين وأراضيهم وأرواحهم وأعراضهم، وذلك بدافع الاستكبار والكراهية والحقد والانتقام، إضافة إلى دافع البحث عن الحقوق التاريخية الموهومة.
ومن هذه النصوص نص ورد في سفر الخروج في العهد القديم، يخاطب فيه إله بني إسرائيل نبيِّه موسى: «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح وإن فتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسلمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف». وهذا النص الموضوع يسوغ للعبرانيين استرقاق الكنعانيين واستعبادهم وقتل جميع ذكورهم.
وهناك نص موضوع آخر، فيه أمر أكثر وحشية وهمجية: «انتقم نقمة بني إسرائيل من المدنيين، فقاتلوا مدين كما أمر الرب موسى، واقتلوا كل ذكر فيها، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم، ولم يرضى موسى عن كل ما حصل، فقد ترك جنده الأطفال أحياء فسخط موسى وقال لهم: فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها». وفي سفر يوشع أنه قاد العبرانيين باتجاه أريحا «فقتلوا جميع ما في المدينة من اجل رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر».
وقد لا نحتاج هنا إلى إثبات كذب ما ينسبه العهد القديم من روح شريرة إلى الأنبياء، ولا سيما النبي موسى الذي قال فيه الله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيّا)، وهو الذي طالما نهى قومه عن الكذب والافتراء عليه وعلى الله تعالى: (قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
كما جاء في التلمود مجموعة فقرات تنص على أرواح اليهود تتميز عن باقي أرواح البشر بأنها جزء من الله، والابن جزء من أبيه، وأنّ المسيحيين من نسل الشيطان، والإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان بقدر الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، والله ذنباً ليهودي يرد للأممي (غير اليهودي) ماله المفقود.
المرحلة الثانية: المؤلفات الوسيطة:
وهي المؤلفات التي وضعها حكماء اليهود في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، ولا سيما مؤلفات موسى بن ميمون، إذ يؤكد ابن ميمون في كتابه «الاضطهاد» انفراد عنصر بني إسرائيل في قربه إلى الله وكونه معصوماً، وإن الله عاقب بعض الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم النبي «إيليا»، الذي نفاه الله إلى برية دمشق، والنبي «أشعيا» الذي قتله الله على يد الملك «المنسي»، وكذلك النبي موسى والنبي هارون اللذان عاقبهما الله بأن فصلهما عن بني إسرائيل ومنعهما دخول فلسطين؛ إذ جاء في سفر العدد: «فقال الرب لموسى وهارون: بما أنكما لم تؤمنا بي ولم تقدساني على عيون بني إسرائيل، لذلك لن تدخلا أنتما هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها إياها».
وفي نصوص ابن ميمون تبرز العصبية اليهودية التاريخية بأبشع صورها، وعلى حساب الأنبياء والأوصياء، ولا يكتفي ابن ميمون بذلك، بل يقول بأن «الفرق بين المسيحية والإسلام وبين اليهودية كالفرق بين إنسان حي وبين صورته المنحوتة في خشب أو فضة أو ذهب أو حجر».
المرحلة الثالثة: النصوص الحديثة:
وهي التي دوّنها أو قالها مؤسسو اليهودية الصهيونية وحكماؤها وروادها وقادتها، وهي مجموعة قولبة عصرية لمقولات تاريخية منتقاة وأدلجة علمانية لتعاليم دينية منتقاة أيضاً؛ إذ أعادت الصهيونية الروح للمقولات والتعاليم اليهودية التي تدعو للاستعلاء والاستكبار وممارسة الفساد والشر والقتل والتدمير، وفعّلتها بصورة ممارسات وأساليب على الأرض. ولعل قراءة استعراضية لما نشر تحت عنوان «بروتوكولات حكماء صهيون» وبعض مقولات «هرتزل» و «جابوتنسكي» و «بن غوريون» و«بيغن»، تتيح الوقوف على هذه الحقيقة بكل وضوح، ففي البروتوكول الأول من «بروتوكولات حكماء صهيون»، جاء بأن «حكم العالم يُنتزع بالحرب والإرهاب… الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خططنا ألاّ نلتفت إلى ما هو أخلاقي وما هو خير… يجب أن نعلم كيف نصادر الأموال بلا أدنى تردد، إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة، وأن دولتنا لها الحق أن نستبدل بأهوال الحرب أحكام الإعدام، والإعدام ضرورة تولد الطاعة العمياء، فالعنف وحده العامل الرئيسي في قوة الدولة… يجب أن يكون شعارنا: كل وسائل العنف والخديعة. أن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير. ولذلك يجب ألا نتردد لحظة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة».
وجاء في البروتوكول السابع: «من أجل أن نظهر استعبادنا لجميع الحكومات الأممية في أوروبا، سوف نبين قوتنا لواحدة منها متوسلين بجرائم العنف، وذلك هو ما يقال له حكم الإرهاب». وفي البروتوكول التاسع: «لقد خدعنا الجيل الناشئ من الأمميين، وجعلنا فاسداً متعفناً به علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها».
ويقول «جابوتنسكي» (أحد رواد الحركة الصهيونية)، وهو يؤدلج للعنف والقتل: «أن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل… أن التوراة والسيف أنزلا علينا من السماء» ويضيف: «أن العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين». ويقول أيضاً: «أن الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ».
ووظّف زعماء الكيان الصهيوني أفكار «جابوتنسكي»، من «بن غوريون» وحتى «أولمرت»، وكتبوها على الأرض بدماء ضحاياهم الأبرياء، حتى أن «مناحيم بيغن» ذكر بأن «التنكر أو حتى تجاهل أفكار جابوتنسكي يعني الخيانة»، ويقول أيضاً: «من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال… اليهودي المحارب أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نقوم بالهجوم».
وقد نفذت العصابات الصهيونية منذ العقد الأول للقرن العشرين هذه المهمة في فلسطين على أبشع وجه، ثم ورثها جيش الكيان الصهيوني والأحزاب الصهيونية على مختلف اتجاهاتها، التي تبدأ بأقصى اليسار وتنتهي بأقصى اليمين، حتى اندفع «بن غوريون» وهو يرى نجاح مشروع الإرهاب الصهيوني ليقول: «أن أمام عرب إسرائيل ثلاث خيارات: اعتناق الدين اليهودي، الطرد خارج البلاد، الإبادة التامة».
علمانية العقيدة الصهيوني:
برغم أن العقيدة الصهيونية اعتمدت في بنيتها الفكرية وصياغة خطابها العنصري وسلوكياتها العدوانية، على أساطير وخرافات منتقاة من التراث الديني اليهودي ومصادر العصبية اليهودية التاريخية، إلّا إنها عقيدة علمانية قومية لا يمت بصلة مباشرة لأي من ألوان التدين أو الفكر الديني أو السلوك الديني. وبالتالي؛ فالأيديولوجية الصهيونية هي استثمار سياسي علماني لأساطير دينية يهودية؛ وهو ما أقرّه ودعا إليه رواد الحركة الصهيونية؛ فمثلاً المؤسس «هرتزل» يقول: «إنني لا أخضع لأي وازع ديني» و «إنّ المسألة اليهودية لا تعني بالنسبة لي مسألة اجتماعية أو مسألة دينية.. إنها مسألة قومية»، كما لا يخفى كون مشروعه الصهيوني هو مشروع استعمار، وهو أيضاً حركة سياسية كما يقول ناشروا تراثه بقولهم: «منذ عام 1986 أصبح مصطلح الصهيونية مرادفاً للحركة السياسية التي أسسها ثيودور هرتزل».
كما أن زعماء الكيان الصهيوني أكدوا منذ قيام (إسرائيل) على أرض فلسطين علمانية دولتهم، وأنها دولة قومية تستند إلى معتقدات العصبية اليهودية التاريخية، وليست دولة دينية، وهو ما يعبر عنه مطلب تحويل فلسطين إلى «وطن قومي لليهود».
وعلى هذا الأساس فإن ادعاءات «الحقوق التاريخية» و«شعوب الله المختار» و«إسرائيل الكبرى» و«حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل» و«التميز العرقي» و«إحياء مملكة داود» و«إعادة بناء هيكل سليمان» والتجمع حوله، تدخل كلها في حسابات الفكر القومي الصهيوني وليس الديانة اليهودية، بل إن زعماء الحركة الصهيونية – وكثير منهم ملحدون – سلخوا هذه الادعاءات أو المقولات من مضامينها الدينية ووضعوها في خانة المقولات القومية السياسية؛ لتسويغ علمانية العقيدة الصهيونية وعلمانية كيان (إسرائيل)، ولعل هذا هو من أهم أسباب الخلاف بين الأحزاب العلمانية الأساسية (الليكود، شاس، أبيض أزرق، كاديما، ميرس، العمل، إسرائيل بيتنا وكولانو) من جهة، والأحزاب السياسية الدينية (مثل كاخ، البيت اليهودي وتكوما) من جهة أُخرى، والاتجاهات اليهودية غير الصهيونية من جهة ثالثة.
ومما يؤكد هذه الحقيقة الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي تصدر بين فترة وأخرى في الكيان الصهيوني؛ فالذين صوتوا للأحزاب الدينية في الانتخابات البرلمانية عام 1949 كانت نسبتهم 12% فقط، وأصبحت 13% عام 1992، بينما ظلت تحصل الأحزاب العلمانية على ما يقرب من 85% معدلاً عاماً. أما نسبة الـ90% من اليهود الإسرائيليين فهم غير متدينين (علمانيون أو ملحدون أو غير مبالين)، ولكنهم جميعاً يعتقدون أن فلسطين هي منحة إليهم من ألههم (يهوه) الذي لا يؤمن به معظمهم.
والنتيجة المهمة التي ينبغي الخروج بها من هذه الحقيقة، تتمثل في التوصيف الصحيح للصراع؛ فهو ليس صراعاً دينياً، أي ليس صراعاً بين الدينين الإسلامي واليهودي، ولا بين القوميتين العربية واليهودية، بل هو صراع إنساني عقدي، بين أهل فلسطين وعموم العرب والمسلمين ومن يتعاطف معهم من المستضعفين وعموم البشر، وبين العقيدة الصهيونية وأتباعها وحماتها المتمثلين بالاستكبار الغربي.
المصدر: مرکز نقد وتنویر للدراسات الإنسانیة