printlogo


printlogo


مقالة
المدرسة ألإخبارية في كربلاء

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
منذ القرن العاشر الهجري شهدت الحركة العلمية في كربلاء فتورا نسبيا، وإشتد هذا الفتور، وإتخذ منحى خطيرا في القرن الحادي عشر، وإستمر فشمل القرن الثاني عشر أيضا ، إلا ما أستثني منه عقداه ألأخيران. ولم يقتصر الفتور العلمي على حوزة كربلاء بل شمل كذلك حوزة النجف وسائر الحوزات في العراق وإيران .
ففي القرن العاشر الهجري، لم تبرز على الساحة العلمية في كربلاء شخصيات علمية من الطراز ألأول، صحيح أن هناك أسماءا لمعت، لكن أصحابها لم يكونوا بتلك المكانة العلمية الرفيعة بما يؤهلهم لخلق نهضة علمية نشطة، أي أن المسرح العلمي خلا من الشخصيات التاريخية ومن الرموز المتألقة التي تكمن فيها عوامل الجذب والحركة، والتجديد وألإبداع، وكان من نتيجة ذلك أن حصل تخلخل أو بألأحرى فراغ على الساحة العلمية ألإسلامية.
وبسبب الفتور العلمي الطويل الذي ساد الحوزات العلمية في كربلاء والنجف والحوزات العلمية في إيران، وكذا غياب ألإتجاه العلمي المتعمق والمسنود بقوة العقل والمنطق والعرف المقبول، باتت نزعة التصوف تطغى على كل شيء وتتخذ طابع الغلو المتزايد.
وهكذا إنصرم القرن الحادي عشر مثلما إنصرم أكثر عقود القرن الثاني عشر فيما الروح العلمية راكدة وفاترة إلى حد كبير، حتى أنه بعد الشيخ المجلسي صاحب كتاب «بحار ألأنوار» المتوفى سنة 1111 هـ، لم تلمع أسماء بارزة من الفقهاء ألأصوليين، ممن يستحقون أن يصنفوا في الطبقة ألأولى، أو ممن تتوفر لهم مكانة الرئاسة العامة، ما عدا واحد أو إثنين ظهرا في أواخر القرن الثاني عشر وهما الشيخ الفتوني في النجف المتوفى سنة 1183 هـ، والمجتهد البارع ألآغا وحيد البهبهاني في كربلاء المتوفى سنة 1208 هـ.
وأمام ظاهرة تفشي نزعة التصوف والمغالات فيها إلى أبعد الحدود، كان لا بد من حدوث رد فعل معاكس، غير أن الرد العكسي هذا، لم يأت من جانب دعاة توظيف علم ألأصول في إستنباط ألأحكام الشرعية من نصوصها ألاصلية والفرعية، وما يتطلب ذلك من تدقيق وتحقيق في مصادر ألأخبار والروايات، ومن فرز بين قويها وضعيفها، وبين ما هو من ألأخبار حقيقي وما هو مدسوس ومختلق تبعا لشخصية الرواة والمحدثين، بل جاء الرد من أفكار جديدة ظهرت على الساحة الدينية في كربلاء أولا، ومن ثم في حوزة النجف، فبدأت تدعو الناس إلى التمسك فقط بألأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها، والتقيد بظواهرها دون إعتبار لمصادرها ونبذ علم الأصول، من حيث أن العقل لا يجوز الرجوع إليه في كل شيء.
ثم بدأت مع هذه ألأفكار مسيرة الغلو، حتى إنتهى المطاف بها إلى مرحلة نكران ألإجتهاد وترك التقليد في المسائل وألأحكام الشرعية.
وبظهور هذه ألأفكار نشأت مدرسة ألإخبارية الحديثة، وكان أول من دعا لهذه الفكرة هو السيد الميرزا محمد أمين ألإسترابادي المتوفى سنة 1023 هـ، وقد تزعم ألإخباريين في القرن الحادي عشر الهجري، وهو أول من باحث المجتهدين ألأصوليين، داعيا للعمل بمتون ألأخبار الواردة قائلا: إن إتباع العقل وألإجماع وإجتهاد المجتهد وتقليد العامي للشخص المجتهد من المستحدثات وقد ضمن آراءه هذه في كتاب سماه «الفوائد المدنية في الرد على من قال بألإجتهاد والتقليد» وهو كتاب مطبوع وكان عند تأليفه له مجاورا بالمدينة، فسماه بـ «الفوائد المدنية . . . ».
ثم لمع إسم شخصية علمية ذات مكانة مرموقة وشأن عظيم على صعيد الفقه الجعفري ألإمامي في حوزة كربلاء، هو المحدث الكبير والفقيه النحرير الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن عصفور بن أحمد بن عبدالحسين بن عطية بن شيبة الدرازي البحراني صاحب كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة»، المولود سنة 1107 هـ والمتوفى سنة 1186 هـ والذي كان من أجلاء وأفاضل العلماء المتأخرين، وكان صاحب ذهن متوقد وذوق سليم متزن وله باع طويل في الفقه والحديث وكان على طريقة ألإخباريين، وإن لم يكن متطرفا في ميله هذا، ويقال إنه إتجه إلى ألأصول عندما أقنعه العلماء المجتهدون وعلى رأسهم الوحيد البهبهاني.
وقد قال في حقه أبو علي صاحب كتاب الرجال: عالم فاضل متبحر ماهر محدث ورع عابد صدوق ديّن من أجلة مشايخنا المعاصرين، وأفاضل علمائنا المتبحرين، كان أبوه الشيخ أحمد من أجلة تلامذة شيخنا الشيخ سليمان الماحوزي وكان عالما فاضلا محققا مدققا مجتهدا صرفا . . . رجع إلى الطريقة الوسطى وكان يقول أنها طريقة العلامة المجلسي صاحب البحار وعلق صاحب «أعيان الشيعة» على الطريقة الوسطى بقوله: وكان مراده بالطريقة الوسطى ترك بعض ما يقوله ألإخباريون من أنهم لا يعملون إلا بالقطع، وإن ألأخبار قطعية وغير ذلك من ألأمور، وإلا فالرجل إخباري صرف، لا يدخل في شيء من طرق المجتهدين كما تشهد بذلك مصنفاته، نعم ربما يكون قد ترك شيئا من مقالاتهم، فقيل فيه أنه على الطريقة الوسطى.
وقال في ترجمته نفسه في «إجازته الكبيرة»: أنه ولد في السنة السابعة بعد المائة وألألف في قرية «الماحوز» بالبحرين، وإشتغل وهو صبي على والده (طاب ثراه) ثم على العالم العلامة الشيخ حسين الماحوزي، وإشتغل أيضا على الشيخ أحمد إبن عبدالله البلادي وغيرهما من علماء البحرين، وبقي مدة مشتغلا بالتحصيل، ثم سافر إلى الحج وزار النبي صلى ألله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ثم رجع إلى القطيف وبقي بها مدة مشتغلا بالتحصيل، وبعد خراب البحرين وإستيلاء ألأعراب وغيرهم عليها فر إلى ديار العجم وقطن كرمان، ثم في شيراز وتوابعها من ألأصطهبانات مشتغلا بالتدريس والتأليف، ثم سافر إلى العتبات العاليات وجاور كربلاء شرفها ألله، إلى أن قبض بها بعد ظهر يوم السبت الرابع من شهر ربيع ألأول سنة ست وثمانين بعد ألألف والمائة، وتولى غسله كما في رجال أبي علي المقدس الشيخ محمد علي الشهير بإبن السلطان والحاج معصوم وهما من تلامذته، وقال: صلى عليه العلامة البهبهاني (الوحيد البهبهاني)، وإجتمع خلف جنازته جمع كثير وجمهور غفير مع خلو البلاد من أهلها لحادثة نزلت بهم، قيل وهي الطاعون العظيم الذي كان في تلك السنة في العراق، وهاجر فيها السيد بحر العلوم إلى مشهد الرضا(ع) ثم رجع إلى أصفهان، ودفن في الرواق عند رجلي سيد الشهداء مما يقرب من الشباك المبوب المقابل لقبور الشهداء، وإبتلي في آخر عمره بثقل السامعة، كما عن المحقق السيد محسن البغدادي في رسالته التي رد بها مقدمات الحدائق.
له مؤلفات نافعة منها وهو أحسنها : «الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة »، خرج منه جميع العبادات إلا الجهاد، وأكثر المعاملات إلى الطلاق، و «الدرر النجفية»، و «سلاسل الحديد في تقييد أبي الحديد» ردا على شرحه لنهج البلاغة، و «الشهاب الثاقب في معنى الناصب»، و «النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية»، و «أعلام القاصدين إلى مناهج أصول الدين»، و «معراج النبيه في شرح من لا يحضره الفقيه»، و «جليس الحاضر وأنيس المسافر»، و «لؤلؤة البحرين»، والكتاب ألأخير يشتمل على ترجمة أحوال أكثر علماء الشيعة إلى زمان الصدوقين، وعشرات من الرسائل من أهمها: «إنفعال الماء القليل بالنجاسة» ردا على الكاشي، و «الرد على السيد الداماد في قوله بعموم المنزلة في الرضاع»، و «أجوبة المسائل البحرانية»، و «أجوبة المسائل البهبهانية» و «أجوبة المسائل الكازرونية»، و «أجوبة المسائل الشيرازية ».
مما تقدم يتبين لنا أن حوزة كربلاء اصبحت متأثرة بالمدرسة ألإخبارية وباتت هذه المدرسة هي الموجهة للحركة التدريسية فيها وإستمرت هذه المدرسة تفرض نفسها على الحركة العلمية في حوزتي كربلاء والنجف وبعض الحوزات ألأخرى، لفترة ناهزت نصف القرن ، لكنها هي ألأخرى طوت مسيرة الغلو، وذلك بالرغم من ميل كبار الفقهاء ألإخباريين، الذين إختاروا الطريقة الوسطى والذين لم ينزلقوا في متاهات الغلو المفرط، مثل العالم الجليل الشيخ يوسف البحراني المتزمتين والمغالين، كما جاء آنفا.
ولكن عندما وصلت المدرسة الإخبارية إلى ذروة شأنها، كان لابد من حصول ردة فعل في مواجهتها، وهكذا برز التحدي الكبير، وكان ذلك من جانب الفقيه العبقري، والمجتهد الفحل الشيخ باقر وحيد البهبهاني.
وتبقى هناك حقيقة أخرى وهي أن للإخباريين حججهم وبراهينهم، ووجهة نظرهم التي لم يتسنى ألإطلاع عليها بالتفصيل ، بيد أن من جملة ما يقولونه ، هو أن ألإلتزام بألأخبار المنقولة ، كان سنة السلف الصالح وكبار علماء الشيعة من قبل، وحتى أن ألأئمة ألأطهار(ع) كانوا أخباريين بدورهم أيضا.
والجدير بالذكر هنا، ان هذه المعالجة للحركة ألإخبارية لا تبطن إنحيازا أوإساءة لأحد أو لفئة ، بل الغاية منها هي شرح حقيقة عاشتها الحوزة العلمية في كربلاء قبل أكثر من قرنين ، إذ لا يمكن نكران حقيقة أنه كانت هناك جولة فكرية للإخباريين على الساحة التدريسية والعلمية في كربلاء والنجف، ومن ثم إنكماش لهم أمام مدرسة ألأصوليين بزعامة الوحيد البهبهاني، هذا تاريخ لم نأت به جديدا. والمهم في ألأمر أن الحرية الفكرية الموجودة في الحوزات العلمية تُاطر دائما بإطار التقوى والتدين ويرجع الشرخ الذي يحدث أحيانا بسبب نشوء أفكار جديدة على الساحة العلمية يرجع ليكون التلاطم هو البديل.
المصدر: شبکة کربلاء المقدسة