printlogo


printlogo


حوار
حوارٌ مع العلّامة السيّد منير الخبّاز حول اثبات وجود  الإله ومسألة الإلحاد وأسبابها وطرق معالجتها‏ - الجزء الثالث


س 6: ماذا تمثّل عقيدة إثبات وجود الله في الرؤية الكونيّة؟ وماذا يترتّب على معرفتها من الآثار على المستوى الأيديولوجيّ والسلوك الإنسانيّ؟
تأثير العقيدة بوجود الخالق لها تأثيرٌ على ثلاثة مستوياتٍ، على المستوى المعرفيّ والرؤية الكونيّة، وعلى المستوى الأيديولوجيّ في مجال إقامة الحضارة، وعلى مستوى السلوك الإنسانيّ والقيم البشريّة.
أمّا على المستوى الأوّل، فإنّ هذا يتجلّى لنا في أمرين:
الأمر الأوّل: من القواعد العقليّة الواضحة أنّ لكلّ وجودٍ مادّيٍّ عللًا أربعًا، فاعليّةً ومادّيّةً وصوريّةً وغائيّةً. وحيث إنّ الكون الّذي نعيش فيه وجودٌ مادّيٌّ فمن الطبيعيّ أن يتّجه العقل إلى معرفة العلل الأربع لهذا الكون، ولا تعدّ رؤية الكون رؤيةً متكاملةً ما لم تكن محيطةً بالعلل الأربع، ما منه الوجود وما به الوجود وما به فعليّة الوجود، وما هو غاية الوجود ومنتهى الوجود. فلأجل ذلك كانت المعرفة الإلهيّة للكون والرؤية الفلسفيّة للوجود معرفةً متكاملةً، بينما ما يصرّ عليه بعض علماء الفيزياء من أنّ العلم هو معرفة نظم الكون وأسراره الطبيعيّة وعلاقاته وقوانينه النافذة الحاكمة فيه، فإنّ هذا تقوقعٌ في حقلٍ معيّنٍ من المعرفة، وحصرٌ للمعرفة في النطاق المادّيّ لعلاقات الكون، لكنّها ليست معرفةً متكاملةً ما لم تكن محيطةً بالعلل الأربع؛ ولذلك فإنّ هناك فرقًا بين النظرة الموضوعيّة للكون والنظرة الآيويّة للكون، فمن يقرإ الكون لذاته على أساس أنّه وجودٌ مادّيٌّ بحتٌ، فهذه نظرةٌ موضوعيّةٌ لن يتجاوز بها حدود المادّة، ولن تكون معرفته بالكون معرفةً متكاملةً، وأمّا من قرأ الكون بما هو دليلٌ على علله الأربع، وأهمّها علّته الفاعليّة الّتي منها وجوده، وعلّته الغائية الّتي هي خاتمته ومنتهاه، فقد سبر الكون بما هو آيةٌ من آيات القدرة والعلم والحكمة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في حديثه عن النبيّ إبراهيم الخليل (ع): (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا  قَالَ هَذَا رَبِّي  فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ - فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي  فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ  فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا  وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وقال تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
فالمعرفة الإلهيّة تجيب عن أسئلةٍ فطريّةٍ يلتفت إليها الذهن البشريّ، وهذه الأسئلة الّتي أشار إليها المعصوم(ع) في ما ورد عنه: «رحم الله أمرءاً عرف من أين وفي أين وإلى أين» فالعلم الّذي لا يجيب عن هذه الأسئلة الفطريّة الملحّة يعدّ علمًا ناقصًا ومعرفةً مبتورةً، وأمّا المعرفة الّتي تجيب عن هذه الأسئلة الضروريّة فهي المعرفة المتكاملة، وهذا ما يعني تأثير العقيدة الإلهيّة على مستوى الرؤية الكونيّة.
الأمر الثاني: توأميّة العلم والعقيدة: لا نقول إنّ العلم لا يستطيع أن يصل إلى تحديد السبب الأوّل والعلّة الأولى نفيًا أو إثباتًا فقط، بل نقول هناك توأميّةٌ بين العلم وبين الإيمان، فلولا الإيمان لما استطاع العلم أن يخطو خطواته نحو البحث والمعرفة.
قال أينشتاين: إنّ أعظم الأشياء استعصاءً على الفهم في الكون أنّه مفهومٌ، وقال سونبرن أستاذ الفلسفة المناهض للإلحاد في أكسفورد: عندما أتحدث عن الإله فإنّني لا أطرح إلهًا لسدّ الثغرات الّتي لم يجب عنها العلم حتّى الآن، فأنا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير، لكنّني أطرح الوجود الإلهيّ لأفسّر لماذا صار العلم قادرًا على التفسير، وهذه المقالات تعني أنّ الإيمان يقف عونًا للعلم في اكتشاف الحقائق، وأنّه لولا الإيمان لم يتمكّن العلم من الوصول إلى تفسير الحقائق تفسيرًا متكاملًا. ومن أجل بيان هذه النقطة نذكر أنّ أيّ مسيرةٍ علميّةٍ اختراعيّةٍ تقوم على أربعة عناصر، العنصر الأوّل: الانتظام، ما لم يؤمن الإنسان بأنّ الأمور منتظمةٌ فإنّه لا يمكن أن يستمرّ أو أن يشرع في أيّ حقلٍ علميٍّ، فمثلًا ما لم يؤمن الإنسان أنّ مكان عمله ما زال باقيًا وأنّ الطريق إليه ما زال سالكًا، وأنّ سيّارته ما زالت تحمل الوقود الّذي يمكنه من الوصول إلى مقصده، فإنّه لن يتحرّك ما لم يؤمن بانتظام الأمور كما كانت؛ ولذلك يقول ديوز: إذا كانت الشمس تظهر من الشرق منذ أن وعينا، فليس لدينا دليلٌ جازمٌ على أنّها ستفعل ذلك غدًا، وهذا يعني أنّه ما لم يكن إيمانٌ بانتظام الطبيعة، فإنّه لا دافع ولا محرّك نحو المسيرة العلميّة.
العنصر الثاني: الثبات، يقول استيفن هوكنغ: كلّما ازدادت معرفتنا بالكون تأكّد يقيننا بأنّه محكومٌ بالقوانين. ويقول فيلمان عالم الفيزياء المشهور: إنّ وجود قوانين منضبطةٍ أمرٌ معجزٌ، إنّ هذا الانضباط لا تفسير له، لكنّه يمكّننا من التنبّؤ، فهو يخبرك بما تتوقّع حدوثه في التجربة قبل أن تجربها، وكذلك ذكر أينشتاين أنّ كلّ إنسانٍ يهتمّ بالعلم بصورةٍ جادّةٍ يدرك أنّ قوانين الطبيعة تعكس روح كلّيٍّ أسمى من الإنسان كثيرًا، ولو لم يؤمن العالم أو المكتشف أو المخترع أو الباحث أنّ هناك ثباتًا للقوانين، أي أنّ هناك قوّةً تحكم هذه القوانين وتضفي عليها الثبات، لما سار في أيّ مسيرةٍ علميّةٍ يعتمد الاكتشاف بها على قوانين ثابتةٍ.
العنصر الثالث: فاعليّة الرياضيّات. توصّل العلم الحديث إلى أنّ كيان العالم وبنية الكون قائمٌ على التحديد عبر المعادلات الرياضيّة؛ ولذلك يقول ديراك عالم الفيزياء البريطانيّ: إنّ الإله خالقٌ حسيبٌ، أي أنّه دقيقٌ في وضع القوانين والأنظمة على ضوء المعادلات الرياضيّة الدقيقة. وهذا يقود إلى أنّ قوانين الطبيعة جعل لها خالقها تفسيرًا وتحديدًا عبر ما يتوصّل إليه العقل البشريّ من الحدود والمعادلات الرياضيّة، فالّذي خلق الكون خلق عقلًا يفهم الكون، والّذي وضع القوانين الدقيقة لمسيرة الكون وضع عقلًا يتمكّن من اكتشافها عبر المعادلات الرياضيّة، وهذه هي التوأميّة بين الإيمان بالعقيدة الإلهيّة وبين المسيرة العلميّة.
العنصر الرابع: أنّه لا يمكن للإنسان أن يكتشف أو يخترع أو يفسر حقيقةً من حقائق الكون حتّى يؤمن في رتبةٍ سابقةٍ بأنّ عقله قادرٌ على فهم ذلك، وأنّ ما يقوله له عقله من تحديدٍ وتفسيرٍ فهو صادقٌ فيه، أي أنّ هناك انسجامًا وتوائمًا بين بنية الكون وبين القدرات العقليّة المعرفيّة.
إنّ الإيمان بهذه العناصر الأربعة بوصفها قوامًا لكيان الكون، وقوامًا لأيّ مسيرةٍ علميّةٍ اكتشافيّةٍ هو بنفسه إيمانٌ بأنّ العقيدة الإلهيّة هي العصب في مجال المعرفة العلميّة، وهذا ما يقود إلى عقيدة التوحيد، حيث لا يمكن للإنسان أن يؤمن بتوفّر هذه العناصر الأربعة بهذه الدقّة اللامتناهية ما لم يؤمن أنّ هناك إلهًا واحدًا وراء ضبط هذه العناصر، وضبط القوانين الّتي وراءها، وهذا ما ترشد إليه الآية القرآنيّة: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)؛ لذلك قال بعض العلماء: لقد تبنّى الإنسان العلم عندما توقّع أنّ الطبيعة تتّبع قوانين، وقد حدث ذلك عندما آمن بالإله الواحد واضع القوانين، هذا كلّه على المستوى المعرفيّ والرؤية الكونيّة.
المستوى الأيديولوجيّ: إنّ الفارق بين الحضارة الدينيّة والحضارة المادّيّة يكمن في نظريّة الخلافة، إذ إنّ الحضارة المادّيّة تركز على أصالة الإنسان، وأنّ الإنسان هو قوام هذا الكون وهو ركنه الركين، وهو ركيزته الأساسيّة؛ ولذلك فالإنسان هو المشرّع وهو المنفّذ وهو المستثمر وهو المستهلك، وهو الّذي يشكل مبدأ المسيرة ومنتهاها، بينما الحضارة الدينيّة ترتكز على نظريّة الخلافة، أي أنّ الإنسان خليفةٌ في هذا الكون ووكيلٌ ونائبٌ وليس أصيلًا. قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً  قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
والخلافة ترتكز على ثلاث دعائم، الأولى: أنّ النظام الاقتصاديّ الّذي هو عصب الحضارة والنظام التربويّ والإداريّ يستند إلى المستخلف لا إلى فكر الخليفة، فإنّ الإنسان مهما بلغ من قوّة العقل ووفور الفطنة، فإنّ عقله محدودٌ لا يستطيع أن يستوعب تمام المصالح والمفاسد الّتي لا يحدّها زمانٌ ولا مكانٌ ولا مجتمعٌ، بحيث يضع أنظمةً وافيةً بتمام المصالح والمفاسد جامعةً للشرائط فاقدةً للموانع، بينما من خلق الوجود هو الأعرف بالمصالح التامّة الجامعة للشرائط، قال تبارك وتعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فالمدار في الحضارة الدينيّة على نظام المستخلف لا على النظام البشريّ المخترع من قبل الخليفة.
والدعامة الثانية أنّ الحضارة الدينيّة تقوم على العلاقات الأخويّة، فليست العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد وأفراد الحضارة الواحدة علاقةً مادّيّةً، ليست علاقة مستثمرٍ ومستهلكٍ، أو علاقة منتجٍ ومستوردٍ، بل هي علاقةٌ أخويّةٌ قائمةٌ على التعاون والإيثار والتضحية والبذل، وإن لم يكن نصيبٌ مادّيٌّ في المقابل. قال تبارك وتعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، وقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
والعنصر الثالث أن الكون يمرّ بعوالم، عالم التقرير وعالم الوجود المادّيّ وعالم الآخرة، فلا بدّ أن ترتكز الحضارة على الربط بين هذه العوالم لا على التقوقع والانحصار في عالم المادّة العالم القصير الّذي يطويه الإنسان ثمّ يرتحل إلى العوالم الأخرى، فمن دعائم الحضارة أن تكون تعاليمها وقوانينها وعمرانها ومواردها الاقتصاديّة مبنيّةً على الربط بين هذه العوالم المختلفة. قال تبارك وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).
المستوى السلوكيّ: يعتمد الدين على أركانٍ ثلاثةٍ: عقيدةٍ وشريعةٍ وقيمٍ، وحديثنا هنا عن المنظومة القيميّة الّتي تنبع من العقيدة الإلهيّة. فإنّ القيم الّتي يؤكّد عليها الدين منحدرةٌ عن صميم الفطرة الإنسانيّة، ممّا يؤكّد انسجام الدين مع البنية الفطريّة والشخصيّة الطبيعيّة للإنسان، ولو عزل الإنسان عن هذه القيم الدينيّة لأصبح متوحّشًا خطيرًا، لا يفكّر إلّا في إشباع نهمه المادّيّ، ولا يكون عنصرًا فاعلًا في نشر المحبّة والأمن والسلم الاجتماعيّ، فلدينا عدّة علماء أكّدوا على أنّ المفاهيم الأخلاقيّة الّتي نادى بها الدين هي أمورٌ فطريّةٌ كامنةٌ في شخصيّة الإنسان، فهذا جيمس واتسون ذكر في كتابه (DNA) أنّ المفاهيم الأخلاقيّة مطبوعةُ في جينات الإنسان منذ نشأته، وكذا روبرت ونستون رئيس الاتّحاد البريطانيّ لتقدّم العلوم، إذ قال في كتابه (الفطرة البشريّة):
إنّ الحسّ الدينيّ جزءٌ من بنيتنا النفسيّة، وهو مسجّلٌ في جيناتنا، ويتراوح قوّةً وضعفًا من إنسانٍ إلى آخر.
وبول بلوم أستاذ علم النفس بجامعة بيل بالولايات المتّحدة يقول: إنّنا كائناتٌ ثنائيّةٌ من جسدٍ وروحٍ، طُبع في جيناتنا الإيمان بحياةٍ أخرى تحيا فيها الروح بعد مغادرة الجسد الثاني.
لا شكّ أنّ هذا الإيمان هو أصل الفطرة الدينيّة. وكذلك دين هامر رئيس وحدة أبحاث الجينات بالمعهد القوميّ للسرطان بالولايات المتّحدة يرى في كتابه جين الألوهيّة أنّ الإنسان يرث مجموعةً من الجينات الّتي تجعله مستعدًّا لتقبّل مفاهيم الألوهيّة. ومن أجل تأكيد هذه النقطة وهي التواؤم بين القيم الدينيّة والشخصيّة الفطريّة للإنسان. يقول كولنجز أستاذ علم النفس والطبّ وعلوم الوراثة بجامعة واشنطن في نظريّة المزاجات والأخلاق الوراثيّة: إنّ هناك أخلاقًا فطريّةً هي قوام شخصيّة الإنسان.
الأوّل منها مصداقيّة الذات، ويعني وضوح الأهداف وثقة الإنسان بنفسه أنّه قادرٌ على تحقيق هذه الأهداف، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، ويقول تبارك وتعالى: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، كذلك قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى).
والثاني: التعاون، ويعني استعداد الإنسان لمساعدة الآخرين وتحملهم، والعزوف عن الانتقام قال تبارك وتعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال تبارك وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى  وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
والثالث: تجاوز الذات أو السمو النفسيّ، الّذي يعني إنكار الذات والمسير نحو الإبداع والعطاء والبعد عن براثن المادّة، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم في قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
إنّ هذا التوافق بين بنية الدين وبين الفطرة البشريّة يمتدّ إلى بايولوجيا الجسم الإنسانيّ، وينعكس بشكلٍ إيجابيٍّ على صحّته الجسديّة والعقليّة والنفسيّة، يقول احد علماء الفيزياء بمركز الطبّ الخلويّ بنيوكاسل بإنجلترا: إنّ الآثار الإيجابيّة للإيمان الدينيّ على الصحّة الجسديّة والعقليّة والنفسيّة من أهمّ أسرار علم النفس والطبّ بصفةٍ عامّةٍ.
كلّ ذلك يؤكّد لنا أنّ هناك أبعادًا ثلاثةً تكمن في شخصيّة الإنسان، وهي الأنانيّة الناشئة عن حبّ النفس، والإيثار هو البعد الناشئ عن الروح الاجتماعيّة الّتي يملكها كلّ إنسانٍ، والضمير وهو عبارةٌ عن القوّة الرقابيّة الّتي أودعها الله في الإنسان لتحكم مسيرته، قال تبارك وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). إنّ التوازن بين هذه الأبعاد الثلاثة في شخصيّة الإنسان ممّا تتكفّله القيم الدينيّة الّتي توفّر للإنسان شخصيّةً معطاءةً وعادلةً متوازنةً، وشخصيّةً حضاريّةً تجمع بين العطاء المادّيّ والعلاقات الأخويّة والربط بين العوالم الوجوديّة المختلفة.
س 7: يتعرّض المجتمع الإسلاميّ بين فترةٍ وأخرى إلى موجاتٍ وتيّاراتٍ فكريّةٍ تتعارض مع عقيدته ودينه كالشيوعيّة والعلمانيّة بصورها المختلفة، وازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن وجود ظاهرةٍ سلبيّةٍ خطيرةٍ في الجانب العقديّ والفكريّ انتشرت في أوساط بعض المثقّفين ممّن تستهويهم الموضات، وهي ظاهرة الإلحاد واللادينيّة، ما هي معلوماتكم حول حجم هذه الظاهرة؟ وما هي الآليّات الكفيلة بمعالجتها؟
إنّ ظاهرة الإلحاد الّتي بدأت تنتشر بسرعةٍ واضحةٍ في المجتمعات الإسلاميّة تستند إلى عدّة عوامل بعضها فكريّةٌ وبعضها إعلاميّةٌ وبعضها نفسيّةٌ وبعضها اجتماعيّةٌ.
الأولى: العوامل الفكريّة: إنّ أغلب من يتأثّر بالأفكار الإلحاديّة لا يمتلك ثقافةً واضحةً بالأسس والركائز الفلسفيّة، كمبدإ العلّيّة والسنخيّة والحتميّة، وعدم التفريق بين العلل المعدّة والعلّة بالأصالة، وعدم الإحاطة باستحالة التسلسل، وإنّ الاتّفاقيّ لا يكون أكثريًّا ولا دائميًّا، والخلط بين ما بالعرض وما بالذات، وعدم قراءة البحوث الّتي كتبها أعلام الفكر في المذهب الإماميّ حول فلسفة الشرّ والخير في العالم، أو الانفتاح على قراءة الفلسفة الغربيّة دون المقارنة بالفلسفة الإسلاميّة، والانبهار بالأسماء اللامعة في الثقافة العلمانيّة، وعدم القدرة على التمييز ووضع النقاط على الحروف.
الثانية: إنّ الإعلام المروّج للإلحاد واللادينيّة واللاأدريّة إعلامٌ مدعومٌ بالمال والوسائل المختلفة، فهناك قنواتٌ ومواقع وبحوثٌ وأساتذة جامعاتٍ وأقلامٌ تستميت في الدفاع عن الفكر الإلحاديّ، بل حتّى على مستوى بعض الجامعات في أمريكا وأوربّا يفضّل الأستاذ الملحد على الأستاذ المؤمن إذا تقدّم كلاهما إلى الجامعة وكانا متساويين في الكفاءة. وفي المقابل نرى ضعف الإعلام الدينيّ، حيث لا نجد اهتمامًا في مجال الإعلام الدينيّ بنقد الفلسفة المادّيّة أو مواجهة الثقافة الإلحاديّة بالمنطق العلميّ الرصين، وقلّة المتصدّين في هذا الحقل وعدم قدرة كثيرٍ ممّن يتصدّى إلى دحض الشبهات والاجابة المقنعة عن الاستفهامات المتعلّقة بالعقيدة الدينيّة.
الثالثة: الأسباب الاجتماعيّة ومنها تعثّر مسيرة بعض الأحزاب الدينيّة، وسوء سمعتها في مجال الحكم والإدارة، وانشغال المجتمعات الدينيّة بالخلافات الداخليّة الّتي تصل إلى مستوى العداوة والكيد من البعض تجاه بعضهم الآخر، والتركيز على القضايا الثانويّة دون الأولويّة في مجال الإعلام، والاهتمام بالظواهر على حساب المعتقدات، وعدم تبنّي الحوزة العلميّة تطوير علم الكلام بما ينسجم مع دحض الشبهات المستشرية في مادّة الإلحاد واللاأدريّة، وبيان قوّة الدين وأهّمّيّته في حياة الإنسان.
والقسم الرابع: وهو الأسباب النفسيّة ومنها الرغبة في التحرّر من القيود والقيم الأخلاقية، ومنها كما هو ملاحظٌ في الغرب عدم القدرة على تطبيق الأحكام الدينيّة بشكلٍ متكاملٍ في ضوء الحضارة المادّيّة الّتي تركز على لذّة الإنسان ومتعته وإشباع شهواته وغرائزه بمختلف الوسائل الإعلاميّة المتاحة، ومنها المرور بأزماتٍ وآلامٍ نفسيّةٍ لا يجد الإنسان لها حلولًا في الثقافة الدينيّة بحسب ما يتلقّاه من وسائل الإعلام ووسائل التواصل المختلفة، والنفور من بعض تصرّفات المحسوبين على الدين والتديّن في الأموال أو في العلاقات الاجتماعيّة المختلفة، فهذه العوامل بمجموعها مهّدت وعبّدت الطريق أمام انتشار ظاهرة الإلحاد بأوضح صورها.