printlogo


printlogo


مقالة
الأسس والمصادر الاجتهادية المشتركة -  الجزء الأول
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة ، بل تعبر عن رأي ‏أصحابها

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:‏ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمّد نبي الرحمة الذي لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه المهديين ‏الّذين آمنوا به وآزروه ونصروه والتزموا منهجه ودعوته، وبعد:‏
نحن ـ المسلمين ـ اليوم في عصر المواجهة الحضارية والثقافية والسياسية مع الغرب والصهيونية ‏العالمية بأشد الحاجة إلى وحدة الفكر والبناء، والعمل المشترك، من أجل قوة الأمة الإسلاميّة، ‏والحفاظ على وجودها وعزتها من أي وقت مضى فكان لزاماً مؤكداً ضرورة تسوية الخلافات ‏التاريخية والمشكلات المعاصرة، والتعريف بالجسور المتينة التي تقوم عليها وحدة الأمة، وبخاصة في ‏المجالات الفقهية والأصولية، ولعلها أيسر الطرق لتوحيد طاقات المسلمين، لأن الخلاف بين المذاهب ‏السنية والشيعية سهل يسير، ونقاطه قليلة محصورة، بسبب وحدة المصادر الاستنباطية، والاعتماد ‏أصالة على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ووجوب رد كلّ نزاع أو خلاف إليهما، كما في قول ‏الله تعالى. فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إنّ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً.‏
وغني عن البيان أن مبدأ الوحدة الإسلاميّة مقرر مفروض على امتنا في دستورهم المجيد، في مثل ‏الآيتين الكريمتين، الأولى وهي قوله سبحانه: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأتقون.
وأول من يخاطب بضرورة العمل على توحيد أفكار الأمة المسلمة وطرح كلّ العراقيل والمعوقات ‏أمامها هم العلماء الإثبات الّذين نضجت أفكارهم واختمرت معارفهم وعلومهم وترفعوا عن رعشات ‏التعصب المذهبي، وأدركوا خطر الاستعمار الحريص على تجسيد التفرقة بين السنة والشيعة. وليس ‏المقصود من الوحدة الإسلاميّة بداهة أن يتحول السني إلى شيعي أو بالعكس، لأن نقض الموروث ‏ليس بالأمر الهين، بل لا جدوى من محاولات التغيير.‏
لذا بادرت إلى بحث موضوع «الأسس والمصادر الاجتهادية المشتركة» لا سهم بواجبي في هذا ‏السبيل العلمي الخصب، لأن جميع المذاهب السنية والشيعية متفقة على ضرورة الاجتهاد وفرضيته في ‏كلّ عصر، عملاً بأصول الأدلة الشرعية، وبعداً عما سمي بإغلاق باب الاجتهاد عند أكثر المتأخرين من ‏علماء السنة بعد نهاية القرن الرابع الهجري تأثراً بظروف سياسية مؤقتة، وتعرضها لتيارات فكرية ‏هدامة، ومحاولة إضعافها من زاوية الاجتهاد، علماء بأن من وراء تلك التيارات لم يكونوا مؤهلين ‏للاجتهاد، وكان لهم غايات خبيثة ومحاولات مسمومة مشبوهة ويتميز الشيعة بأنهم لا يجيزون تقليد ‏المجتهد الميت، بل لابد من كونه حياً حتّى يصح تقليده أو بأذن بتقليد حكم معين.‏
ومنهجي في البحث: هو إيراد مختلف المصادر الاجتهاد، وكان لهم غايات خبيثة ومحاولات مسمومة ‏مشبوهة. ويتميز الشيعة بأنهم لا يجيزون تقليد المجتهد الميت، بل لابد من كونه حياً حتّى يصح تقليده ‏أو يأذن بتقليد حكم معين.‏
ومنهجي في البحث: هو إيراد مختلف المصادر الاجتهادية، وتحديد أسسها، وتعريفها، وإيراد أهم دليل ‏لأصحابها إثباتاً أو نفياً، ثم التقريب بين العلماء ببيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين المذاهب في كلّ واحد منها.‏
ولابد أولا أن احدد مصدر التشريع الأصلي المتفق عليه، ثم تبيان المصادر المعتبرة في الاستنباط في ‏ساحة المذاهب الإسلاميّة.‏
وحدة المصدر التشريعي:‏
اتفق المسلمون في بحث الحاكم على أن مصدر جميع الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية هو الله ‏سبحانه وتعالى بعد البعثة النبوية وبلوغ الدعوة الإسلاميّة للناس، سواء أكان ذلك بطريق النص ‏من قرآن أو سنة بواسطة الفقهاء والمجتهدين؛ لأن المجتهد مظهر للحكم، وكاشف له، ومبين مراد الله ‏بإصدار الحكم في غالب الظن، أم قطعا ويقينا، وليس المجتهد منشئاً أو واضعاً للحكم من عند نفسه، ‏وبمحض عقله وفكره، لهذا قالوا: الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين ‏بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع والاقتضاء معناه الطلب، ويشمل طلب الفعل بالإيجاب أو الندب، ‏وطلب الترك بالتحريم أو الكراهة. والتخيير الإباحة وهو استواء الفعل والترك والوضع: خطاب الله ‏تعالى المتعلق بجعل الشيء سبباً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة.‏
وقال الأصوليون والفقهاء أيضاً: لا حكم إلاّ لله أخذاً من قوله تعالى: (إنّ الحكم إلاّ لله...)
وأنكر الأستاذ محمّد تقي الحكيم التعريف ـ الذي جاء في القوانين المحكمة ـ للعقل كأحد المصادر بأنه «حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى ‏العلم بالحكم الشرعي» قائلاً: والذي يؤخذ على هذا التعريف من وجهة شكلية تعبيره بالحكم ‏العقلي، مع أنّه ليس للعقل أكثر من وظيفة الإدراك، وهو مقصود حتماً، وأظن أن التعبير بالحكم ‏وانتشاره هو الذي أوجب أن يلتبس على بعض الباحثين في أن القائلين باعتبار العقل من الأصول ‏يرونه هو الحاكم في مقابل الله عزّوجل. وقرر بصراحة أن العقل مدرك وليس بحاكم.
‏ ‏مصادر الاستنباط في المذاهب الفقهية:‏
مصادر الأحكام الشرعية: هي الأدلة الشرعية التي يستنبط منها الأحكام الشرعية.‏
ومصادر الاستنباط عند أهل السنة قسمان: مصادر أساسية مستقلة ومصادر فرعية اجتهادية غير ‏مستقلة. أما المصادر الأساسية المستقلة: فهي القرآن الكريم والسنة النبوية للأوامر الإلهية الآمرة ‏بإطاعة الله والرسول، مثل قوله تعالى: يا أيها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقوله(ص) في حجة الوداع: «تركت فيكم أمرين ما إنّ اعتصمتم بهما، فلن تضلوا أبداً: ‏كتاب الله وسنة نبيه». وفي رواية صحيحة أخرى: «كتاب الله وعترتي».‏
والمصادر الفرعية: هي الإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح (أو المصالح المرسلة) والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي والذرائع والاستصحاب.‏
ومصادر التشريع عند الزيدية: هي قضايا العقل المبتوتة، والإجماع الثابت بيقين، ونصوص الكتاب ‏والسنة المعلومة، ومفهومات الكتاب والسنة المعلومة، ومفهومات أخبار الآحاد، وأفعال النبي ‏وتقريراته، والقياس والاجتهاد (ومنه الاستحسان وسد الذريعة والمصالح المرسلة) والاستصحاب وهو ‏ما يعرف بالبراءة الأصلية.‏
ومصادر الاستنباط عند الإمامية أو الجعفرية أربعة: وهي الكتاب العزيز، والسنة، والعقل والإجماع ‏‏وما عداها فهو راجع إليها في أغلبية صوره.‏
وبما أن موضوع البحث مقصور على المصادر الاجتهادية المشتركة، فإني أخص بحثي بغير الكتاب ‏والسنة المتفق على كونهما مصدري التشريع الأصليين، ومن العجب وجود الشبه الواضح في ميدان ‏الفقه التفريعي بين الفقه السني والفقه الجعفري والزيدي في كثير من المسائل كما أن مصدر «العقل» ‏عند الشيعة الإمامية وهو التفكر في المصدرين الأصليين المتفق عليهما يمكن أن يدخل تحته كثير من ‏أنواع المصادر الاجتهادية عند أهل السنة، وهذان دليلان واضحان على أنّه في مجال التطبيق ‏والاستنباط يكاد ألا يكون هناك خلاف جوهري في المصادر، وإنّما الخلاف في التسمية ‏والاصطلاح، أو في الكثرة والقلة، أو في الشهرة في استعمال مصدر لدى أئمة مذهب، وانعدام تلك ‏الشهرة في اتجاه إمام آخر، أو أن محل الخلاف أو النزاع غير متفق عليه، كما هو الشأن في ‏الاستحسان على الاستحسان بالهوى والشهوة و محض الرأي من غير دليل شرعي، وهذا ما لا يقول ‏به قطعاً كلا الإمامين: أبي حنيفة ومالك، كما سيأتي بيانه.‏
ولقد أصاب الشيخ محمّد تقي الحكيم حينما قسم الاجتهاد إلى قسمين: الاجتهاد العقلي، والاجتهاد ‏الشرعي. وهذه القسمة واضحة بالإشارة إلى أن مختلف أئمة الاجتهاد بالرأي المتفق مع مقاصد ‏الشريعة يعتمدون في الاستنباط على كلا القسمين على حد سواء.‏
أما الاجتهاد العقلي: فهو ما كانت الحجية الثابتة لمصادره عقلية محضة غير قابلة للجعل الشرعي، ‏وينتظم في هذا القسم كلّ ما أفاد العلم الوجداني بمدلوله، كالمستقلات العقلية وقواعد لزوم دفع الضرر ‏المحتمل، وشغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً، وقبح العقاب بلا بيان وغيرها.‏
وأما الاجتهاد الشرعي: فهو كلّ ما احتاج لدليل شرعي إلى جعل حجيته من الحجج الشرعية، ويدخل ‏ضمن هذا القسم: الإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والاستصحاب وغيرها من ‏مباحث الحجج والأصول العملية التي تكشف عن الحكم الشرعي.‏
وهذه آراء العلماء في مصادر التشريع الاجتهادية.‏
‏1 ـ الإجماع:‏
الإجماع مصدر من مصادر التشريع، اتفقت المذاهب الإسلاميّة الستة من السنة والشيعة على حجيته، ‏وتعريفه بتعاريف متقاربة.‏
فتعريفه المعتمد عند جمهور أهل السنة هو: «اتفاق المجتهدين من أمة محمّد(ص) بعدوفاته، في عصر من العصور، على حكم شرعي» وهذا التعريف يتطلب اتفاق جميع مجتهدي ‏الأمة من سنة وشيعة في عصر من العصور على حكم شرعي. واستدلوا على حجيته بأدلة من القرآن ‏والسنة، وأقوى الأدلة: ما ثبت في السنة المتواترة تواتراً معنوياً وهو ورود أحاديث ثابتة بألفاظ ‏مختلفة تثبت عصمة الأمة من الخطأ، منها: « لا تجتمع أمتي على الخطأ» ومنها: «لا تجتمع ‏أمتي على ضلالة» ولابد للإجماع من مستند عند الجمهور، والمستند: هو الدليل الذي يعتمد ‏عليه المجتهدون فيما أجمعوا عليه. ويصلح المستند أن يكون نصاً أو قياساً؛ لأن الإفتاء بدون مستند ‏خطأ، لأنه يعتبر قولاً في الدين بغير علم، وهو منهي عنه بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به ‏علم...).
وفائدة الإجماع مع وجود المستند: إنّ كان المستند قطعياً فهو التأكيد، وإن كان ظنياً فهو رفع مرتبة ‏الحكم من الظن إلى القطع واليقين.‏
وقد وقعت إجماعات كثيرة من الصحابة وغيرهم إذا كان المستند نصاً شرعياً، مثل الإجماع على ‏إعطاء الجدة السدس في الميراث، وعلى منع بيع الطعام قبل قبضه، وعلى بطلان زواج المسلمة ‏بالكافر، وعلى حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج، وعلى وجوب العدة بموت الزوج ‏ونحو ذلك، وكذلك إذا كان المستند قياساً مثل تحريم شحم الخنزير قياساً على لحمه.‏
أما الإجماع الاجتهادي المحض: فلا نكاد نجد له مثالاً سوى شركة المضاربة، فقد أجمع العلماء على ‏جوازها، وليس هناك نص صريح عليها، كلّ ما في الأمر أن الناس تعاملوا بها في عهد النبي(ص)، فأقرهم عليها، ولم ينكرها عليهم، وربما كان هذا سنة تقريرية عند المتمسكين ‏بالنص. وهي مشروعة عند الإمامية بنص من الإمام الصادق(ع).‏
وعرف الشيعة الإمامية الإجماع بأنه: «اتفاق جماعة يكون لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعي» ‏أي فلا يشترط اتفاق جميع العلماء، وهم يقولون: إنّ الإجماع حجة، لا لكونه إجماعاً، بل لاشتماله ‏على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة، لأنه رأس الأمة ورئيسها، لا لكونه إجماعاً، ‏وغير المعصومين لا يخالفونه عادة أو لا يقرهم على المخالفة، فالحجية عندهم منوطة بإجماع الأمة. ‏وإذا كانوا يرون أن الإمام المعصوم غير موجود الآن، فلا يحدث إجماع أصلا بدونه. والأئمة ‏المعصومون أثنا عشر إماماً، وأنهم لا يخطئون في اجتهادهم. ولا يصلح القياس عندهم مستندا ‏للإجماع.‏
ويرى الشيعة الإمامية والزيدية: أن إجماع العترة حجة، وأرادوا بالعترة أصحاب الكساء وهم السادة ‏علي وزوجه فاطمة، وابناهما الحسن والحسين(ع)، وهم معصومون منزهون عن ‏الخطأ في الاجتهاد، ولا تعترف الزيدية بالعصمة لغير هؤلاء من أئمة آل بيت رسول الله(ص)، خلافاً للشيعة الإمامية الّذين يقولون ـ كما تقدم ـ ‏بعصمة الأئمة الأثني عشر جميعهم.‏
ويلاحظ أن أهل السنة: يعتبرون الإجماع حجة قائمة بذاتها، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد الكتاب ‏والسنة مباشرة في ترتيب الأدلة الشرعية.‏
ويرى الشيعة الإمامية أن حجية الإجماع بسبب حكايته عن الكتاب والسنة، بحيث يكشف عنهما أو ‏عن أحدهما، وإلا فلا حجة له.‏
أما الزيدية: فيرون أن الإجماع المتواتر له قوة الأحاديث المتواترة، وهو الإجماع الثابت بيقين، ومقدم ‏على نصوص الكتاب والسنة وظواهرها ومفهوماتها المعلومة.‏
ويقول الشيعة الإمامية: إنّ الإجماع لم يقع، وهو غير ممكن، والمراد بحديث «لا تجتمع أمتي على ‏الخطأ أو على الضلالة» نفي الخطأ والضلال عن الأمر تقرره الأمة باتفاقها واجتماع آرائها في أمر ‏دنيوي وغيره، فضلاً عن أنّه ليس بمتواتر تواتراً معنويا، ولا تقصر الأمة على المجتهدين وأهل الحل ‏والعقد فيها، وإنّما تشمل جميع الأفراد.‏
وبه يتبين أن جميع المذاهب الستة متفقة على اعتبار الإجماع حجة، ولكن حجيته تتفاوت قوة وضعفا ‏لدى هذه المذاهب نتيجة اجتهادهم في الفهم والاستنباط.‏
‏2 ـ العقل:‏
العقل المحض لا يعتبر مصدراً من مصادر التشريع أو الاستنباط عند فقهاء الشريعة الإسلاميّة بالاتفاق؛ ‏لأنه لا يحقق العدالة المجردة، ولا المصلحة العامة الثابتة، ولا الاستقرار المنشود، بسب تفاوت العقول البشرية في إدراك الأمور، واختلافها في مقاييس الخير ‏والشر، وقصور إدراكها لحقائق الأشياء، واكتشاف آفاق المستقبل، وتأثرها بالمصالح الذاتية واندفاعها ‏وراء الأهواء والشهوات، وحماية الثروات الخاصة والفئات المعينة.‏
حتّى إنّ المعتزلة الّذين يقولون: يصلح العقل لإدراك حسن الأشياء كالصدق والمروءة فتكون مأموراً ‏بها، وادراك قبحها كالكذب والقتل، فتكون منهيا عنها، يقولون: إنّ هذا قبل البعثة النبوية، وإن العقل لا ‏ينشئ هذه الأحكام ولا يضعها، وإنّما المنشئ لها هو الله رب العالمين، وحكم العقل مقصور على ‏معرفة حكم الله تعالى في هذه الأشياء بواسطة إدراك صفات الحسن والقبح الذاتية فإذا أدرك ما فيها ‏من حسن، أدرك حكم الله فيها، فيتعين عليه تركها ولا يتعدى عمل العقل معرفة الحكم وإدراكه، أما ‏واضع الحكم ذاته ومشئه فهو الله رب العالمين.‏
ويقتصر دور المجتهدين باتفاق المذاهب الإسلاميّة على مجرد كشف الأحكام وإظهارها، بتفهم ‏النصوص وتطبيقها والقياس عليها عند القائلين به، والاجتهاد في استخراج الأحكام منها، وليس فيه ‏وضع للأحكام من عند أنفسهم، أو إنشاء لها بواسطة عقولهم وأفكارهم؛ لأنهم يستندون إلى الكتاب ‏والسنة في كشف هذه الأحكام وبيانها، ولا يعتمدون على غيرها بتاتاً، سواء أكان الاجتهاد جماعياً أم ‏فردياً.‏
فسلطة التشريع في الإسلام هي لله رب العالمين، وللرسول(ص)، باعتبار أنّه رسول ‏ومبلغ وحي الله إلى سائر الناس.‏
والغزالي في مبحث دليل العقل والاستصحاب وهو الأصل الرابع لديه يعتبره دليلا على إدراك بعض ‏الأحكام قبل البعثة، لا دليلاً على الحكم الشرعي ذاته، فيقول:‏
‏«دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة ‏الرسل(ع)، وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ‏ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع». أي أن العقل يرشد إلى البراءة ويدل عليها، لا ‏أنّه يقررها ويحكم بها.‏
والشيعة الإمامية والمعتزلة كالغزالي يعتبرون العقل مدركا وليس بحاكم، فهم كغيرهم من المسلمين ـ ‏كما تقدم ـ يرون أن لا حكم إلاّ من الله تعالى، وهذا مقرر بإجماع الأمة، إلاّ أنهم يذكرون أن العقل ‏إذا أدرك قبل البعثة حسن شيء أو قبحه، فينبغي على المرء أن يفعل الحسن ويترك القبيح، كوجوب ‏قضاء الدين ورد الوديعة، والعدل والإنصاف، وحسن الدق النافع، وقبح الظلم وحرمته، وقبح الكذب مع ‏عدم الضرورة، وحسن الإحسان واستحبابه، فالعق ليستقل بإدراك الحسن والقبح. والمراد ‏بالحسن هنا: هو ما يترتب على فعله المدح في الدنيا، والثواب في الآخرة، والمراد بالقبيح: ما يترتب ‏على فعله الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة. ولا يتوقف إدراك ذلك على الشرع، والشرع فقط مؤكد ‏لحكم العقل فيما يعلمه من حكم الله تعالى وإذا أدرك الإنسان الحسن والقبح بهذا المعنى ‏فيكلف به فعلاً أو تركا، ويترتب على ذلك الثواب أو العقاب في مخالفة ما أدركه العقل. فالحاكم ‏حقيقة هو الشرع إجمالا، ولكن العقل في رأيهم كاف في معرفة حكم الشرع.‏
والأشاعرة يخالفونهم في هذا الكلام بشقيه ك الإدراك والتكليف، لا،ه لو لم يكن الحسن والقبح في ‏الأفعال بحكم الشارع نفسه، وكان بحكم العقل، لا ستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسل العقاب، وهذا مخالف لصريح الكتاب في قوله تعالى: (وما كنا معذبين ‏حتّى نبعث رسولا) وقوله سبحانه: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا: ربنا ‏لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا ‏أوتي مثل ما أوتي موسى.‏
وأجاب الشيعة عن هذا الدليل بأن العقل ـ وأن كانت له وظيفة الإدراك ـ إلاّ أن إدراكه محدد بحدود ‏خاصة لا تتجاوز الكليات، فالإدراك منحصر في الكليات ولا يتناول الأمور الجزئية، كما لا يتناول ‏مجالات التطبيق إلاّ نادراً، والكليات لا تستوعب شريعة ولا تفي بحاجات البشر. بل إنّ ثبوت الشرائع ‏من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين، ولو كان ثبوتها من طريق شعري لا ستحال ‏ثبوتها. وقال الشوكاني: «وبالجملة، فالكلام في هذا البحث طويل، وإنكار مجرد إدراك العقل ‏لكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة. وأما إدراكه لكون ذلك الفعل متعلقا للعقاب فغير مسلم، ‏وغاية ما تدركه العقل: أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله، وهذا الفعل القبيح يذم فاعله، ولا تلازم بين ‏هذا وبين كونه متعلقا للثواب والعقاب».‏
والخلاصة: يرى الشيعة ـ كما قرر الشيخ محمّد تقي الحكيم وغيره ممن سبقه كالشيخ المظفر في ‏أصول الفقه ـ أن العقل مصدر الحجج واليه تنتهي، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين وفي بعض ‏الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس إلاّ أن يصدر حكمه فيها كأوامر الطاعة... وما ورد من الأوامر ‏الشرعية بالإطاعة فإنما هو إرشاد وتأكيد لحكم العقل لا أنها أوامر تأسيسية. والإدراك العقلي لا ‏يؤدي إلى إنكار الشرائع، بل الاحتياج قائم على أتم صوره، لتدارك ما يعجز العل عن الولوج إليه، وهو أكثر الأحكام، بل كلها مع استثناء ‏القليل.‏
وفي تقديري أن الاعتماد على العقل ضروري في فهم أحكام التشريع، ولولا الإدراك العقلي لما امكن ‏الاستنباط، والخلاف بين السنة والشيعة محصور في فترة ما قبل البعثة، وأما بعدها فهم متفقون مع ‏غيرهم على أن مصدر جميع التكاليف الشرعية إنّما هو الشرع، وما لم ينص عليه الشرع فهو على ‏الإباحة في رأي الشيعة وغيرهم، ولا تلازم بين الإدراك العقلي وبين الثواب والعقاب، فهذان ‏يحتاجان إلى تكليف من الشارع، ليتحقق في الفعل أو الترك معنى الطاعة أو العصيان.‏
المصدر: الموقع الإلکتروني لمجمع التقریب بین المذاهب الإسلامیة