مقالة
غیاب الأخلاق في مجزرة غزة تأملٌ في دور الأخلاق لتنفیذ قواعد القانون الدولي الإنساني
إن الإنسان (طیلة التأریخ) إستفحل أطماعه وغلی حرصه علی إمتداد وتوسیع دائرة مملکاته، فانجر هذا الإستفحال والغلیان إلی شب نیران الحروب والإشتباکات الدامیة الطویلة، التي هدّمت أساس الحضارات والثقافات المتنوعة وإنجرت إلی هدم وخراب الأسر والعوائل وانتهت إلی بثّ الفقر والفساد مدی الأعصار، والحال أن الحیاة تحت ظل الأمن والعافیة قد کانت منذ بدایة الخلقة وماتزال تکون إلی نهایة العالم، منتهی أمل الإنسان وغایته القصوی ولکن ما أفظع المحن والآلام التي أحسها الإنسان بجسده وروحه من حروب أوقد نیرانها أطماع الجفاة وشبّ لظاها حرص الطغاة علی الإنسانية وما أعظم عدد الضحایا الأبریاء الذين قد نُهب أموالهم وهتک حریمهم وأریق دمائهم لکي تنال الطغاة والجفاة إلی مطامعهم الحیوانیة وتخمدوا نیران غضبهم وتطفئوا هیاج شهوتهم بإخماد أنوار الإنسانیة.
ورغم محاولات الأنبیاء والمصلحین، قد استمرّت هذه النزاعات والحروب الدامیة طیلة التأریخ ولم یقصّر من نطاق الحروب المدمرّة؛ بل زاد عددها ویمکن أن یقال إن الإنسان قد شاهد حروبا کثیرة مدی التأریخ ولم یمض علیه أیام بلا حروب وإراقة الدماء أکثر من 250 عاما مع أنه في هذه السنین القلیلة أیضا کان ظلّ التهدید المشؤوم وعدم الأمن، قد أتعب وجرّح روحه. ولا ندری، لعلّ إعجاب الملائکة عن خلقة الإنسان واستفهامهم عن الله تبارک وتعالی عن سرّ خلقة الإنسان کان منبعثا عن علمهم بوجود تلک المیزة في الإنسان التي تکون أساسا لإیقاد نیران الحروب المدمّرة التي قد ملأ ذکرها صفحات ضخمة من التأریخ، فسألوا الله تعالی: «أتجعل فيها من یفسد فيها ویسفک الدماء». ولکن أجابهم الله تبارک وتعالی فقال: «انی اعلم ما لا تعلمون». وبحقّ نسأل، ما ذا رأی خالق الکون في وجود الإنسان فأجاب الملائکة بذلک الجواب وردّ إعتراضهم علی خلقة الإنسان؟
لاشکّ أن هذا الجواب هو السرّ المکنون في خلقة الإنسان. فقد کان مسطورا في العلم الإلهي الأزلي أنه علی مدی التأریخ وفي قطعات منها سیظهر أناسٌ قد أخمدوا نیران هوی السلطة والتفوّق وغضّوا أعینهم عن بروق مطامع الدنیا وعصموا أنفسهم عن الإنخداع بمفاتنها وحاولوا في طریق سعادة البشریة وجاهدوا لنیل الإنسان إلی قمّة الکمال والعزّة وبذلوا أنفسهم في هذا الطریق حتی یذیقوا أبناء البشریة طعم المحبة والمودّة والرحمة ویعیشوا بعضهم مع بعض في الکرامة والعزّة ویساعدوا بعضهم بعضا في طریق السعادة والکمال ویتجنبوا بأنفسهم عن إیقاد لظی الحرب وإسالة الدماء الزکیة، المضادّة مع فطرتهم الإلهية؛ الفطرة التي ارتوت من ینبوع الفيض الإلهي وتحلّت بکل حسن وروعة. الفطرة التي جعل الإنسان مسجودا للملائکة وجعلها یذعن الملائکة بمکانة الإنسان الممیزة في عالم الکون! فهؤلاء الأنبیاء العظام قد أثبتوا أن القتل وسفک الدماء لیس من الصفات الذاتیة للإنسان، بل الحرب والجریمة حصیلتان لطغیان أطماع البشر وولیدتان للتعسف والتوسع الذي یمارسه الطغاة ممن یحاولون جَعلَ البشریة ضحیّة لأهوائهم ومصالحهم الشخصیة وأن الفطرة الإلهية الطامحة إلی کشف الحقیقة والمرتویة من ینبوع الفيض الإلهي والمتصفة بکل ما هو حسن، هي الأصیلة في الإنسان، وهي التي إستحقت وأوجبت سجود الملائکة للإنسان.
ولکن في تلک الظروف القاسیة، ما یُثیر الحسرة والحزن کثیرا، هو تحمیل الأعباء والمحن علی أکتاف الفئات التي لم تشارکوا في الحرب أو إنتهين عن المشارکة فيها وانعزلن عن الحضور في المعارک الدامیة ومنهنّ النساء والأطفال وکذا الشیوخ. ومع الأسف، تلک الفئات هنّ أکثر ضحایا تلک الحروب الدامیة «کما نشاهدها الیوم في غزّة» التي سببتها المطامع الشیطانیة لأرباب القدرة والثروة من دون أن یکون لهن طمع في التوسّع والتحدّي مع خصومهم ولکن قد وطئت عزّتهم وکرامتهم وأهرقت دمائهم ورضّت صدور عزّهم تحت أقدام خیل هوی الجفاة والطغاة.
إن في هذه الأجواء المظلمة (علی طیلة التأریخ) الفطرة البشریة السلیمة قد أجبر الإنسان علی رعایة حال هذه الفئات وتمهيد قوانین وقواعد عامّة لحمایتهن وحفظهن عن التحطّم تحت رُحی الحرب. ولکن مقدما علی الجهود البشریة العامة لتقلیل المعاناة والمحن المتوجهة إلی هذه الفئات المظلومة من قِبل شبّ لظی الحروب، هؤلاء هم الأنبیاء الإلهي الذين کانوا معلموا البشر وأطبائه الروحاني، قد أرّسُّوا قواعد خاصة لتحسین أوضاع طرفي المخاصمة وتواصوا الناس برعایة تلک القواعد ومستندا علی الأخلاق الحسنة والجمیلة الإلهية، قد مهّدوا نسخاً متناسبة لکل الأحوال والظروف علی مدی الأیام قاصدا المنع أو (علی الأقل) التقلیل عن المضارّ والأعباء الموجهة إلی تلک الفئات غیر المشارکات في معرکة الحروب. فهذه هي النفخة المسیحیة للأنبیاء الإلهي التي یشفي أسقام أبناء آدم الروحیة والجسدیة. هؤلاء الأنبیاء العظام الذين کانوا في قمّة الإنسانية (فکانوا خبراء بمیزات الإنسان وحوائجه الأساسیة) قد بنوا قواعد عامة علی الأسس الأخلاقیة المتجذرّة بجذور فطریة لتلبیة حاجة الإنسان إبّان الحروب إصلاح أموره وکلما کان أمر الحکومة بأیدیهم ما فرّطوا عن إجراء مثل هذه القواعد المبنیة علی الأخلاق الفاضلة في المجتمع ومن جانب آخر، کل ملة وقوم علی مدی التأریخ (مبنیاً علی فطرتهم الإلهية) قد وضعوا قواعد وقوانین کثیرة لتحصیل غرض المذکور حتی إنتهت الأمر إلی وضع قوانین ومعاهدات دولیة في مدینة جنیف في سوییسرا لحمایة ضحایا الحروب الدولية تحت عنوان القانون الدولي الإنساني في أواخر القرن الثامن عشر من میلاد المسیح(ع) ولکن ما کانت هذه القوانین والمعاهدات إلاّ ترجمة لنداء الضمیر الإنساني وصدی الآیات السماویة المبثوثة في مطایا تعالیم الأنبیاء الإلهية المنطبقة علی الفطرة الإنسان الطاهرة. فبعد قرون متمادیة من التحدّیات ومرور رکب الحضارة الإنسانية بمنعطفات خطیرة، وتحمیل مختلف ألوان العناء والألم علی الأجسام النحیفة الأبریاء، تمکّن الإنسان من صیاغة میثاق مکتوب علی لوح الضمیر الإنساني الناصع، وثیق الصلة بفطرته الإلهية التي قال عنها: «فِطْرَة اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» فقد أرسی الإسلام أساس قوانینه وأحکامه لحمایة حقوق ضحایا الحروب علی الفطرة السلیمة الإنسانية الحاکمة بأصول الفضائل الأخلاقیة التي یجب مراعاتها خلال النزاعات والحروب حتی یقلّل من نطاق الخسارات والإصابات الجسیمة التي تتوجه نحوأطراف النزاع ولاسیما الأبریاء الذين لم یشارکوا في الحرب أو اعتزلوا عنها کالنساء والأطفال والشیوخ.
إن الفحص عن المبادیء الأخلاقیة لتلک القواعد والقوانین الدولية الإنسانية من منظار إسلامي علی أساس آیات القرآن الکریم والسنة النبویة وکذا سیرة أئمة أهل البیت(ع) یرشدنا إلی أخذ موقف صحیح تجاه الحروب المدمرّة والظروف القاسیة التي تفرض علی الشعوب ولاسیما علی الأبریاء منهم وخاصة الأطفال والنساء (کما في غزة الیوم) للحمایة عنها والحفاظ علی کرامتها، فنخطو خطوة إلی الأمام في انتباه أطراف النزاع لرعایة الأصول الأخلاقیة المبتنیة علی الفطرة الإلهية بالنسبة إلی خصومهم؛ کي لایقعوا علی شفا جرف هار، فانهاروا به في نار جهنمِ الحروب المدّمرة وتتلطّخ أیدیهم بدم الأبریاء المظلومین الذين یتولی أمرهم الله العدل الحکیم.
ما نشاهده الیوم من الأحداث المفظعة التي تجري في مجزرة غزة، یکون أبرز أنموذج من غیاب الأخلاق في الحرب، الذي جعل الکیان الصهیوني یضع قواعد القانون الدولي الإنساني تحت أقدامه الرجسة ویذبح المباديء الأخلاقیة التي تلزم مراعاتها طوال الحروب علی أساس تعالیم الأدیان السماویة، فیهجم المحتلین علی المدنیین في وطنهم العربي والإسلامي ولا یتجنب وقوع الأضرار علیهم، فیرتکب العنف والقتل الأعمى والتصعيد ویتجاوز الخطوط الحمراء، واحدة تلو أخری.
المصدر: مقتطف عن رسالة دکتوراة للمؤلف المعنون بـ: «المباديء الأخلاقیة للقانون الدولي الإنساني في الإسلام (حقوق النساء والأطفال والمسنّین أنموذجا)»