printlogo


printlogo


□ مقالة
المرجعية الدينية في مدينة سامراء


  الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
لا يخفى ما للحوزة العلمية من دور كبير على مستوى التاريخ، في معالجة جميع المشاكل الحياتية، وإيجاد الحلول المناسبة للوقائع المختلفة، ومن بين تلك الحوزات حوزة سامراء العلميّة التي لم يوضح دورها الريادي في معالجة العديد من الأزمات التي مرّت بالأمة الإسلاميّة، فضلاً عن دورها في الجوانب العلمية والثقافية والمسائل الفكرية والعقائديّة والعبادية والأخلاقية، كل هذه الأمور جعلتنا نضع هذا العنوان محط النظر وكشف الحقائق وإظهار الدور الفعّال لهذه الحوزة الطاهرة.
أهمية مدينة سامراء الدينية
تعتبر مدينة سامراء من المناطق ذات الأهمية الدينية المهمة في المجتمع الإسلامي، وإذا ما أردنا توضيح تلك الأهمية فيمكن رصدها بعدّة جوانب مهمّة مثلت ذلك الدور، وكما يأتي:
أوّلاً: تعتبر مدينة سامراء قديماً محط سام بن نوح(ع)، وقيل هو من بناها، ولا غرو أن محط أبناء الأنبياء لتلك البقعة تمثل تحولًا في بيئتها وجعلها مركزًا دينيًا له أبعاده الفكرية في هذا المجال. فهذا ما ورد في كتب البلدانيين العرب، ومن ذلك ما يخبره اليعقوبي في (البلدان) أنّ المعتصم العباسيّ (صار إلى موضع سرّ من رأى، وهي صحراء من أرض الطيرهان، لا عمارة بها، ولا أنيس فيها، إلا دير للنصارى، فوقف بالدير وكلّم من فيه من الرهبان، وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقال له بعض الرهبان: نجد في كتبنا المتقدّمة أنّ هذا الموضع يُسمّى سرّ من رأى، وأنّه كان مدينة سام بن نوح(ع). وجاء في معجم البلدان للحموي: يقولون إنّ سامرّاء بناها سام بن نوح(ع)ودعا أن لا يصيب أهلها سوء.
ثانياً: كان لوجود الإمام الهادي(ع) في سامراء الدور الكبير في تأسيس وتوثيق تلك الأرض بمبادئ أهل البيت(ع) ونشر الفكر المحمدي بين ظهراني أبناء هذه المنطقة. فإنه(ع) بمجرد وصوله مدينة (سرّ من رأى) كانت البركات والمعاجز، ومن ذلك ما رواه صالح بن سعيد حيث قال: (دخلت على أبي الحسن الهادي(ع)يوم وروده فقلت له: جعلت فداك في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتّقصير بك، حتّى أنزلوك هذا المكان الأشنع، خان الصّعاليك. فقال: ها هنا أنت يا بن سعيد؟ ثمّ أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات، وأنهار جاريات، وجنّات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللّؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي فقال(ع) لي: حيث كنّا فهذا لنا يا بن سعيد، لسنا في خان الصّعاليك).
وإذا ما أردنا أن نسلط الضوء أكثر على تأثير الإمام الهادي(ع)على مدينة سامراء نجده لا يختلف عما فعله آباؤه وأجداده الطاهرون(ع) فقد كانوا حريصين أشد الحرص على بناء الفرد المسلم بناءً صحيحًا. فإن دور الأئمّة الاثني عشر الذين نصّ عليهم وعلى إمامتهم الرسول(ص)واستخلفهم لصيانة الإسلام من أيدي العابثين الذين كانوا يتربّصون به الدوائر، وحمّلهم مسؤولية تطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي يتلخّص في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين:
1ـ خط تحصين الأمة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقى واقفة على قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت.
2ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية الثلاثة أعني الأمة والشريعة والمربّي الكفء ولتتلاحم الأمة والمجتمع مع الدولة وقيادتها الرشيدة.
أما الخط الثاني فكان على الأئمّة الراشدين أن يقوموا بإعداد طويل المدى له، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان كل ما يوصله إلى كماله اللائق. ومن هنا كان رأي الأئمّة المعصومين من أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) في استلام زمام الحكم أن الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر بل يتوقف ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته إيمانًا مطلقاً بحيث يعيش أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس كل ما يحققه للأمة من مصالح وأهداف ربّانية.
وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة، وكان يمارسه الأئمّة الأطهار(ع) حتى في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تهيئ الإمام(ع) لخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد.
ثالثاً: وجود الحوزة العلمية في مدينة سامراء والتي تمثل مصدر ربط وثيق بين المؤمنين من جهة، ومصدر إشعاع فكري وعلمي رصين يقف سداً منيعاً للمؤمنين، كما سيأتي لاحقًا.
البذرة الأولى للحوزة في سامراء
إن الحوزة العلمية في سامراء لم يكن لها وجود من دون تضحية العظماء من العلماء الذين يبذلون الغالي والنفيس في إعلاء كلمة الإسلام وترصين الحق ونشر مذهب أهل البيت(ع)، ومن أولئك العظماء المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي (أعلى الله مقامه) الذي هو مؤسس الحوزة العلمية في سامراء.
فلما وصلت إليه زعامة المذهب واستقر به المقام في النجف الأشرف، قرر التوجه إلى مدينة سامراء التي تضم مرقد الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري(ع)، وفيها غيّب الإمام محمد المهدي الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت(ع)، ويقصدها على مدار السنة عدد غير قليل من المسلمين الإمامية من داخل العراق وخارجه لزيارة الإمامين العسكريين(ع)، والتبرك بمرقدهما الطاهر، وسكان هذه المدينة من المسلمين السنّة منذ عهد العباسيين الذين أسسوها واعتبروها عاصمة لهم في عهد من عهودهم.وعندما رسخت مرجعية الإمام المجدد الشيرازي في الأقطار الإسلامية قرر الانتقال من النجف إلى سامراء، ولم يعلن عن تصميمه في بداية الأمر لأنه كان يخشى ضغط العلماء وهيجان الجماهير عليه ممّا يضطره لترك الفكرة، وهو مصمم على إنجازها لما فيها من مصلحة للأمة، وذلك عام 1291هـ.
وحين ألقى عصا الترحال في سامراء، وعرف عنه الرغبة في الإقامة الدائمة بمدينة الإمامين العسكريين(ع)، توافد عليها العلماء الأعلام وتبعهم الأصحاب والطلاب والتلاميذ، والكثير من المسلمين الشيعة الذين يرغبون في البقاء إلى جنب زعيمهم الديني الميرزا الشيرازي، والتشرف بمجاورة مرقد الإمامين العسكريين(ع)، والاستفادة من فضله وتوجيهه والانضواء ضمن مرجعيته والانتظام بحوزته درساً وتدريساً ومتابعة.
وفي عام 1291 هـ تشرف السيد المجدد الشيرازي إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين(ع) في النصف من شعبان، وبعد الزيارة توجه إلى الكاظمية لزيارة الإمامين: موسى بن جعفر، ومحمد الجواد(ع)، ثم توجه إلى سامراء فوردها أواخر شعبان، ونوى الإقامة فيها لأداء فريضة الصيام، ولئلا يخلو الحرم الطاهر للإمامين العسكريين(ع) من الزوار في ذلك الشهر - فإنّ الحرم يغلق إذا جاء الليل ولم يكن فيه أحد من أمثال المترجم له، ويحرم منه سائر الزوار، وكان يخفى قصده، ويكتم رأيه، وبعد انقضاء شهر الصيام كتب إليه بعض خواصه من النجف الأشرف يستقدمه ويسأله عن سبب تأخره، فعند ذلك أبدى لهم رأيه، وأخبرهم بعزمه على سكنى سامراء، فبادر إليه العلامة ميرزا حسين النوري، وصهره الشيخ فضل اللَّه النوري، والمولى فتح علي السلطانآبادي، وآخرون من الطلبة والمشتغلين، وهم أول من لحق به، وبعد أشهر اصطحب الشيخ جعفر النوري عوائل هؤلاء إلى سامراء أوائل (عام 1292 هـ) ثم لحق بهم سائر الأصحاب والطلاب والتلاميذ، فعمرت به سامراء. وبذلك أصبح المجدد الشيرازي مصداقًا لقوله تعالى:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ].
الدور الإصلاحي لحوزة سامراء
كان لوجود الحوزة العلمية في سامراء بقيادة الميرزا الشيرازي دور كبير في عملية إصلاح المجتمع، فقد تعددت تلك الإصلاحات على أشكال مختلفة، وبما تخدم المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، وقد ذكر لنا التاريخ عدّة أمور واضحة في خصوص هذا المجال وسنورد بعضاً منها وكما يأتي:
أوّلاً: فتوى تحريم التبغ:
وتعرف هذه الفتوى بثورة التنباك أو ثورة التبغ (بالفارسية: نهضت تنباك) هي ثورة قامت بعد سنة 1890م، حين منح الملك القاجاري، ناصر الدين شاه، حق بيع وشراء التبغ في إيران لصالح شركة بريطانية. كان نحو 20% من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ، وقد أدت الإتفاقية إلى احتكار البريطانيين لهذا القطاع. وصلت الأزمة ذروتها حين صدرت فتوى التحريم من قبل المرجع الميرزامحمد حسن الشيرازي سنة1309هـ / 1891م حَرم فيها التنباك، جاء فيها: (اليوم..استعمال التنباك والتوتن بأي نحو كان بحكم محاربة إمام الزمان عجل الله فرجه).
ثانياً: جسر العبور:
ومن جملة ما قامت به المرجعية هو بناؤها جسراً على نهر دجلة ليتمكن الناس الذين يعيشون خارج مدينة سامراء والوفود القادمون من بغداد وغيرها من العبور بسلاسة ومن دون عناء وإعطاء الأموال، حيث جاء في تقريراته ما نصّه (كان الناس الَّذين يقطنون خارج المدينة في الجانب الثاني من النهر يعبرون النهر بواسطة (القفف) وكذلك الزوار والمسافرون من بغداد وغيرها، وكان أصحاب المعابر (القفف) يشترطون في الأجرة ويلقى منهم الزوار أذىً كثيرًا، وحل المرحوم السيد الشيرازي المشكلة إذ بنى جسرًا محكمًا على دجلة من السفن بالطريقة التي كانت متبعة في بقية جسور العراق حينذاك تسهيلًا للعبور، ورفقًا بالزوار والواردين، وكما تحدد المصادر أنه أنفق عليه عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهبًا، ثم بعد إتمامه سلَّمه للدولة تتقاضى هي أجورًا وزهيدةً مقابل العبور عليه وذلك لغرض صيانته ودوامه.وقد بنى عدة دور للمجاورين والزوار لمرقد الإمامين العسكريين(ع)، وكانت تؤجر بقيم رمزية ممّا ساعدت على تشغيل أيدي ضعفاء وفقراء المدينة وعمالهم.
ثالثاً: خدماتها لطلبة العلوم:
لم يكن دور الحوزة العلمية في سامراء مقتصراً على ناحية دون أخرى فقد كانت خدماتها تجاه طلبة العلوم الدينية والذين هاجروا مع المرجع المجدد أو الذين التحقوا بالحوزة في سامراء، فقد قام السيد الشيرازي ببناء مدرستين كبيرتين لطلاب العلم الدينيين غير المتزوجين (وهي ما يطلق عليه اليوم أقسام داخلية)، أنفق في سبيل بنائهما أموالًا طائلة وشغل عددًا من العمال في إشادة ذلك البناء. وتُعتبر من أكبر المدارس العلمية الشيعية في العراق، وظلّتا قائمتين تحكيان قصّة العصر الذهبي للفكر الشيعي إلى أن جاء النظام البعثي البائد وقام بتخريبهما تعبيراً عن حقده الدفين للإسلام وعلمائه.
وعلى الرغم من اهتماماته الكبيرة في متطلبات المرجعية، كان لا يغرب عن باله تفقد العلماء في العراق وخارجه، وطلاب الحوزات العلمية، والتعرف إلى أحوالهم المعاشية، والاهتمام بسد حاجاتهم المادية، وحل مشاكلهم أينما كانوا. إذ كان له عيون ورقباء يوصلون له الأخبار عن ذلك في الخارج، وكانت الأخبار تصل إليه باستمرار، ويهتم بمعالجتها، ووضع الحلول لها، والإيعاز لوكلائه وممثليه في البلاد الإسلامية بما يقتضي لتلكم القضايا.أما الحوزات العلمية في العتبات المقدسة، فكانت موضع اهتمامه بصورة خاصة، اعتقادًا منه أن البلدان التي تضم المراقد المقدسة يجب أن تطغى فيها الواجهة العلمية الدينية، تشويقًا لطلاب العلوم المهاجرين الذين يرغبون في التحصيل العلمي الديني والتبرك بمجاورة مراقد أئمة الهدى من آل بيت المصطفى(ع)،
وهذا التشجيع لم يقتصر على طلاب العلوم الدينية، إنما امتد إلى بعض العلماء المشاهير، بغية إبقائهم في أماكنهم، وعدم انتقالهم إلى بلدانهم، التي تتوفر لهم فيها سبل العيش أكثر من أي مكان آخر.
إن وجود مراقد أئمة أهل البيت(ع) شكلّت انعطافة في حياة المجتمع السامرائي الدينية والمذهبية، وركزت المبادئ العلوية المقدسة.فمدينة سامراء بتعدد طوائفها أعطت صورة واضحة للوحدة الإسلامية والتكاتف بين أبناء الطوائف الإسلامية وهذا ما يمثل نقطة قوّة للإسلام والمسلمين. فقد استطاع المجدد الشيرازي أن يجعل من مدينة سامراء، مدينة العلم والتعلّم، ومهبط أفئدة العلماء والدارسين.وكان لوجود المرجعيّة الدينية في مدينة سامراء الأثر الواضح في جميع المجالات العلمية منها والسياسية والاقتصادية والوحدة الوطنية. واستطاع المجدد الشيرازي أن يثبت لجميع العالم كيف يستطيع الإسلام أن يبني من مدينة بائسة - حين رحيله إليها - مدينة العلم والحضارة، ونشّط فيها الدراسة الحوزوية ومنحها بعداً جغرافياً واسعاً.
المصدر: مجلة ینابیع، العدد 56