□ مقالة/ الجزء الأول
□ السيد صدر الدين القبانجي
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
▪ تاريخ المسألة
لم تكن مسألة الأصالة والمعاصرة في الاجتهادات الفكرية والتشريعيّة في الإسلام مسألة حديثة الولادة بقطع النظر عن طبيعة العنوان والاصطلاح المتخذ للتعبير عنها.
اننا قد نجد بعض إفرازاتها في زمن الرسول الأكرم(ص) وما بعده مباشرة حينما ظهرت العديد من الاجتهادات الشخصيّة في مقابل حكم الرسول وقوله(ص)، ولم تلبس تلك الاجتهادات الشخصيّة ثوب الرأي الذاتي وإنما طرحت على أساس الملائمة للواقع والانسجام معه وهذا هو ما يصطلح عليه اليوم بـ (العصرنة) أو (المعاصرة).
ان هذا اللون من الاجتهادات في قرارات ذات طابع سياسي أو تشريعي في مقابل حكم القرآن أو نص الرسول الأكرم(ص) ربما لم تكن - في مظهرها كما قد يفسّرها بعض- على أساس التنكّر للأصالة ورفض الشرع، وإنّما طرحت على أساس حق التعديل والتصرّف بحكم الشرع تبعاً لظروف الواقع المعاصر، بمعنى تقديم عنصر (المعاصرة) على عنصر (الأصالة) وحينما تحدث رسول الله(ص) قائلاً “حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة ” كان ذلك تعبيراً عن ضرورة التزام عنصر الأصالة وعدم السماح بمديد التلاعب بالأحكام الشرعيّة.
ولكن الإمام علي(ع) حينما عرضت عليه البيعة بعد وفاة عمر بن الخطاب الخليفة الثاني على ان يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ويسير بسيرة الشيخين رفض ذلك وقال: “تبايعوني على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي ” وكأنه أراد التأكيد على عنصري الأصالة والمعاصرة معاً، حيث يعبّر اجتهاد الرأي عن عنصر المعاصرة كما يخضع إلى عنصر الأصالة التزاماً بالكتاب والسنّة.
▪ تعريف الاصطلاح
و قد يكون مفيداً أن نحدّد بدقّة ماذا يقصد بمصطلح “الأصالة ” و“المعاصرة ”؟
الأصالة من “الأصل ” ويقصد بها ارتباط الشيء بأصله، وعدم انحرافه عنه.
المعاصرة من “العصر” ويقصد بها مواكبة الشيء وتناسبه مع مقتضيات العصر ومستجداته.
وعلى ذلك يكون المقصود بالأصالة الإسلامية ارتباط المواقف النظرية أو العملية بالمبادئ والقيم والتشريع الإسلامي وعدم تجاوزها لأي واحد من تلك الأُصول.
ويكون المقصود بالمعاصرة الإسلامية هو توافق المواقف الإسلامية سواءً على المستوى العملي أو النظري مع مقتضيات العصر.
عنصران ضروريان
وفقاً لذلك سوف يتأكد أن الأصالة و المعاصرة عنصران حتميان في الإسلام ولا يمكن رفع اليد عن أي واحد منهما.
ان الإيمان بـ “خاتمية ” الإسلام، واعتبار أي تشريع وموقف لا يستند إلى الإسلام هو ضلال وانحراف استناداً إلى الضرورة الإسلامية القائلة “أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً ” والقائلة “حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ”.
ان هذا المعتقد الإسلامي سوف يوصد الباب أمام شرعية أي تصرّف وتجاوز لما جاء في الأُصول الإسلامية ويعتبر ذلك جاهليةً وضلالاً “و هل بعد الحقّ إلا الضلال ”.
وإذا كان الإسلام هو الدين الخاتم، فلابد أن تكون أحكامه وشرائعة منسجمة مع كل العصور، وقابلة لاستيعاب كل المستجدات.
وإذا كانت طبيعة المجتمع الذي نزلت به الرسالة الاسلامية قد فرضت لغةً خاصة في التخاطب، وحلولاً لنمط خاص من المشاكل الحياتيّة فإن على فقهاء الاسلام أن يكتشفوا جوهر الحلول والنظريات الإسلامية التي تتمكّن من معالجة قضايا العصر، وتخاطب ابناءه باللغة المناسبة وهو ما يصطلح عليه بـ (المعاصرة) أو “العصرنة ”.
ان التوفيق بين الأصالة من ناحية والمعاصرة من ناحية ثانية هي مسألة في غاية الأهمية، وربما تكون عملية في شيء من التعقيد والصعوبة، إلا انها على كل الاحوال ضرورة يجب أن يتوفّر لها فقهاء الإسلام.
▪ اتجاهان
ولقد شهد التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر اتجاهين في المسألة:
الاتجاه الأول يتمسك بالاصالة على حساب المعاصرة، متسماً بشيء كثير من (التحجّر)، ومتبعداً عن متطلبات الواقع الإنساني المتجدد في احواله ومشكلاته واساليبه.
في ضوء هذا الاتجاه اغلق باب الاجتهاد، واطيح بالعقل باعتباره أساساً في فهم الشريعة ومعارفها واحكامها، واصبح هذا الاتجاه في مواجهة التحديات والمستجدات كمن يدخل ساحة الحرب بأسلحة تقليدية قديمة، الأمر الذي ساعد على نجاح الغزو الثقافي لمجتمعنا، واتهام الفكر الإسلامي بالرجعية وغير ذلك.
وفي مقابل هذا الاتجاه ـ ولاكثر من سبب ـ برز اتجاه ثانٍ يتعاطي مع قضية المعاصرة ولكن على حساب الأصالة، وبشيء كثير من (التحلل). هذا الاتجاه اعتبر “الرأي الشخصي ” أصلاً في فهم القرآن، واكتشاف العلوم الإسلامية.
وقد نجد هذا الاتجاه في ظرفنا المعاصر تحت عنوان “ تعدد القراءات ” حيث يرفض وجود ثوابت للحق، واصول مقرّة في اكتشافه كما سنقف عند ذلك في فصل لاحق باذن الله تعالى.
▪ نظرية أهل البيت(ع)
لقد بذل الأئمة من أهل البيت(ع) جهداً واسعاً في تأسيس الاتجاه الصحيح للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، واستعدوا من أجل هذا التأسيس لتحمّل نتائج مرّة كلّفتهم أحياناً عزلاً سياسياً، وحصاراً فكرياً، وخاضوا من أجل هذا التأسيس أيضاً مواجهات مع الحكّام مرّة ومع التيارات الفكرية مرة أخرى، ولكن أهمية المسألة ودورها في الحفاظ على الإسلام هي التي جعلتهم على استعداد لدفع كل الضرائب اللازمة للأمر.
ان “التحجّر ” يعنى إنحسار الإسلام واخفاقه وتحوّله على مر السنين إلى مجرد تراث تاريخي يستحق أن يوضع فيالمتاحف.
كما أن “التحلل ” والاسفاف في العصرنة على حساب الأصالة هو الآخر يؤدى الى تشذّب الإسلام تدريجياً حتّى لا يبقى منه إلا اسمه.
إن تصلّب الأئمة الأطهار(ع) في مسألة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة والتمسك بالعنصرين معاً كان ناشئاً من اعتبار هذه المسألة مسألة حياتية ومصيريّة للإسلام وإن اي خطأ فيها من هذا الجانب أو ذاك سيؤدىالى نهاية الإسلام.
ولعل مقولة الإمام علي(ع) ” قصم ظهري اثنان عالم متهتك وجاهل متنسّك ” تحمل في بعض دلالاتها الاشارة إلى هذين الخطرين “التحجّر ” و“التحلّل ”
حيث “يتحلل ” العالم المتهتك حينما يبتعد عن الأصالة الإسلامية ويعمل برأيه واجتهاده الشخصي بهدف التواؤم مع مقتضيات العصر.
وحيث “يتحجّر ” الجاهل المتنسّك حينما يلتزم بالشريعة بطريقة حرفيّة بعيدة عمّا هو جوهر الشريعة، وسعتها، ومعالجاتها الشاملة لكل مشاكل العصر.
اننا نستطيع ان نجمل نظرية أهل البيت(ع) في مسألة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة بعدة نقاط.
النقطة الاولى: شمولية الشريعة حيث تؤكد نظرية أهل البيت(ع) ان كل الوقائع البشرية وفىمختلف المجالات والمستويات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاخلاقيّة والعباديّة… ان كل الوقائع البشرية لها حكم من الشارع المقدس، حيث لا نجد في الشريعة الإسلامية اي فراغ على مستوى التشريع، وعلى مدى الازمنة والعصور.
وفي هذا المجال نقرأ نصوصاً عديدة للائمة من أهل البيت(ع) تقول “ما من واقعةٍ إلا ولله فيها حكم حتّى أرش الخدش ” ويبدو لمن يراجع هذه الاحاديث المتعددّة وطريقة عرضها للمسألة أنها كانت بصدد مواجهة بدايات فكر خاطىء يزعم ان هناك فراغاً فىالتشريع الالهى يدعونا ويضطرنا للعمل باجتهاداتنا الشخصيّة من أجل ملء ذلك الفراغ.
ان نظرية أهل البيت(ع) تؤكد بشكل قاطع وحامم أنه لا يوجد أى فراغ في الشريعة الإسلامية، ولعل هذا هو ما كان يشير إليه رسول الله(ص) بالقول:
“إنّه والله ما من عمل يقربكم من الجنة إلا وقد نبأتكم به وأمرتكم به، وما من عمل يقرّبكم من النار إلا وقد نبأتكم به ونهيتكم عنه ” تحف العقول.
وإذا كان ثمة حديث عن وجود “منطقة فراغ ” في التشريع متروكه إلى الفقهاء وأولي الأمر فان ذلك ليس في دائرة اصل التشريع وإنّما في دائرة التطبيقات التي تخضع لعناوين متحركة حيث يكون دور الفقهاء وولاة الأمر وأهل الحل والعقد هو التأكد من مصداقية ذلك الواقع المدروس لأي واحد من العناوين ليشمله حكمه الثابت في الشريعة.
ان روايات أهل البيت(ع) تؤكد شمولية الإسلام لكل الوقائع انطلاقاً من قوله تعالى: [ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين] (النحل: 89) وهنا يقول الإمام أمير المؤمنين(ع) وهو يتحدث عن القرآن:
“إلا أن فيه علم ما يأتى والحديث عن الماضى، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ” نهج البلاغة / خ 158.
وبطبيعة الحال فان هذه الشموليّة لا تعنى بالضرورة أن كل القضايا التفصيليّة والجزئية مذكورة فىالقرآن بعنوانها الخاص، وإنّما تعنى ان التشريع الإسلامي في مجموع أحكامه الجزئية وقواعده الكليّة وملاكاته التشريعيّة مستوعب لكل المستجدّات بحيث يقدم لها الحكم الشرعي دونما حاجة إلى تقديم رؤى شخصيّة واستخدام قواعد وقياسات من خارج دائرة الشرع الاسلامي.
النقطة الثانية: ثبات الشريعة
بمعنى أن الدين الاسلامى لمّا كان هو الدين الخاتم وهو لا يتغيّر على مر العصور والدهور فان احكام الشريعة الإسلامية هىاحكام مطلقة من حيث الزمان والمكان فهي ثابتة لا تتغيّر، لان التغيّرات التي تطال الواقع الاجتماعي للانسان هىتغيّرات على مستوى المظاهرالحياتيّة أمّا واقع المشكلات والحاجات البشرية فهو ثابت لا يتغيّر وقد نزلت الشريعة الإسلامية من عند الله تعالى لمعالجة ذلك الواقع وهو واحد مهما تغيّرت الاشكال.
وهكذا القرآن الكريم فانه يقدّم معالجات وحلول ومناهج منسجمة تماماً مع واقع الحاجات البشريّة التي لا تتغيّر مهما تغيّرت اشكالها.
يقول الإمام الصادق(ع): “لو أن الآية اذا نزلت في قوم ثم مات اولئك ماتت الآية ما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض “ البيان / السيد الخوئى.
في ضوء هذه النقطة فان عملية “العصرنة ” يجب أن لا تمسّ الاحكام الثابتة في الشريعة وانما يجب أن تتم وفقاً لتلك الاحكام والمناهج، وسوف يكون مرفوضاً التفكير بان تغير مقتضيات العصر يفرض تغييراً فىأحكام الشريعة.
النقطة الثالثة: وجود القيّم على الشريعة
من الذي له حق التعبير عن الإسلام؟
ومن هو الذي يمثل الفكر والرؤية الإسلامية الصحيحة؟
وهل هناك شخص أو جهاز خاص يعتبر هو المرجع في هذه المسألة أم أن القضيّة تخضع لاجتهادات مفتوحة لا تخضع لآلية معيّنة؟
الحقيقة ان هذه المسألة في غاية الأهمية، وقد ناضل الأئمة من أهل البيت(ع) واتباعهم من أجلها نضالاً كبيراً.
هذه المسألة هي مسألة “الامامة الفكريّة ” التي تكون هىالمرجع النهائي لتقويم كل ما يعرض من نتاج أدبي يتحدث عن الإسلام في شتى مجالاته.
لمن هذه الامامة الفكرية بعد رسول الله(ص)، والى يومنا هذا؟
بالاتفاق فان الامامة الفكرية بالأصل هي للقرآن وسنّة الرسول(ص)، لكن المشكلة ان القرآن يحتاج إلى من ينطق عنه، ويشرح مقاصده، ويستوعب جميع ما جاء فيه فمن هو ذلك؟
وسنة الرسول(ص) قد تصرّف فيها الوضّاعون والكذّابة كما تنبأ بذلك رسول الله(ص) قائلاً “سيكثر على الكذّابة ” فمن هو المنبع الصافي الذي نستقي منه هذه السنّة؟
واليوم وبعد تقادم العصور، وتطور العلوم، من هو المرجع الفكري الذي يمتلك حق التعبير عن الإسلام واحكامه ونظرياته؟
نظرية أهل البيت(ع) أكّدت ان المرجعيّة الفكريّة القيّمة على الإسلام بعد رسول الله(ص) هي للائمة المعصومين الاثني عشر من أهل بيت النبوة(ع) والمرجعية الفكرية من بعدهم وفي عصر غيبتهم هي للفقهاء العدول.
هذه النظرية هي التي لخّصها الحديث الشريف الوارد عن الإمام المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه القائل “ أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتىعليكم وانا حجة الله ”.
ان اصطلاح “رواة حديثنا ” يساوي ما نصطلح عليه بعبارة “الفقهاء ” واصطلاح “حجة الله “ يعنىالامامة والزعامة والمرجعيّة الشرعيّة.
ان مدرسة أهل البيت(ع) قد حلّت مشكلة الفراغ في الزعامة الفكرية بعد رسول الله(ص) وبعد الأئمة المعصومين(ع) وإلى الابد.
فالأئمّة من أهل البيت(ع) هم “حجج الله على خلقه، وامناء الرحمن، وابواب الايمان ” و“عندهم ما نزلت به رسله، وهبطت به ملائكته ” وهم “الإمام ” الذي عناه الله تعالى بقوله “وكل شيء احصيناه في إمام مبين ”.
والفقهاء العدول من رواة حديثهم، وحملة علومهم هم الامناء على الشريعة ”الفقهاء امناء الرسل ” والمرجع الديني للناس. وفى ذلك يقول الإمام الحسن العسكري(ع):
“ اما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه”.
ولقد عمل الأئمة من أهل البيت(ع) على ترسيخ هذه النظرية “نظرية الرجوع إلى الفقهاء وقيمومتهم على الفكر والفقه الإسلامي ” أيام حياتهم حينما كان يسألهم أتباعهم عن المرجع لأخذ معالم الدين فيؤكدون كما جاء عن الإمام الصادق(ع):
“ان العلماء ورثة الأنبياء، وذاك ان الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ”.
والملاحظ فىنظرية أهل البيت(ع)، أنها تضع هؤلاء الفقهاء مرجعاً للفكر الإسلامي ليس فقط في مقابل التيارات الكافرة وإنّما في مقابل الاتجاهات المنحرفة، والتأويلات الباطلة التيتحدث في داخل الدائرة الإسلامية نفسها وعلى أيدي رجال يضعون أنفسهم موضع المرجعيّة الفكرية للدين.
المصدر: مجلة آفاق الحضارة الاسلامية العدد 10