printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الثاني
أصـول الـفـقه


▪ ب) الشافعي، شخصية مؤسسة في أصول الفقه
كانت الشخصية العلميـة لمحمد بـن إدريـس الشـافعـي (تـ ۲۰۴ه‍ / ۸۱۹ م)، خلال مراحل دراسته في المواطن المختلفة من مكة والمدينة واليمن والعراق و في أوساط المحدثين وأصحاب الرأي قد تبلورت بشكل هيأت له الأرضية لتقديم مشروع جديد ومنتظم في الأصول. ففي رحلته الثانية إلى العراق، قدّم الشافعي ولأول مرة نظاماً فقهياً مدوناً وأسلوبياً ينسجم من حيث طريقة العمل ونظام الفكر مع الأساليب الدرايية لأهل الرأي و من حيث العناصر الفكرية المهيمنة عليه واحداً واحداً كان يتطابق بشكل أكبر مع الفكر التقليدي لأصحاب الحديث. فالاستناد إلى عنصر الحديث والأثر يطرح نفسه في المنظومة الفكرية الشافعية بوصفه المحور الذي يدور الفقه مداره، و قد بلغ هذا الاستناد حداً غطّى معه على ظواهر الكتاب أيضاً، وبطرحه أسلوب «محورية الحديث» كان يعدّ السنة مفسرة له.
إن الأثر الذي بيَّن فيه الشافعي فكره الأصولي هو الرسالة الذي يغلب على الظن أن أول تحرير له تمّ في الفترة الواقعة بين ۱۹۵-۱۹۷ه‍ / ۸۱۱-۸۱۳ م في بغداد. و في هذا الكتاب الذي اشتهر بوصفه أول أثر مدوّن في علم الأصول، طرح الشافعي البحوث الأصولية المختلفة على نطاق واسع نسبياً؛ إلا أنه وعند دراسة العناوين الموضوعية لهذا الأثر، يلاحظ أنه لم يتم بعد فرز دقيق بين مسائل علم الأصول وبعض المسائل الخاصة بالعلوم الأخرى كعلم الحديث. وبالنتيجة، يمكن القول إن الرسالة للشافعي وبغض النظر عن بعض المؤلفات الباقية والمفقودة للمتقدمين، وكذلك عن الكتابين المجهولين المنسوبين لأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، هو في الحقيقة أول نموذج باق من تدوين بحوث أصول الفقه والذي ترك تأثيراً ملحوظاً في الآثار اللاحقة.
ولدى دراسة عناوين موضوعات الرسالة ومقارنتها بالآثار الأصولية للقرن ۴ه‍ / ۱۰م و ما بعده، يستشعر فرق كبير بين الموضوعات، لكن خصيصة أن الكتاب الأصولي يبدأ بمجموعة من بحوث الألفاظ في تحليل أقسام الخطاب ويستمر ببحث واسع في الأدلة، تلاحظ في الرسالة أيضاً بوصفها خصيصة مشتركة. وفي البحوث التفصيلية، فإن ما يلاحظ بوصفه خطوة في تيار التدوين التدريجي للأصول في هذه الرسالة، وبطبيعة الحال الأسلوب العام للشافعي في التعامل مع البحوث الخلافية، هو القيام بتقديم تعاريف للمفاهيم الأصولية، تعاريف قادرة على حل الكثير من النزاعات القديمة في مجال الأساليب الفقهية من غير نقاش لمن يستحسنون ويتقبلون مبادئ المنظومة المقترحة من الشافعي.
و في تعامله مع «الأثر» عَدَّ الشافعي  بتقديمه تعريفاً مضيَّقاً عن السنة  الأحاديث المرفوعة فحسب ممثلة للسنة، و لم‌يكن يتقبل الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين بوصفها ملحقات بالسنة. و من خلال تقديمه هذا التعريف، وبدفعه الدخل المقدَّر تجاه اتهام أصحاب الحديث القائم على قلة اهتمامه بالسنة، خطا خطوة على طريق الاقتراب من أصحاب الرأي الذين كانوا من المنكرين القدماء لحجية الآثار غير المرفوعة في الأوساط الفقهية. و في تعامله مع الإجماع و من خـلال تقديمه تعريفاً خاصاً، عـدّ الشافعي مـرة أخرى  وضمـن قبوله أصل حجية الدليل الثالث  الإجماعات المحلية والمحدودة بعيدة عن الحجية، ورأى أن إجماع الأمة فحسب هو الدليل الشرعي الذي هو بحق دليل صعب الحصول. وباعتقاده بتعريف كهذا و من غير أن يتهم بخرق الإجماع، فإنه خطا خطوة نحو المواضع التقليدية لأصحاب الرأي و في سبيل تضييق التمسك بالإجماع الشائع بين أصحاب الحديث.
وأخيراً، و في تعامل الشافعي مع مسألة اجتهاد الرأي، يجدر القول إنه وبتقديمه تعريفاً للرأي، اعتقد أن الرأي المشروع هو القياس فحسب، ورأى أن أي شكل من أشكال الرأي دون ضوابط سواه ممنوع. و في تحليله لحجية القياس، أرجع أساسه إلى الأثر بشكل ما، وبتعريفه القياس بوصفه أثراً كامناً، أعلن تأييده للقياس بوصفه من مستلزمات منح الأثر قيمة.
و في نظامه المقترح، طرح الشافعي ولأول مرة منظومة الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ورأى أن حجية الدليلين الأخيرين مقتصرة فحسب على حالات الضرورة وفقدان النص (ن.م، ۵۹۸- ۵۹۹). و قد حدت ضرورة تفصيل الكلام على ماهية الدليلين الثالث والرابع وحجيتهما في النظام الأصولي للشافعي، به إلى تناول هذين الموضوعين بالبحث بشكل أكبر بتأليفه رسالتين إحداهما بعنوان الإجماع والأخرى إبطال الاستحسان.
▪ ج) المعتزلة وتيار تدوين أصول الفقه
خلال القرنين ۲و۳ه‍ / ۸ و۹م، لم يغفل متكلمو المعتزلة المتقدمون علم الفقه إلى جانب دراساتهم الكلامية وانبروا في دراساتهم للبحث في أساليب الاستدلال الفقهي وكذلك المبادئ الأصولية للفقه، لكن في مجال التأليف والتدوين وبرغم شيوع مجال التأليف في الموضوعات الكلامية لديهم، لم تلاحظ في أوساطهم نزعة إلى التأليف في أصول الفقه. وتجدر الإشارة إلى نقل موجز، لكنه مهم جداً على لسان واصل بن عطاء بوصفه أول رأي كلامي حول مبادئ الاستدلال الفقهي، يقوم على أن الفقيه في حالة عدم عثوره على دليل من الكتاب و«خبر جاء مجيء الحجة»، يجدر به أن يسلك طريق «العقل السليم» (القاضي عبد الجبار. ولتفسير عبارة «العقل السليم»، ينبغي البحث في أفكار إبراهيم النظام الذي كان يعتقد في ترتيب الأدلة الفقهية و في حالة فقدان دليل من الكتاب والخبر القاطع للعذر، أن الأشياء كلها على إطلاق العقول، و هي الفكرة التي كانت أسـاس تبلـور أصل البراءة فـي الفترات اللاحقة من علـم الأصول.
و في نظرة سريعة إلى الآثار الأصولية للمعتزلة في أواخر القرن ۲ه‍ والقرن ۳ه‍ بأسره، ينبغي القول إن مؤلفاتهم كانت في الغالب آثاراً جدلية في الرد على أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، ولم ‌يكن لها شكل تأسيسي. وبشكل رئيس كان موضوع البحث في هذه الآثار، هو موضوعا اجتهاد الرأي والإجماع، ألّفها أعلام مثل بشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس وأبي موسى المردار.
و في النصف الأول مـن القـرن ۳ه‍، اتجـه جعفر بـن مبشـر (تـ ۲۳۴ه‍ / ۸۴۸ م)  الذي يعدّ في الحقيقة منظِّراً لنظام فقهي مدون بين المعتزلة  إلى سلسلة من البحوث الأصولية المنظمة قُدِّمت حصيلتها في رسالات مفردة تأسيسية ـ جدلية عناوينها هي: الاجتهاد، الإجماع ما هو وكتاب على أصحـاب القياس والرأي. و من بين علماء المعتزلة الآخرين في عصر جعفر، ينبغي أن نذكر أبا عبد الرحمان الشافعي، تلميذ معمر بن عباد، الـذي ألّف فضلاً عن رسالة بعنـوان الإجماع والاختـلاف، كتاباً بعنوان المقالات في أصول الفقه الذي يبدو  استناداً إلى اسمه  أنه كان كتاباً مقارناً في علم أصول الفقه.
ومنذ أواسط القرن ۳ه‍، كان مذهب متقدمي المعتزلة في الفقه والأصول يودع زوايا النسيان تدريجياً. و في النصف الثاني من ذلك القرن، كان أصحاب النظر من المعتزلة قد اتجهوا في أصول الفقه بشكل كبير إلى مواقف الأصوليين من غير المتكلمين. و في مدرسة بغداد، ينبغي أن يُعدّ أبا الحسن الخياط صاحب موقف معتدل، كان يبدو من جهة متمسكاً بشدة بمواقف جعفر بن مبشر الأصولية وينتقد  شأنه شأن المتقدميـن  حجية أخبار الآحاد، و من جهة أخرى، كان ينظر إلى دليل الإجماع برأي مؤيد، بحيث يعدّ مَن يعدل عنه جديراً بالتكفير.
و فـي الجيل التالي من البغداديـن، تخلى أبو القاسم البلـخي  الذي ينبغي أن يُعَدّ حنفي المذهب في الفقه  عن موقف المعتزلة القديم حتى بشأن حجية خبر الواحد وقدّم رأيه في شكل ردّ على أستاذه الخياط؛ وقد دوّن ضوابطه التي يرتأيها لقبول الأخبار في أثر بعنوان قبول الأخبار ومعرفة الرجال. كذلك ينبغي أن نذكر ابن الإخشيد، المتكلم البغدادي الآخر في هذه الفترة الذي عدّه الشافعيون على مذهبهم  ويتوقع أن يكون قد تناول في أثره الإجماع المفقود، قبول أصل الإجماع وتحديد نطاقه بالأسلوب الشافعي.
و في النصف الثاني من القرن ۳ه‍، سلكت مدرسة البصرة الاعتزالية بزعامة أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم أيضاً طريقاً مشابهاً في المواقف الأصولية، وبرغم أنها لم‌تكن قد اكتسبت بعدُ صفة مذهب خاص، إلا أنها في بحوث أصول الفقه كأخبار الآحاد والإجماع والرأي التي كانت مثار خلاف قدماء المعتزلة وأصحاب بقية المذاهب، لم ‌يكن لها خلاف مع الأصوليين الشافعيين والحنفيين في مبدأ القبول، و إن الاجتهاد لأبي هاشم الجبائي قد أُلّف هو الآخر على هذا الأساس.
في القرن ۳ه‍، ينبغي لنا أن نذكر أيضاً حلقة أبي عيسى الوراق وخلفه ابن الراوندي التي عرفت بوصفها تياراً بين المعتزلة والإمامية، وطرحت بحوثاً خاصة في الدراسات الأصولية. وكان ابن الراوندي بوصفه متكلماً خارجاً على مدرسة الاعتزال، في مواقفه الأصولية من المدافعين الأشداء عن العمل باجتهاد الرأي، وألف أيضاً بهذا الصدد كتاباً بعنوان اجتهاد الرأي، سعى فيه إلى تدعيم الأسس الأصولية لاستخدام الرأي. وجدير بالذكر أن مؤلَّف ابن الراوندي هذا لم يحظَ بالقبول في محافل المعتزلة وكذلك لدى الإمامية، و لم يُعرف إلا عن طريق ردّ أبي سهل النوبختي عليه. كما كان ابن الراوندي من مروِّجي حجية خبر الواحد والإجماع وألف بهذا الشأن رسالتين إحداهما بعنوان إثبات خبر الواحد والأخرى كيفية الإجماع وماهيته. وينبغي أن يُعَدّ كتابه الآخر المسمى كتاب الخاص والعام  واستناداً إلى اسمـه  كتاباً في بحوث ألفاظ الأصول.
▪ د) مكانة داود الظاهري في الدراسات الأصولية
رغم أنه لاتلاحظ في المصادر القديمة انعكاس لعلاقة واضحة بين الأسلـوب الفقهـي للظاهرييـن بزعامة داود الأصفهانـي (تـ‍‍‍‍‍ ۲۷۰ه‍ / ۸۸۳م) وبين تعاليم المعتزلة، إلا أن المقارنة بين أفكار داود وبين آراء متقدمي المعتزلة في الأصول الفقهية من جهة، وكون بعض أتباع داود مثل القاضي أبي الفرج الفامي معتزلي المعتقد من جهة أخرى، يجعل إرجاع بعض جذور المذهب الظاهري لداود إلى النزعة الظاهرية للمعتزلة أمراً يدعو للتأمل، وليس مستبعداً أن يكون هذا الاقتراب ناجماً عن معرفة داود المباشرة بتعاليم هذه المدرسة في بيئتي البصرة وبغداد؛ كما نعلم  وكمعلومـة تاريخيـة  أن متقدمـي المعتزلـة كانوا حتى أواسط القرن ۳ه‍ ينزعون في الفقه إلى نوع من أصالة الظاهر ويعارضون بشدة القياس والرأي. وبطبيعة الحال، فإن ما يجعل النزعة الأصولية لداود قريبةً من المعتزلة المتقدمين، ليس اتخاذه موقفاً في معاداة القياس والرأي فحسب، بل إن مواقفه تجاه بحوث مثل نقد حجية الإجماع ونفي التقليد أيضاً، قريبة جداً من المعتزلة.
و في تعامله مع ظواهر الكتاب والسنة، كان داود قد اتخذ من الاستناد إلى المنصوص وتجنب القياس وإلحاق غير المنصوص، أسلوباً له. وكقاعدة، فإنه كان في حالات غير المنصوص والمسكوت عنـه، يبني الأصل علـى عـدم تشريع حكم شرعـي  سواء، أكان في الحرمة، أم الوجوب  و ينزع إلى الحلّية، أو عدم الوجوب، و هو الأسلوب الذي كان ينسجم والرجوع إلى «العقل» والعمل بأصل عدم التشريع في الفقه المعتزلي المتقدم.
وبرغم أن ابن النديم أورد في الفهرست قائمة بأسماء ما يزيد على ۱۵۰ أثر من مؤلفات داود، لكنه لايتوفر اليوم أثر لأي من هذه الآثار، والسبيل الوحيد لدراسة وجهات النظر الأصولية لداود هو إنعام النظر في عناوين آثاره، وكذلك نقد وتحليل الآراء الواسعة المدوَّنة له في آثار الآخرين. فقد أوضح داود بتأليفه رسائل في أصول الفقه بعناوين: خبر الواحد، الخبر الموجب للعلم، الإجماع وإبطال القياس وجهات نظره في الأدلة الثلاثة: السنة والإجماع والقياس، وبهذا الشأن نزع إلى تأييد حجية خبر الواحد والنفي التام للقياس، وإلى تحديد نطاق الإجماع. و قد زادت خصيصة الاستناد إلى ظواهر الكتاب والسنة، الحاجة إلى الدقة في بحوث الألفاظ، و قد لبّى داود هذه الحاجة بتأليفه كتابي الخصوص والعموم والمفسَّر والمجمل.
وبعد داود، نظّم ابنه ومروّج فقهه، محمد بتأليفه أثراً جامعاً بعنوان الوصول إلى معرفة الأصول كتابات أبيه الأصولية وأنتج أول أثر مدون في أصول الفقه الظاهري. ولدى الإشارة إلى دور داود في ازدهار البحوث الأصولية، ينبغي القول إنه خلال القرن ۳ه‍، لم يكن يُلاحظ في المحافل غير الظاهرية كبير اهتمام بتدوين الآثار الأصولية، و لم ‌تكن قد ظهرت، سوى آثار محدودة في مدرسة أصحاب الرأي. لكن الموجة التي كان الظاهريون قد أحدثوها خلقت من جديد نشاطاً في الأوساط الأصولية كانت ثمرته تأليف كتاب الخصوص والعموم في بحوث الألفاظ بقلم العالم الشافعي أبي إسحاق المروزي، إثر كتاب بنفس العنوان لداود، و في القرن التالي، كان أثر هذه الموجة يلاحظ من خلال تأليف آثار جدلية عديدة في المذاهب المختلفة.
▪ هـ) الطبري خلال السنوات المنتهية إلى القرن ۴ه‍
كان محمد‌بن جريـر الطبري (تـ ۳۱۰ه‍ / ۹۲۲م)، العالم الجامـع الأبعاد الإيراني المقيم ببغداد والذي كان يعد إمام مذهب فقهي يحمل اسم الجريرية، على اطلاع بشتى المذاهب الفقهية لعصره وخاصة تعاليم داود التي أخذها عنه بشكل مباشر. وينبغي أن نعدّه عالماً من طيف أصحاب الحديث نزع في بعض الجوانب إلى الأساليب المعتدلة المستلهمة من تعاليم أصحاب الحديث المتقدمين، واقترب في جوانب أخرى من تعاليم داود. وكانت نزعة الطبري إلى الأساليب الأصولية لأهل الظاهر على الأقل بحدّ جعل محمد بن داود يردّ إليه الدَّين في أثر بعنوان الانتصار من أبي جعفر الطبري وينبري للدفاع عن مواقفه. و من خصائص مذهب الطبري التي قرّبته من الظاهريين، يمكن أن نعدّد النزعة إلى ظواهر الكتاب والتعامل النقدي مع الحديث وتجنب القياس بشكل نسبي.
وأبرز خصائص مذهب الطبري في الأصول، نظريته الخاصة في باب الإجماع التي قرّبته من متقدمي أصحاب الحديث ونأت به عن الظاهريين. وبرغم أن الطبري ليس له مؤلَّف معروف في هذا الباب و في المجالات الأصولية بشكل عام، إلا أنه و مع الانتباه إلى أن المؤلفات المعروفة للأصوليين الجريريين في القرن ۴ه‍ / ۱۰م، هما كتابان في تبيان نظرية الطبري في باب الدليل الثالث فحسب، تتجلى المكانة المهمة للإجماع في فكر الطبري. والأثران المذكوران هما مؤلفان يحملان عنواناً مشتركاً هو الإجماع في الفقه، أحدهما لأحمد بن يحيى المنجم، والآخر لأبي الحسين ابن يونس المتكلم.
وبعبارة موجزة بشأن نظرية الإجماع لدى الطبري، يجدر القول إنه انتقد الشافعي بشدة لاتّباعه الإجماع، وطرح نظرية على هذا الأساس تقول بأن الإجماع ليس سوى اتفاق الأكثرية الساحقة و أن معارضة شخص، أو أشخاص لايلحق ضرراً في تحققه. وبرغم أن هذه النظرية كان لها جذور في التعاليم السابقة لأصحاب الحديث وخاصة في آثار أبي عبيد القاسم بن سلام، لكن الطبري عُرف لهذا السبب في المصادر الأصولية بوصفه أول قائل بارز لهذا القول، لكونه قد بيّنه لأول مرة في قالب بحث أصولي ومدون. والبعد الآخر لنظرية الإجماع لدى الطبـري والتي تتمتـع بمنشـأ ذي نزعة ظاهرية هو أنـه  خلافاً للسائـد لدى كتّاب الأصـول وخاصة الأصوليين الشافعييـن  لم‌ يكن يرى الإجماع في حالة حصوله على أساس القياس والرأي حجة؛ بل كان يعدّ الإجماع معتبراً إذا قام على النصوص الشرعية فحسب.
▪ و) الآثار الأصولية الجدلية في القرن ۴ه‍
خلال القرن الماضي، أثارت النظريات الأصولية لثلاثة من أصحاب النظر من المذاهب المختلفة  عيسى بن أبان من الحنفية وابن الراوندي من المعتزلة المتنحين، وداود إمام الظاهريين  موجة من الكتابات الجدلية في الأصول، حيث أدلى علماء ذوو نزعات متنوعة بدلوهم فيها. وبشكل خاص ينبغي أن نضيف أنه طوال القرن ۴ه‍ واصل مَن يشاطر داود من الظاهريين في الفكر هجماتهم على أصحاب القياس وكتابة ردود عليهم، يمكن أن نذكر من بينهم أبا سعيـد النهرباني وأبا الطيب ابـن الخلال وأبا إسحاق الرباعـي. وكان رأس حربة هجمات الظاهريين على استخدام القياس موجهاً بشكل مشترك إلى الحنفيين والشافعيين، وأدى هذا الأمر إلى تأليف كتب دفاعٍ من قبل علماء هذين المذهبين بوصفها ردّ فعل على ذلك.
و من بين مؤلفي كتب الدفاع في الأوساط الحنفية ينبغي أن نذكر علي بن موسى القمي الذي كان من أشهر فقهاء أصحاب الرأي في العراق؛ وبرغم أن ابن النديم عدّه من كتّاب النقض على الشافعي لدى حديثه عن مكانته الفقهية، لكن مؤلَّفه الأصولي الوحيد بعنوان إثبات القياس والاجتهاد وخبر الواحد، وخاصة بحثي الدفاع عن حجية القياس و عن أخبار الآحاد، كان له طابع نزاع مع داود.
و في الجناح الشافعي، ينبغي أن نذكر أبا بكر محمد بن إسحاق الكاشاني الذي كان يوماً من أبرز الفقهاء الظاهرية في المشرق، وعندما اتجه إلى المذهب الشافعي ألّف أثرين ردّاً على هجمات داود على حجية القياس هما: إثبات القياس والردّ على داود في إبطال القياس. كما ينبغي أن نذكر ابن المنذر الفقيه المستقل، لكن القريب من الشافعي في أوائل القرن ۴ه‍ بمكة الذي كان قد انتهج نفس الطريق في كتابه إثبات القياس.
وبرغم أن المالكية كانوا في ذلك القرن قد انضموا إلى جماعة كتّاب الأصول، و لم يكونوا في قبولهم مبدأ حجية القياس بعيدين عن مواقف الحنفية والشافعية، لكن ربما ولأن رأس حربة الهجمات لم‌ يكن موجهاً إليهم بشكل مباشر، أو لأي سبب آخر، لم يقحموا أنفسهم في هذه الموجة من كتابة المؤلفات الجدلية. ولما كان كتّاب الأصول المالكيون هؤلاء كانوا قد انبثقوا من بيئة العراق، فإن عدم اشتراكهم في هذه النقاشات لايمكن أن يُعدّ ناجماً عن بعدهم عن مركز النزاعات الأصولية.
یُتابع
المصدر: مرکز دائرة المعارف الإسلامیة الکبری