printlogo


printlogo


□  مقالة
الشعائر والعقلنة: قراءة وتصويب


الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
الهدف من هذا العنوان هو محاولة تصويبية يدعيها الكاتب وفق استقراء للحراك الفكري والمعرفي بين بعض النخب حول عاشوراء، جله تركز على موضوع الشعائر الحسينية ومصاديقها وآثار تلك المصاديق على الفرد والمجتمع وأهداف الثورة، ومدى قدرة هذا الطرح الشعائري بكل أشكاله منفردا على تحقيق الاصلاح والنهضة، بل حاجة الاصلاح والنهضة للخطابات والأدوات التي تدمج بين العقل والوجدان.
إحياء الذكريات والمناسبات التاريخية، لا يستهدف العودة إلى الماضي والتجمد عليه، أو استنساخ التاريخ لأن ذلك خلاف منطق التاريخ نفسه والسنن الحاكمة له، كما أن عجلة الحياة تمضي إلى الأمام وليس إلى الخلف، فالإحياء يحقق مجموعة أهداف:
1. التواصل مع التاريخ وتأكيد ارتباطنا به، وتأثرنا بمخرجاته، فهو جزء من هويتنا وامتدادنا، فبيننا وبينه نسبا بيولوجيا بل وروحيا وفكريا. وإذ كنا نؤكد هذا التواصل مع تاريخنا، فلأن ذلك يعزز هويتنا المستقلة وأصالتنا، ويحقق مفهوم الذات لدينا، بعيدا عن الانبهار بالآخر وحضارته الذي يصل عند البعض إلى نكران الذات والخجل بهويته وانتمائه.
2. إن في التاريخ الإسلامي محطات للحق والعدل، وصورا مشرقة مضيئة وقيما مطلقة، والقيمة ملك الزمن كله، لا تعرف حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا. فالحسن عليه السلام ليس ملك التاريخ، بل هو بثورته ونهضته وما تحمل من قيم ومنهج وأهداف ومبادئ، هو ملك الإنسانية كلها على امتدادها.
إن حاجتنا إلى هذا التاريخ هي حاجتنا إلى المثل الأعلى المتمثل بكل الشخصيات المعصومة من الأنبياء والأوصياء من دون أن يعني ذلك أن الأمة أصيبت بالعقم، وأنه ليس بإمكانها إنتاج مثل عليا من واقعها فتلجأ إلى الماضي، بل لأن مشكلة نكران الذات التي تحدثنا عنها، جعلت البعض يتنكر لرموزه التاريخية ويلجأ إلى استيراد مثل من الخارج، كما نلمح ذلك في سلوك الكثير من شباب المسلمين. على أن المعصوم يبقى المثل الأعلى الذي يحتذى به ويؤخذ منه لا يرد.
فالإحياء الأكثر جدوائية، هو ذلك الإحياء الذي يحول الذكرى إلى حركة تغيير وإصلاح بل إلى نهضة لكل الواقع وجعله على صورة صاحب الذكرى. فالشعائر هي ممارسات دينية وثقافية تعطي ولادة جديدة للحياة، فهي جزء من ثقافة الفرد وإيمانه.
إن مكونات أو عناصر شعائر العزاء كما يذكر محمد أمين محمدي هي عبارة عن مضامين ومحتويات العزاء، والرسوم الشكلية للعزاء (قوالب وأشمال الإحياء)، والأيام، والأماكن، والقائمين على تنسيقها والمشاركين فيها.
▪  ويضيف حول شرح هذه العناصر:
1. تشتمل مضامين ومحتويات العزاء على الوعظ والخطابة، والمصيبة والرثاء، وقراءة المقتل، ومتن الخطبة والشعر التمثيلي، والأدعية والزيارات. ويعتبر الثقل الديني لهذه الشعائر يكمن في ثنايا ومحتويات الكلمات والخطب.
2. تخضع المراسم الشكلية للعزاء للذوق الفني، ولاقدرة الرمزية، والبعد الثقافي والحضاري لمختلف الناس المقيمين لهذه المراسم، لذلك تتنوع المراسم. كاللطم على الصدور، والضرب بالسلاسل، وتمثيل الواقعة، وشج الرؤوس - التطبير، والعبور على النار وغير ذلك.
3. عنصر الزمان الذي يؤثر في إقامة هذه المراسم، فتتميز بعض الأيام بأهمية ومعنى خاصين في إقامة العزاء وتذكر الأحداث والوقائع العظيمة، لذلك تكتسب بعض الفترات الزمانية قدسية، وأهمها على الاطلاق الأيام العشرة الأولى من شهر محرم.
4. المكان الذي تقام فيه مراسم العزاء، لذلك تم تأسيس أماكن خاصة سميت ب”الحسينيات”، نظرا لأهمية العزاء ودور مراسمه المترعة بالمشاعر والعواطف.
5. يكتسب بعضهم في القيام بهذه المراسم دورا رسميا أو غير رسمي؛ وذلك جرّاء امتلاكهم لمعلومات حول الدين أو مهارات خاصة، ولكن الأهم في هذه المجموعة من الأفراد أنهم يجتمعون في إطار التشكل الديني - الاجتماعي، بحيث تكتسب مهاراتهم نوعا من القداسة، وبعد تأمين معيشتهم - والذي يعد من لوازم تقسيم العمل وكسب المهارات وتنفيذ الأدوار في النواحي الاجتماعية - عملا مقدسا يتم عن طريق الأموال الشرعية. وعنوان العزاء الأساسي الذي يتركز حول أصل واحد هو إظهار الحزن والبكاء والإبكاء على المصيبة العظمي التي ألمت بالإمام الحسين‌(ع)، وأهل بيته وأصحابه.
فالبعد الأبرز في شعائر عزاء الإمام الحسين‌(ع) هو البعد الثقافي والتاريخي، حيث لم تتحدث الروايات المعتبرة حول تعيين شكل خاص لإقامة العزاء، إلا أن تأكيدها جاء في الإشارة إلى فضيلة البكاء، والإبكاء، والتباكي، والحزن، وقراءة المراثي على مصيبة سيد الشهداء، وإلى ما يوجبه ذلك من الأجر والثواب الآخرويين”
وقد أفتى فقهاء الإمامية بناء على هذه الروايات، بفضيلة واستحباب العزاء، ولم يعينوا له شكلا خاصا. وأبرز أشكال العزاء التي وردت الإشارة إليه في الأخبار المأثورة هو قراءة الرثاء. وهذه التوصيات بهذا الشكل لا تعود لخصوصية له في الدين، بل هي ناظرة إلى عادة الناس في العزاء في ذلك الزمان، حيث كان أكثر المسلمين من العرب آنذاك، وجرت العادة عند العرب إنشاء الرثاء نثرا وشعرا عند فقد الأعزة.
وخرجت مراسم العزاء إلى الوجود بشكلها الرسمي وانتشارها بشكل واسع في القرون الأخيرة، خاصة في عصر كل من آل بويه، ومن ثم اتخذت أشكالا متنوعة وبشكل تدريجي ومن ثم انتشرت في إيران في العهدين الصفوي والقاجاري.
وقد اختلف فقهاء الإمامية في تجويز بعد مظاهر العزاء، أو تحريم مظاهر أخرى، لذلك يعتبر أن أصل العزاء- أي إظهار الحزن والبكاء والعويل على الإمام الحسين‌(ع) - بدون تحديد طريقة خاصة له، هو بحد ذاته من الأمور المطلوبة في الشريعة؛ ومن هنا فإن أشكال العزاء وطرقه المختلفة منشأه ذوق الناس وثقافتهم.
▪  ولكن ما أهمية وفائدة إقامة العزاء على الإمام الحسين‌(ع):
1. إقامة العزاء هي العنصر العاطفي في ارتباط الناس بالإمام الحسين‌(ع) وأهدافه.
2. ينتج عن إقامة العزاء تجمع ديني ثوري لا يوجب تثبيت إيمان الناس بالإسلام والتشيع فحسب، بل يؤدي كذلك إلى الرفع من مستواه، وبذلك سيبقى الإسلام مصوناً.
3. لإقامة مجلس العزاء أساس تنظيمي بسيط، لكنها تشتمل على نطاق ديني واسع يمكننا الاستفادة منه في سبيل إحداث ثورة دينية وشعبية ضد الظلم والطغيان.
4. من شأن إقامة العزاء أن تؤدي إلى انتقال ثقافة الشهادة من جيل إلى آخر في الوسط الإسلامي، أو سيكون بإمكانها التوفر على مثل هذه الوظيفة إذا ما كانت مصحوبة بالتعرف على الأهداف الكامنة من وراء نهضة الإمام الحسين‌(ع) وتضحيته.
هناك فرق بين الشعيرة، ووسائل إحياء الشعيرة، فالحسين‌(ع) كما الأنبياء ص شعيرة وعلم من أعلام دين الله، كما يوم استشهاده هو يوم من أيام الله، ولقد أمرنا الله تعالى في تعظيم شعائره: ” ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، والتعظيم له وسائله ومنها النياحة أو مواكب العزاء أو اللطم، فهذه وأمثالها من أساليب ووسائل تعظيم الشعيرة وليست هي الشعيرة عينها.
والشعيرة هي العلامة التي تذكر الإنسان بالله، فالشعائر علامات الله وأدلته، وهي تضم عناوين لأحكامه وتعاليمه العامة. وهي أعلام دينه ومتعبداته التي أشعرها لعباده، أي جعلها أعلاما لهم، ووفق المعجم الوسيط هي ما ندب الشرع إليه وأمر بالقيام به.
وقد ذكر القرآن بعض مصاديق الشعائر مثل “الصفا” و “المروة” و “ذبح الهدي في منى”، فإذا كانت هذه المناسك مقدسة ومن علامات الباري لمجرد انتسابها إليه وتعلقها به، فمن باب إولى أن يكون أولياء الله من مصاديق تلك الشعائر الإلهية، فإن شرف المؤمن أقدس عند الله من الكعبة المشرفة ذاتها.
▪  واختلف الفقهاء بين في كون الشعائر:
1. توقيفية: كما هي الأحكام الشرعية والعبادات، يجب أن يكون منصوص عليها بنص؛
2. غير توقيفية أي يمكن تكونها بعيدا عن عصر النص.
وذهب البعض إلى أن الاحتمال الثاني ضعيف، فلا دليل عليه، ولأن كون أمر من الأمور شعيرة وعلما من أعلام الدين، ليس موكولا إلى الناس، بل لا بد من التنصيص على شعائريته من قبل الله تعالى في كتابه المنزل أو عن طريق الروايات التي رواها الأنبياء والمعصومين‌(ع)، وفي القرآن لم تأت كلمة الشعيرة إلا وهي مضافة إلي الله تعالى، لذلك وجدنا السيد أبو القاسم الخوئي علي سبيل المثال، ذهب إلى نفي شعارية التطبير لعدم النص على الشعارية.
لذلك لا مفر كما ذهب أغلب العلماء إلا بالالتزام بتوقيفية الشعائر، حيث لا يمكن الحكم بشعائرية هذا العمل أو ذاك إلا إذا ورد النص بذلك، لكن هنا تواجهنا إشكالية الجمود على المضمون الوارد في النص، فلا يسمح تجاوزه والتصرف فيه زيادة أو نقصا.
وبالتالي يقتضي ذلك الجمود على وسائل الإحياء المنصوصة وعدم إمكانية تطويرها، فضلا عن استحداث وسائل جديدة. لذلك كيف يمكننا التوفيق بين المرونة التي يفترض أن تتسم بها المراسم ووسائل الإحياء، وهو الأمر الذي لا ينسجم مع توقيفها، وبين افتراض أنها شعائر كما هو مشهور على ألسنة الخاصة والعامة وكما نص على ذلك الفقهاء؟
المصدر: الاجتهاد
عناصر الاجتماع الديني الشيعي وظواهره الأساسية
  د. علي المؤمن
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
يتشكل المذهب الشيعي ومجتمعه من ستة عناصر أساسية:
1. العنصر العقدي: الأُصول النظرية للمذهب الشيعي، وهو موضوع علم الكلام الإسلامي الشيعي.
2. العنصر الفقهي: الفروع التطبيقية للمذهب الشيعي، وهو موضوع الفقه الإسلامي الشيعي.
3. العنصر السلوكي: سمات الشخصية الشيعية وقواعدها التربوية والأخلاقية، وهو موضوع علم الأخلاق الإسلامي الشيعي.
4. العنصر التاريخي: الكينونة التاريخية للمذهب الشيعي ومجتمعه، وهو موضوع تاريخ النظام الديني الاجتماعي الشيعي.
5. العنصر الطقوسي: العادات والتقاليد الاجتماعية المذهبية، وهو موضوع الميثولوجيا (mythology) الإسلامية الشيعية.
6. العنصر الاجتماعي: الهوية الاجتماعية المذهبية الشيعية المعبرة عن الانتماء المجتمعي الخاص، وهو موضوع علم الاجتماع الديني الشيعي.
هذه العناصر الستة تكمل بعضها، وهي قوام الشخصية المسلمة الشيعية المتكاملة في إيمانها العقدي النظري، والتزامها بالفروض، وتمسكها بالسلوك، وممارستها للطقوس، وانتمائها للتاريخ، وتفاعلها اجتماعياً. إلّا أنّ ما يعني علم الاجتماع الديني الشيعي هو عنصر الانتماء المجتمعي دون غيره من العناصر الأُخر، وإن استند إلى تحليل العناصر الخمسة الأُخر في فهم المجتمع الشيعي وخلفيات تكوينه ووعيه وقنوات التعبير لديه.
إنّ من المميزات الأساسية للاجتماع الديني الشيعي، استناده إلى قاعدة غيبية تتمثل في نيابة سلطة النظام الديني الاجتماعي الشيعي عن القائد الحقيقي الغائب، وهو الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر. صحيح أنّ المسلمين عموماً يعتقدون بعقيدة المهدي، وأنّ قائداً إسلامياً مصلحاً سيظهر في آخر الزمان لينشر العدل الإسلامي في كل الأرض، لكنّ الفرق الأساس بين الشيعة والسنة في هذا المضمار هو أنّ المعتقد المهدوي ليس له مدخلية تشريعية أو عملية في وجود المؤسسة الدينية السنية وفي السلوك الشرعي لأتباع المذاهب السنية. فضلاً عن أنّ المذاهب السنية لا تعتقد بأنّ المهدي شخص محدد بعينه. أي أنّ المهدي لدى المذاهب الإسلامية الأُخر مجرد وجود ميتافيزيقي مفتوح على التعريفات والمصاديق، ولا يؤثر غيابه في وجودهم وسلوكهم المذهبي الاجتماعي.
أمّا عند الشيعة؛ فإنّ المهدي المنتظر هو شخص محدد بعينة، له اسم ونسب وتاريخ معروف، وعنوان ديني محدد، ووجوده ليس مجرد عقيدة نظرية عامة لا تؤثر في الواقع الاجتماعي؛ بل هي عقيدة أساسية تستند إليها السلطة الدينية الاجتماعية المركزية في شرعية وجودها، وأنّ قسماً من الفقهاء الشيعة يجمدون العمل ببعض الأحكام ذات العلاقة بالسعي لإقامة الدولة الإسلامية وقيادتها، وذلك انتظاراً لعودة الإمام الغائب ليقوم بها بنفسه؛ لأنّهم يقولون: إنّ هذه الأحكام من اختصاصه فقط، وأنّ الخلاص من الظلم الطائفي مرهون بعودته. وعليه، يجب الانتظار وعدم ممارسة الثورة والنهضة والسياسة والمواجهة وإقامة الدولة الإسلامية؛ لأنّها من اختصاص الإمام الغائب المنتظر، برغم أنّ أحكام الدولة والنظام السياسي والثورة كلها موجودة في الفقه الشيعي.
أمّا القسم الآخر من الفقهاء الشيعة الذين يدعون إلى تطبيق هذه الأحكام ويمارسونها في زمن الغيبة؛ فإنّما يقومون بها نيابة عن الغائب المنتظر وتمهيداً لظهوره. أي أنّ ركيزة وعي المجتمع الشيعي بالمستقبل وشكله ومضمونه هو المهدي المنتظر، سواء كان أفراد هذا المجتمع من القسم الذي يؤمن بالانتظار السلبي للمهدي (تعطيل أحكام الفقه السياسي والدولة الإسلامية) أو من القسم الذي يؤمن بالانتظار الإيجابي (السعي لإقامة الدولة الإسلامية وتفعيل الفقه السياسي.)
ومن مميزات الاجتماع الديني الشيعي الأُخر أنّه اجتماع عالمي متماسك، وليس محلياً أو إقليمياً، وأنّ الأواصر المذهبية الاجتماعية المشتركة التي تشد وحداته المحلية ببعضها أو إلى المركز؛ هي أقوى بكثير من التباين اللغوي والقومي والوطني. ولا يرتبط هذا الموضوع بالبعد الوجداني والعاطفي التفاعلي وحسب، بل أنّه أعمق من ذلك بكثير. وهذا لا يلغي وجود التباينات في الإطار الأنثروبولوجي لكل وحدة محلية وقومية ولغوية ووطنية شيعية؛ لكن هذا التباين يضعف أمام الأواصر الأساسية التي تفرزها البنية العالمية المحكمة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
هذا المميزات التي تمثل خصوصيات الاجتماع الديني الشيعي؛ تستدعي الإشارة الى طبيعة الخلاف بينه وبين الاجتماعين الدينيين الشيعي والسني. يمكن القول أن هذا الخلاف تراكمي مركب: اجتماعي سياسي، بالدرجة الأساس، حاله حال أي خلاف بين مجتمعات المذاهب في الديانات الأخرى. وهذا لايعني عدم وجود خلاف في العنصرين العقدي والفقهي بين التشيع والتسنن، ولكن الخلاف العقدي الفقهي هو أقل تأثيراً في واقع المسلمين الاجتماعي، لأن كثيراً من المختلفين من الطرفين غير ملتزمين دينياً أساساً، ما یعني أنهم مختلفين طائفياً وليس مذهبياً. والخلاف الطائفي هو خلاف اجتماعي سياسي يرتبط بالمصالح والمفاسد الاجتماعية السياسية، وليس بالاختلاف في قراءة الدين. أما الخلاف المذهبي فهو خلاف عقدي فقهي، أي خلاف في قراءة الدين. وهنا يكمن الفرق بين الخلاف الطائفي والخلاف المذهبي.
كما أن الخلاف العقدي الفقهي موجود أيضاً بين المذاهب والفرق السنية أنفسها أيضاً، ولعله أشد في بعض المجالات من الخلاف بين المذاهب الشيعية والمذاهب السنية، كما هو الحال ــ مثلاً ــ بين الفرقة التيمية الحنبلية وامتدادها الوهابي من جهة، ومجتمعات المذاهب السنية الأخرى الرافضة للعقيدة التيمية الوهابية من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه نجد تطابقاً بنسبة 70 بالمائة في الأصول والفروع بين التشيع والتسنن.
والخلاف المذهبي (العقدي الفقهي) أقل تأثيراً ــ غالباً ــ في الإنقسام المجتمعي، على العكس من الخلاف الطائفي، الذي يفرز الاقصاء والتهميش والتمييز على أساس الهوية؛ فقد خلق الانقسام الطائفي الشيعي السني هويات طائفية في مضمونها ومذهبية في شكلها، تبعاً للمسارات التاريخية التراكمية المتعارضة واختلاف السلوكيات الاجتماعية السياسية، والتي تستثمر الخلافات العقدية الفقهية، لتضفي على تعارضاتها شرعية دينية متعالية.
وللتوصل إلى معالم علم الاجتماع الديني الشيعي؛ نتوقف عند الظواهر المتفرعة عن الظاهرة الكلية التي اصطلحنا عليها: «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، وهي ست ظواهر أساسية:
▪ 1 ـ ظاهرة السلطة الدينية الاجتماعية:
وهي قمة هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وتتمثل في المرجعية الدينية أو ولاية الفقيه. ولا نقصد بالسلطة هنا المؤسسة الدينية؛ لأنّ المؤسسة الدينية هي الجهاز العلمي الديني لسلطة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وليس السلطة نفسها. كما أنّ هذه السلطة هي التي تعطي الشرعية للمؤسسة الدينية؛ لأنّ سلطة المرجعية الدينية أو ولاية الفقيه بالمعنى الفقهي هي الأصل التشريعي لوجود النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وبدونها لا توجد مؤسسة دينية ولا نظام اجتماعي شيعي. وهذا هو الاختلاف الأساس بين المؤسسة الدينية الشيعية وغيرها من المؤسسات الدينية الأُخر، سواء السنية أو غير الإسلامية. ففي المؤسسات الدينية الأُخر تكون المرجعية الدينية جزءاً من المؤسسة الدينية؛ وإن كانت إدارياً وتراتبياً على رأسها. وهذه المؤسسة هي التي تعطي الشرعية الدينية للمرجعية الدينية، وتختارها وتضعها على رأسها. أمّا في النظام الاجتماعي الديني الشيعي فإنّ العكس هو الصحيح؛ إذ إنّ إنشاء المؤسسة الدينية الشيعية وإدارتها والولاية عليها هي إحدى وظائف السلطة الدينية.
وللتعرف على طبيعة شرعية السلطة الدينية الاجتماعية الشيعية؛ سنقارنها بالأنماط الأربعة الأساسية للسلطة الاجتماعية الدينية في الأديان المعروفة، وهي:
أ ـ النمط الثيوقراطي الذي يعبر عن التفويض الإلهي لصاحب السلطة.
ب ـ النمط الانتخابي الذي تفرز جماعة المتدينين سلطة قائدها أو رئيسها.
ت ـ النمط الكارزمي الذي يؤمن الأتباع بشخصية صاحب السلطة، نتيجة وجود قدرات خارقة لديه.
ث ـ النمط التقليدي الذي يستند إلى مضامين دينية مقدسة.
ومن خلال هذه الأنماط، نفهم أنّ السلطة الدينية الاجتماعية الشيعية هي من النمط الرابع؛ كونها تستند في شرعيتها إلى مضامين دينية مقدسة تتمثل بأحاديث رسول الإسلام والأئمة من آله. وهي بذلك لا تمثل سلطة ثيوقراطية مقدسة مفوضة من الله، ولا سلطة منتخبة من عموم الشيعة، ولا سلطة كارزمية تفرض نفسها من خلال مواهبها الشخصية؛ بل سلطة تستند إلى تأصيل تشريعي.
▪ 2. ظاهرة المؤسسة الدينية العلمية:
وتتمثل في الحوزة العلمية والمؤسسات العلمية الدينية التابعة. ويقف المرجع الديني على رأس هذه المؤسسة ويمنحها الشرعية. ولهذه المؤسسة هيكلية مؤسساتية وتراتبية علمية وأجزاء متفرعة، منها: المقنن كالمدارس والجامعات والمراكز والمكاتب والوكلاء والمعتمدين، ومنها: غير المقنن كالحواشي وجماعات الضغط.
▪ 3. الظاهرة الشعائرية والوجدانية والطقسية:
وتتمثل في المساجد ومراقد آل البيت والحسينيات وأمثالها. وتكون غالباً محاور اجتذاب الجمهور الشيعي وتجمعه، ومراكز إقامة الشعائر والطقوس الدينية والتقاليدية المجتمعية.
▪ 4 ـ ظاهرة المال الشرعي:
وتتمثل في المؤسسات المالية والاقتصادية الداخلية، ومصادرها. وهي مؤسسات تعمل في إطار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وتمثل الحماية المادية واللوجستية له، والمعبر عن جزء من سياقات عمل النظام وحراكه الداخلي. وهذه الظاهرة هي أساس استقلال سلطة النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسة الدينية عن الدولة ومؤسساتها ونفوذها وتأثيراتها السياسية؛ لأنّها تعتمد بالكامل على ما يدفعه المؤمنون من حقوق شرعية وتبرعات وهبات ووقفيات.
▪ 5 ـ ظاهرة المؤسسات الداعمة:
وهي المؤسسات والجماعات والشخصيات السياسية والعسكرية والإعلامية والثقافية، وتمثل بمجموعها الحماية الميدانية للنظامالاجتماعي الديني الشيعي.
▪ 6 . ظاهرة القاعدة الاجتماعية:
وتتمثل في عموم الشيعة؛ سواء الملتزمين دينياً أو غير الملتزمين.
وما يميز الاجتماع الديني الشيعي أيضاً؛ تفوق الانتماءات السوسيولوجية والتاريخية والطقسية لدى القاعدة الاجتماعية على الانتماءات العقدية والفرائضية. فهناك ـ مثلاً ـ عقديون ومتفقهون ومتعبدون شيعة؛ لكنهم معارضون للخط العام للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، والذي تمثله السلطة الدينية العليا، وفي المقابل هناك من لا يلتزم بالضوابط العقدية والممارسات الشعائرية، لكنه مندك في الخط العام للنظام الديني الاجتماعي الشيعي، ويعبر سلوكه العام عن الطاعة لسلطة النظام الدينية. وحيال المقارنة بين النموذجين؛ نجد العقل الاجتماعي الشيعي يُعدّ النموذج الأول خارجاً عن الصف الشيعي، والنموذج الثاني شيعياً أصلياً. وهنا يستحضر الوعي المذهبي الشيعي، الفرق بين ظاهرة الخوارج العقديين المتعبدين الذين كانوا جزءاً من النظام الديني السياسي العسكري الذي يقوده الإمام علي؛ لكنهم خرجوا عليه وحاربوه، وبين ظاهرة الثابتين من الموالين لعلي بن أبي طالب، وإن كانوا أقل اندكاكاً بالشعائر وممارسةً للفروض. وهذا ما يكشف عن أنّ الانتماء الواقعي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ليس انتماءَ عقدياً وفقهياً وحسب، بل هو أيضاً الولاء الاجتماعي السياسي الذي يتفوق في تأثيره الميداني المفصلي وفي وعيه بحقيقة الانتماء.
ولا أزعم أنّ التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي بات أمراً منجزاً أو سينجز بسهولة من خلال هذه الدراسة المقتضبة؛ بل إنّ ما نقوم به مجرد محاولة في طريق التأسيس، متمنياً أن تساهم جهود المتخصصين في إنجاز المهمة واستكمالها.                               
المصدر: صوت العراق