□ مقال
القصيدة الحسينية في مواجهة الشمولية الاستهلاكية
كيف يمكن أن تساهم القصيدة الحسينية في التوعية الفكرية وإحداث التغيير الاجتماعي؟
يعد الشعر تاريخيا ولا يزال ليس في العراق فقط وإنما في كل الثقافات والحضارات قوة مؤثرة جدا في بناء السلوكيات الاجتماعية، لأنه يعطي وزنا معينا وقافية معينة تصل إلى الذهن وتؤثر بسرعة على المتلقي.
فكيف إذا كان الشعر عاطفيا وجدانيا، يعبر عن قضية فيها الكثير من الظلم، ويعبر عن مصيبة وعن حزن وألم عظيم، لذلك كان الشعر والقصيدة الحسينية هي أكبر مؤثر في عملية بناء النسيج الاجتماعي، على مر التاريخ، حتى الحكام رأوا في هذا الأمر قوة لهذا المجتمع فدعم بعض الحكام العقلاء هذه القضية، وأكثر الطغاة حاربوها بشدة. ونلاحظ ذلك في المجتمع العراقي وتأثره الواضح بالشعر والقصيدة الحسينية، وذلك أنه يعبر بعمق عن وجدان المجتمع وإحساسه بالظلم الموجود في افراده.
كان الشعر الحسيني والقصيدة الحسينية تستنهض الشعب والمجتمع ضد الظالم، فكانت عملية بناء فكري مستمرة وعملية بناء التزام اجتماعي تؤدي الى التماسك والوحدة الاجتماعية، بالنتيجة أدى ذلك إلى أن يتمكن المجتمع العراقي من أن يواجه الظالمين عن طريق القضية الحسينية، وخصوصا من خلال الشعر الحسيني والشعائر الحسينية.
ولكن بعد أن دخلنا زمنا جديدا، وأُزيلت تقريبا كثير من الموانع التي كانت موجودة في السابق، دخلنا في زمن الحداثة التكنولوجية وعالم الاستهلاك، فتغيرت بعض التوجهات في التعامل مع القصيدة الحسينية ومع الشعر الحسيني، فعالم الاستهلاك خطير لأنه يبتلع كل شيء ويلونها بأساليبه، يأخذ المبادئ والقيم والمُثُل ويحيكها بطريقته الخاصة، يقلبها عالم الاستهلاك فيفرغ تلك المثل والقيم من محتواها العميق، ويجعلها مجرد حالة سطحية.
ولكن الشعر الحسيني على طول التاريخ كان يعبر عن كفاح الإنسان ونضاله، ومقاومة الإنسان وصبره في مواجهة السجون والتعذيب والقمع والمطاردة والتهجير، وكان الشعر الحسيني دائما يغذي الإنسان بالأمل، بالتفاؤل والمحبة والعطاء والاستمرار، الآن ومع دخولنا العالم الاستهلاكي لاحظنا ظهور أشياء جديدة، تغيرت الملابس، وتغيرت الأشكال وتغيرت الكلمات وتغيرت السلوكيات، وأصبح العالم كما يضع في انطباعاتنا أكثر سطحية عما كان في السابق.
وهذا يحتاج في رأيي إلى دراسة وقراءة معمقة للوقوف أمام هذه الحالة الاستهلاكية قد تخرج القصيدة الحسينية من محتواها الاصيل.
التفريغ العاطفي المجرد
من الإشكالات التي تواجهها القصيدة في زمن الاستهلاك، التفريغ العاطفي المجرد عن السلوك، وحتى الشعر يحاول التأثير العاطفي بدون أي معنى مجرد إحداث تأثير عاطفي من دون أن تكون هناك موعظة فكرية أو توجيه أخلاقي أو سواها، نلاحظ كذلك استخدام مفردات العنف الاجتماعي أكثر في الشعر والقصيدة، كذلك نلاحظ أن الشاعر أو الرادود يجعل من القصيدة معبرة عن العرف فقط، دون الاستلهام من الخطاب الحسيني الذي يوجد فيه الكثير من الأفكار والتوجيهات والمواعظ القيّمة لبناء المسؤولية الاجتماعية، وترسيخ الحرية والتخلص من الذل والاستعباد، وبناء الالتزام الاجتماعي والتمسك بالدين والإسلام الحقيقي.
▪ التأثير في التغيير الاجتماعي
وتسهم القصيدة الحسينية في التغيير الاجتماعي من خلال:
أولا: لابد أن ينبثق الشاعر من داخل حركة فكرية ثقافية اصيلة، فالثقافة الغالبة ثقافة العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، التي أثرت كثيرا على تفكير الناس واغرقتهم في عالم الاستهلاك، وفي مواجهة الغزو الثقافي يحتاج الشعر إلى حركة فكرية اصيلة تملك تأثيرا اكبر على الناس، بحيث يؤثر فيهم حاليا كما اثر في السابق، لذلك لابد أن يستخدم الشعر الحسيني في عملية البناء الاجتماعي، في قضية الكفاح ومواجهة الظلم، سابقا كان هناك إحساس بالظلم وإحساس بالقهر والكبت والقمع، فكان الإنسان مناضلا ومكافحا من أجل القضية الحسينية وكان الانتماء لها عميقا.
فالأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تعاقبت على حكم العراق عملت على مسخ هوية الفرد وسلب هويته وجعله تابعا للحاكم المطلق ذليلا له، ولكن القضية الحسينية وقفت في مواجهة هذه الشمولية، وفي مواجهة هذا المسخ، ولكن اليوم هنالك شمولية من نوع آخر وهي شمولية الاستهلاك، التي تحاول أن تمتص الزخم الاخلاقي وتدمر القيم الفطرية ودون أن نشعر بذلك، لذلك لابد للشعراء والمثقفين أن ينتبهوا إلى عملية البناء بحيث يكون للشعر الحسيني مدلولاته السليمة في تشكيل السلوكيات الصالحة، وبناء الثقافة العميقة في الإنسان.
ثانيا: المطلوب من القصيدة الحسينية هو الاستخدام العاطفي المرتبط بالموعظة، وتوجيه الناس للابتعاد عن المال الحرام، والسرقة والخيانة والرشوة والفساد، فالشاعر أو الرادود لابد أن تكون عنده رسالة من خلال عملية استخدام العاطفة بقوة من أجل بناء السلوك النزيه، الطهارة، والنزاهة والنظافة في السلوك الاجتماعي.
ثالثا: من وظائف الشعر والقصيدة الحسينية بناء وترسيخ الانتماء الثقافي للنهضة الحسينية، وليس مجرد انتماء شكليا، بل لابد ان يكون انتماء ثقافيا بعقائده وأفكاره وأخلاقياته وسلوكياته.
رابعا: تعزيز روح الاحترام للنظام الاجتماعي، وهي مسألة غائبة في مجتمعاتنا، فنحن نعيش الفوضى، والسبب بوجود الفوضى أن الانفتاح الكبير الذي حدث لم يحصل فيه توجيه للفكر وبناء تراكمي للسلوك والثقافة، فالقصيدة الحسينية تستطيع أن تقوم بعملية تعزيز روح النظام والالتزام والانضباط الاجتماعي وتحمل الفرد لمسؤولياته.
خامسا: من اهداف القصيدة الحسينية هو التغيير الأخلاقي، فكيف يكون منتميا للامام الحسين(ع) وهناك أخلاقيات يمارسها قد تشكل نقيضا لمنهجه ومنهج أهل البيت(ع)، فلابد للقصيدة أن تعزز التغيير الأخلاقي، حين كنت صغيرا أتذكر أنني كنت أحضر مجالس (الرادود المرحوم حمزة الزغير)، فتلك القصائد رسخت في داخلنا عمقا ثقافيا في الولاء والانتماء والهوية، ومع طول السنين في المهجر والمشكلات الأخرى بقيَ هذا الانتماء راسخا لأن تلك القصائد الحسينية عززت فينا هذا الانتماء والمشاعر الاصيلة بالهوية.
سادسا: كذلك استخدام العاطفة في القصيدة الحسينية لتعزيز عملية التوبة والاستغفار ومحاسبة الذات، وتنبيه النفس وإحداث التغيير الذاتي بشكل عام، والذي سيؤدي الى التغيير الثقافي والاجتماعي ونهضة الامة.
وأخيرا، يتم ذلك من خلال وجود منهجية وبرنامج مستدام عبر ندوات ودورات وحوارات على مدار السنة، تغذي الشعراء والرواديد بالفكر والخطاب الحسيني، فبعض القصائد التي يتم طرحها قد يوجد في بعضها خروج عن الموازين الشرعية والعقائدية، حيث المد الاستهلاكي المفرط يؤدي الى الخروج عن الأسس العقائدية، وبعضها يذهب إلى الغلوّ والتطرف والتركيز على العاطفة المجردة التي قد لا يوجد فيها معنى، فالعاطفة الحقيقية هي العاطفة الممزوجة بالعقيدة الصحيحة والالتزام السلوكي والأخلاقي والثقافي المسؤول.
٭ مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (دور القصيدة الحسينية في بناء المسؤولية الاجتماعية)
المصدر: شبکة النبأ المعلوماتیة