printlogo


printlogo


□ مقالة
دور التقوى في حل مشاكل المجتمع


[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ] [الطلاق: 2، 3].
▪ المشاكل
من السنن الطبيعية في الكون ظهور المشاكل في حياة الإنسان ولا يخلو منها مجتمع من المجتمعات.
▪ فعلى الصعيد الفردي
إن أكثرية أفراد بني البشر يبتلون بمختلف المشاكل مثل الأمراض والفقر والعدوان والظلم ويمكن لكل فرد أن يسرد قائمة بمشاكله الفردية والتي يحاول طيلة حياته أن يتطلع إلى حلها، ولكن الكثير منها يعجز عن حلها، ولا يتركها إلا عن عجز، فضلاً عن الآمال والتطلعات التي يتمناها لمستقبل حياته.
▪ وعلى الصعيد الاجتماعي
لا تقل مشاكل المجتمع عن مشاكل الأفراد إن لم تفوقها كماً وكيفاً وتكون مستعصية عليه، فهناك المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية وهناك المشاكل التي تكبل بها كثير من المجتمعات مثل الديكتاتورية ومصادرة الحريات والكرامات وهناك بعض الأمراض التي تفتك بالمجتمع وهو يقف مكتوف الأيدي أمامها، ويعجز عن الوصول إلى علاج لها، وهناك الكثير والكثير.
إن المجتمع بأفراده وزرافاته وطبقاته يسعى لحل مشاكله، وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال الأسباب الطبيعية والاعتيادية لكل مشكلة، بل يلزم الأخذ بها واستعمالها بشكل يضمن له حل مشاكله، ولكن عندما تستنفذ تلك الأسباب والوسائل أو يستعصي على الإنسان استعمالها بالشكل المطلوب يأتي دور العامل الغيبي والعامل الإلهي.. عامل التقوى ليثبت للعالم اجمع أن الله هو القادر على كل شيء، وليس هناك تعارض أو تنافي بين استعمال الأسباب الطبيعية وعامل التقوى.
▪ الأسباب كلها بيد الله ما
مع الالتفات إلى أن الأسباب كلها بيد الله سبحانه وراجعة إليه، فهو مسبب الأسباب والأمور صغيرها وكبيرها، حقيرها وخطيرها، وأنها ملك له وهو على كل شيء قدير: [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] [آل عمران: 154].
▪ دور التقوى
فعندما تنفذ قوة الإنسان وقدراته وإمكانياته ويصل في حل المشكلة إلى طريق مسدود ويسلم أمره إلى الله، هنا تبرز أهمية التقوى في حل مشاكل الأفراد والمجتمعات بشكل أن الذي يتصف بهذه الصفة لا يتردد في أن عامل التقوى قد تدخل في حل مشكلته بعد أن عجز هو عن حلها.
▪ اثر التقوى
إن نصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تشرح لنا أثر التقوى في حل مشاكل الفرد والمجتمع بشكل واضح بل والواقع العملي لما يشاهد من المتقين يثبت ذلك، وإليك في هذه العجالة بعض الآثار للتقوى:
1ـ الانفراج للأمور
عندما تتضايق الأمور ويصبح الإنسان في شدة ويكون لا منجى ولا ملجأ له إلا إلى الله سبحانه هنا يأتي الانفراج للمتقي: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] [الطلاق: 2]، وهذا كما يكون للفرد كذلك يكون للمجتمع والآية وإن وردت في مورد خاص وهي حادثة الطلاق إلا أن المورد لا يخصص الوارد.
ومن كلام لأمير المؤمنين(ع) لأبي ذر لما أخرج إلى الربذة قال:
يَا أَبَا ذَرُ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاترُكَ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَاهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إلى مَا مَنَعْتَهُمْ وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ، وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَالأكْثَرُ حُسداً، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ كَانَتا عَلَى عَبْدِ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً، لَا يُونِسَنكَ إِلَّا الْحَقُّ وَلَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لأَحَبُّوكَ وَلَوْ قرَضْتَ مِنْهَا لَأَمْنُوك.
وبشكل من التفصيل روى الكليني بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ التميمي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرِ الْخَثعَمِيُّ، قَالَ:
قَالَ: لَمَّا سَيْرَ عُثْمَانُ أَبَا ذَرِّ إلى الرَّبَذةِ، شَيعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَقِيلٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ(ع)، وَعَمَّارُ بْنُ بَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْوَدَاعِ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): يَا أَبَا ذَرُ، إِنَّكَ إِنَّمَا غَضِبْتَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَأَرْحَلُوكَ عَنِ الْفِنَاءِ، وَامْتَحَنُوكَ بِالْبَلَاءِ، وَوَاللَّهِ لَوْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلى عَبْدِ َرتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، جَعَلَ لَهُ منْهَا مَخْرَجاً، فَلَا يُؤْنسْكَ إِلا الْحَقُّ، وَلَا يُوحِشْكَ إِلَّا الْبَاطِلُ.
قال بعض شراح الحديث قوله: (فأرحلوك عن الفناء) يدل عليه فناء الدار بالكسر ما اتسع من أمامها ولعل المراد به فناء الروضة المقدسة.
وقوله(ع) (إنما غضبت لله) دليل على أن إنكاره بما كان ينكره إنما يقصد به وجه الله تعالى.
وقوله (إن القوم خافوك على دنياهم) يعني خافوك على أمر الخلافة بتنفيرك عنهم (وخفتهم على دينك) بترك موافقتهم والمماشاة معهم وأخذ العطاء منهم. ....
وقوله (ولو كانت السماوات والأرض إلى آخره)، بشارة له بخلاصه مما هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج وشرطه في ذلك تقوى الله إشارة إلى قوله تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] [الطلاق:2]، الآية، ونقل عن ابن عباس أنه قال قرأ رسول الله(ص) [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] [الطلاق: 2]، قال من شبهات الدنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ومن البين عقلاً ونقلاً أن التقوى عند استشعارها سبب قاطع لطمع المتقي من الدنيا وقنياتها وهو مستلزم لراحته من مجاذبة النفس الأمارة بالسوء والوقوع في شبهات الدنيا وهي في استلزامه الخلاص من غمرات الموت وشدائد يوم القيامة أظهر. وكنى(ع) بالغاية وهي رتق السماوات والأرض على العبد عن غاية الشدة مبالغة لبيان فضل التقوى ثم أمره بالاستئناس بالحق وحده والاستيحاش من الباطل وحده بقوله (فلا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل) (لا) إما للنفي أو للمنهي والوحشة الهم والخلوة والخوف ضد الأنس.
وقَالَ النَّبِيُّ(ص): لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا عَلَى عَبْدِ ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَا فَرَجاً وَمَخْرَجاً.
2. تسهيل الرزق
كثيراً ما يمر الإنسان بضائقة مادية سواء كان على المستوى الفردي أو الاجتماعي وحين يستنفد وسائله الاعتيادية ويمر بالامتحان هنا يأتي دور التقوى في حلّ مشكلته: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ٭ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] [الطلاق: 2، 3].
3. اليسر بعد العسر
الإنسان يمر بين الحين والآخر بهزات في حياته تصقله وتربيه وقد تكون حالة العسر التي يمر بها الإنسان هي إحدى تلك الهزات ويسعى الإنسان أن يتخلص من تلك الحالة التي هو فيها وهنا يأتي دور التقوى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ] [الطلاق: 4].
ولا يجوز بحال أن تكون عند الإنسان حالة اليأس بل: [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا] [الطلاق: 7].
4. التقوى تكفر السيئات
الإنسان عندما يغفل عن مصالحه الحقيقة فيتمادى في بعض الذنوب والتقصيرات نحو خالقه ربما يصل إلى الهاوية السحيقة ولكن عندما يرجع إلى نفسه ومصلحتها ويرجع إلى خالقه ويتقه حينئذ تتبدل تلك الحالة: [ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا] [الطلاق: 5].
5ـ القوة على الأعداء
الإنسان ضعيف ولكن إذا اتصل بالله كان قوياً، إن المتقي يكون عنده من القوة على الأعداء والإقدام أمامهم ما لا يكون عند غيره، فعن النبي(ص) أنه قال: (من أتقى الله عاش قوياً وسار في بلاد عدوه آمناً).
6 . التقوى تنجي من الشبهات
7. التقوى تخفف سكرات الموت
8. التقوى تخفف شدائد الآخرة
جاء في مجمع البيان روي عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله(ص): [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] [الطلاق: 2]، قال: من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة.
9- التقوى تفرج الهم
فقد روي عن أمير المؤمنين(ع): من اتقى الله سبحانه جعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً.
10ـ التقوى علاج للأمراض النفسية
لقد شاع في وقتنا الحالي الأمراض النفسية بسبب المشاكل الاجتماعية وقد استعصى علاجها ولكن التقوى هو علاجها الناجع.
11- التقوى علاج للأمراض الجسدية
12- التقوى حصن منيع عن الانحرافات العقائدية
13- التقوى علاج للانحراف الأخلاقي
14- التقوى أمان من الخوف
15- التقوى تبعد عن الشدائد
16- التقوى تليق الإنسان حلاوة الحياة
17- التقوى تخفف التعب والنصب.
هذه الآثار العديدة قد أشار إليها أمير المؤمنين(ع) في -نهج البلاغة - بقوله: (فَإِن تَقْوَى اللَّهِ دَوَاء دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وَبَصَرُ عَلَى أَفْئِدَتِكُمْ، وَشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَصَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ، وطهور دنس انفسكُمْ، وجلاء غشَاءِ أَبْصَارِكُمْ، وَأَمْنُ فَزعِ جَأشكُمْ وَضِيَاءُ سَوَاد ظُلْمَتِكُمْ فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ شِعاراً دُونَ دثارِكُمْ وَدَخيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ ولطيفاً بَيْنَ أَضْلاعكُمْ وَأَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ، وَمَنْهَلا لِحِينِ وُرُودِكُمْ، وَشَفيعاً لِدَرْكِ طَلِبَتِكُمْ، وَجُنَّةٌ لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ، وَمَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ وَسَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ، وَنَفَساً لِكُرَبِ مَوَاطِنِكُمْ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ حِرْزَ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنفَةٍ، وَمَخَاوِفَ مُتَوَقعَةٍ وَأَوَارِ نِيرَانِ مُوقَدَةٍ.
فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوهَا، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصَّعَابُ بَعْدَ إِنْصابِهَا، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحوطِهَا، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النَّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا، وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرذَاذِهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ، وَوَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ، فَعَبْدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَنْ طَاعَتِه.
التقوى التي جمعت سعادة الدنيا والآخرة وحلت له المشاكل وأبعدت عنه الشدائد وأذاقته حلاوة الحياة بعد مرارتها وفتحت له أبواب الخيرات حتى قرب من المولى سبحانه وسهلت له الصعاب وأعزته بعد ذلته وقوته بعد ضعفه ونصرته بعد خذلانه وفرجت له بعد همّه وغمّه وكربه وأنزلت عليه الرحمة بعد غيابها عنه.
ثم إن الشيخ ميثم البحراني (636 هـ - 699 هـ) علق على هذه الخطبة تعليقة رشيقة ودقيقة وشرح بعض ألفاظها أحبينا نقلها للفائدة فقال:
ثم أكد الوصية بطاعة الله تعالى بآداب:
أحدها: أن يجعلوها شعارهم:
وكنى بذلك عن ملازمتهم لها كما يلزم الشعار الجسد. ثم عن كونها في الباطن دون الظاهر لقلة فأيدته وهو المشار إليه بقوله. دون دثاركم.
الثاني: أكد أمرهم بإبطانهم:
بأمرهم باتخاذها دخيلاً تحت الشعار لإمكان ذلك فيها دون الشعار المحسوس ثم فسر ذلك فقال: ولطيفاً بين اضلاعكم. وكنى بلطفها عن اعتقادها وعقليتها ويكون بين أضلاعهم عن إيداعها القلوب.
الثالث: أن يجعلوها أميراً:
واستعار لها لفظ الأمير باعتبار إكرامهم لها وتقديمها على سائر مهماتهم.
الرابع: أن يجعلوها منهلاً لحين ورودهم:
أي يوم القيامة، واستعار لفظ المنهل لها، ووجه المشابهة أن التقوى والطاعة لله مظنة التروي من شراب الأبرار يوم القيامة كما أن موارد الإبل مظنة ربها.
الخامس: أن يجعلوها شفيعاً إلى الله ووسيلة إلى مطالبهم منه:
وظاهر كون المطيع يستعد بطاعته لدرك بغيته من الله تعالى، ولفظ الشفيع مستعار للوسيلة والقربة.
السادس: وجنة ليوم فزعهم:
وظاهر كون الطاعة ساتراً يوم القيامة من الفزع الأكبر من عذاب الله.
السابع: ومصابيح لبطون قبورهم:
وقد عرفت كيفية إعداد الطاعة لقبول الأنفس الأنوار العلوية والأسرار الإلهية المخلصة من ظلمة القبور والعذاب الأخروي. وفي الخبر: أن العمل الصالح يضيء قبر صاحبه كما يضيء المصباح الظلمة واستعار لها لفظ المصابيح لاستلزامها الإنارة.
الثامن: وكذلك سكناً لطول الوحشة في القبور تستأنس به النفوس:
كما روي أن العمل الصالح والخلق الفاضل يراه صاحبه بعد الموت في صورة شاب حسن الصورة والثياب طيب الريح فيسلم عليه فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا خلقك الحسن أو عملك الحسن. وحاصله يعود إلى كون الطاعة سبباً للاستئناس من وحشة الآخرة، وذلك أن الوحشة إنما تعرض في المكان لمن كان غافلاً عنه وغير متوقع له ولا متهيئ للانتقال إليه ومطمئناً بوطنه الأول وبأهله وجاعلهم كل الأنس.
فأما أهل الطاعة فإنهم أبداً متفكرون فيما ينتقلون إليه ومتذكرون له واثقون بأنس ربهم وملتفتون إليه. فأنسهم أبداً به وفرحهم دائماً بلقائه، واعتقادهم في الدنيا: أنهم لأهلها بأبدانهم مجاورون فمنهم يهربون وإلى العزلة ينقطعون. فبالحري أن لا تعرض لهم وحشة وأن تكون أعمالهم سبباً لعدم الوحشة التي عساها تعرض لهم، ولما كان الإنسان في الدنيا لا يتصور ما بعد الموت بالحقيقة لا جرم لا بد له من وحشة ما إلا أن الأنوار الإلهية والأنس بالرفيق الأعلى مزيل لها.
التاسع: وكذلك ونفساً لكرب مواطنكم:
أي سعة وروحاً لما يعرض من كرب منازل الآخرة وأهوالها.
العاشر: كونها حرزاً من متالف مكتنفة:
وتلك المتالف هي الرذائل الموبقة التي هي محال الهلاك والتلف. واكتنافها إحاطتها بالنفس بحيث لا يكفّها إلا طاعة الله وسلوك سبيله والمخاوف المتوقعة مخاوف الآخرة وحر نيرانها.
الحادي عشر: كون التقوى مستلزمة لبعد الشدائد عن المتقي بعد دنوها منه:
وكثيراً ما يعبر بالتقوى عن الطاعة وإن كانت أخص في بعض المواضع. اما في بعد شدائد الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فلان المتقين هم أسلم الناس من شرور الناس لبعدهم عن مخالطاتهم ومجاذباتهم لمتاع الدنيا، وبغضهم لها. إذ كانت محبتها والحرص عليها منبعاً لجميع الشرور والشدائد.
الثاني عشر: كونها مستلزمة لحلاوة الأمور بعد مرارتها:
 أما أمور الآخرة فكالتكليف الوارد عليهم لها بالعبادات، وظاهر أنها عند المتقين أحلى وألذ من كلّ شيء بعد مرارتها في ذوقهم في مبدأ سلوكهم وثقلها عليهم وعلى غيرهم من الجاهلين، وأما المر من أمور الدنيا فكالفقر والعرى والجوع وكلّ ذلك شعار المتقين، وهو أحلى في نفوسهم وآثر من كل شعار وإن كان مراً في ذوقهم في مبدأ السلوك وقبل وصولهم إلى ثمرات التقوى.
الثالث عشر: وانفراج الأمواج عنه بعد تراكمها:
 واستعار لفظ الأمواج للهيئات البدنية الرديئة وملكات السوء التي إذا تكاثفت وتوالت على النفس أغرقتها في بحار عذاب الله وظاهر كون لزوم التقوى سبباً ينفرج باستعداد النفوس به عنها تلك الهيئات وينمحي من لوحها وإن كثرت.
الرابع عشر: كون لزومها سبباً لتسهيل صعاب الأمور على النفس بعد إتعابها لها.
وذلك أن المتقين عند ملاحظة غايتهم من نفوسهم يسهل عليهم كل صعب من أمور الدنيا مما يشتد على غيرهم كالفقر والمرض وكل شديد. وكذلك يسهل عليهم كل صعب من مطالب الآخرة بعد إتعاب تلك المطالب لهم قبل تصوّرها التام في أول التكليف.
الخامس عشر: كونه سبباً لهطل الكرامة عليهم:
والكرامة تعود إلى الكمالات النفسانية الباقية والالتذاذ بها ولاحظ في إفاضتها عليهم مشابهتها بالغيث فاستعار لها لفظ الهطل وأسنده إليها وكذلك لفظ القحوط، وكنى به عن منعهم إياها قبل استعدادهم بالتقوى لها.
السادس عشر: كونه سبباً لتعطف الرحمة الإلهية بإفاضة الكمالات عليهم بعد نفورها عنهم:
لعدم الاستعداد أيضا ولفظ التحدب مستعار للإرادة أو لأثر الرحمة، وكذلك لفظ النفور لعدم أثرها في حقهم قبل ذلك.
السابع عشر: كونه سبباً لتفجر النعم بعد نضوبها.
ولفظ التفجر مستعار لانتشار وجوه إفاضات النعم الدنيوية والأخروية كما قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ٭ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] [الطلاق: 2، 3]، وكذلك لفظ النضوب لعدمها قبل الاستعداد لها ملاحظة لشبه النعم بالماء في الاستعارتين.
 الثامن عشر: كونه سبباً لوابل البركة بعد رذاذها:
ولفظ الوابل مستعار للفيض الكثير من البركة بعد الاستعداد بالتقوى، ولفظ الرذاذ للقليل قبل ذلك الاستعداد ملاحظة لشبهها بالغيث أيضاً، وظاهر كون التقوى سبباً لمزيد الفيض على كل من كان له بعض الكمالات كمن يستعد بالعلوم دون الزهد والعبادة ثم يسلك بهما.
ثم بعد الفراغ من فضائلها والترغيب فيها من تلك الجهة أعاد الأمر بها ورغب فيها باعتبارات أخر من إنعام المنعم، وهي كونه تعالى نافعاً لهم بموعظته أي جاذباً لهم إلى جنته، مرغباً لهم في كرامته وواعظاً لهم برسالته إليهم، وممتناً عليهم بنعمته كقوله تعالى: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] [البقرة: 231]، في غير موضع من كتابه. ثم أمرهم بتعبيد أنفسهم وتذليلها لعبادته والخروج إليه من حقه الذي يطلبه منهم وهو طاعته.
المصدر: المرجع الالکتروني للمعلوماتیة