□ مقالة/ الجزء الثالث والأخیر
بحث في الأصول الأربعمائة
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
▪ تاريخ تدوين الأصول
ان تواريخ تاليف الأصول وتواريخ وفاة اصحابها ليست مذكورة بصورة دقيقة في كتب الرجال عند الإمامية، علي الرغم من اننا علي معرفة بهذه الامور بشكل اجمالي. ان ما يمكن القول به قاطعين هو ان هذه الأصول لم تجمع قبل زمان الإمام علي بن ابي طالب(ع) ولا بعد عهد الإمام العسكري(ع)، وذلك لان تسميتها بالأصول تقتضي ان تكون مروية في ايام الائمة المعصومين(ع) و انها ماخوذة من الائمة مباشرة او من اصحابهم الذين سمعوها منهم. في هذه الحالة يمكن القول بان تاليف هذه الأصول قد جري منذ ايام الإمام امير المؤمنين(ع) حتي ايام الإمام العسكري(ع) وهذا هو ما قصد اليه الشيخ المفيد من العبارة التي نقلت عنه في «معالم العلماء» و خلاصتها هي ان الإمامية قد دونت 400 كتاب باسم الأصول من زمان امير المؤمنين(ع) الي ايام الإمام العسكري(ع)، وقوله: «ان فلانا له كتاب اصول » يرمي الي هذا المعني.
لابد من الانتباه الي ان الشيخ المفيد لم يكن يقصد حصر جميع كتب الإمامية و مصنفاتهم خلال تلك الفترة في كتب الأصول فقط، وذلك لانه كان، دون شك، علي علم بكبار محدثي الشيعة الذين صنفوا الكتب الكثيرة، مثل هشام الكلبي الذي الف اكثر من 200 كتاب، وابن شاذان الذي كتب 180 كتابا، وابن دؤل الذي الف نحو مئة كتاب، وابن ابي عمير الذي كان صاحب 90 كتابا، وكثيرين ممن الفوا ثلاثين او اكثر، وهذه الكتب اكثر بكثير من العدد المذكور.
و هو لم يقصد ايضا ان يقول ان تاليف تلك الكتب وجمعها تدريجيا لم يكن ضمن تلك الفترة كلها، انما هو اراد ان يخبر عن تاليف تلك الأصول فيما بين الزمانين المذكورين. فبناء علي ذلك ليس هناك اي تعارض بين كلام الشيخ المفيد وتصريحات الشيخ الطوسي والمحقق الحلي والشهيد الاول والشيخ حسين عبدالصمد والمحقق الداماد وامثالهم من كبار علماء الإمامية الذين قالوا: ان الأصول الاربعمائة قد الفت في زمن الإمام الصادق(ع) من تدوين اجاباته عن اسئلة كانت تطرح عليه. كما ان احدا من علماء الإمامية لم يقل ما يخالف ذلك.
لذلك يمكن القول اجمالا ان تاريخ تاليف اكثر هذه الأصول - الا القليل منها - قد تم في زمان اصحاب الإمام الصادق(ع)، سواء اكان اولئك من اصحاب الإمام الصادق(ع) نفسه، او من اصحاب الإمام الباقر(ع) قبله، او ممن ادركوا الإمام الكاظم(ع) بعده. ان ما يؤكد هذا العلم الاجمالي - بعد ان علمنا ان ايا من كبار علماء الإمامية لم يقل خلاف ذلك - هو السيرة التاريخية لرواتها ومؤلفيها في اصعب الظروف واشقها والمصائب والمحن التي تحملوها يومذاك. كثيرا ماكان يتفق انهم لم يكونوا قادرين علي استقاء معلوماتهم الدينية من منابعها مباشرة الي ان هيا الله تعالي لهم الفرصة في فترة الرحمة وانتشار علوم آل محمد(ص) وما تلك الفترة سوي فترة ضعف الحكومات الاموية والعباسية، وانصراف رجال الحكم عن اهل الدين ورجاله.
بدات تلك الفترة في اواخر الحكم الاموي بعد هلاك الحجاج بن يوسف في 95 هـ حتي انقراضه بموت مروان في 113ه واوائل الحكم العباسي الي اوائل حكم هارون الرشيد الذي تسلم الحكم في 170هـ. وقد شملت هذه الفترة اواخر زمان الإمام الباقر(ع) الذي توفي في 114هـ. وكل عصر الإمام الصادق(ع) الذي توفي في 148هـ، وبعضا من ايام امامة الإمام الكاظم(ع) الذي توفي في 184هـ.
ومما يؤكد هذا القول ايضا الدقة التي نراها في مؤلفي الكتب والأصول في كتب الرجال والفهارس التي ذكروا فيها عناوين مصنفاتهم. وقد جاء في عدد من هذه الكتب ان عدد اصحاب الائمة(ع) بلغ نحو 4500 شخص، وعدد المؤلفين منهم لا يتجاوز 1300 من الرواة. فاذا فرضنا ان عدد طلاب الإمام الصادق كان 4000، فلا يبقي للائمة الآخرين سوي 500. واذا اخذنا بنظر الاعتبار نسبة المؤلفين الي مجموع اصحاب الإمام، ونسبة كتاب الأصول الي مجموع المؤلفين، فسوف يتبين لنااجمالا ان تاريخ تاليف اكثر الأصول كان في زمان الإمام الصادق(ع). في محاولة للتوفيق بين قول الشيخ المفيد وكبار علماء الإمامية الآخرين، يقول صاحب «اعيان الشيعة »: «بقبولنا كون عدد الأصول اربعمائة، يمكن الجمع بين الكلامين بقولنا ان اصولا اربعمائة قد رويت عن جميع الائمة(ع) و ان اصولا اربعمائة اخري قد رويت عن الإمام الصادق(ع) وحده.»
الا ان هذا التوفيق يبدو بعيدا، اذ في هذه الحالة يكون مجموع عدد الأصول 800. وبالنظر الي ان عصر الإمام الصادق(ع) كان جزءا من عصر سائر الائمة(ع) فيلزم من ذلك ان يكون عدد ما كتب من الأصول في عصر الائمة(ع)، خلافا لقول الشيخ المفيد، اكثر من 400 اصل، هذا فضلا عن ان مثل هذا العدد لم يقل به احد من علماء الإمامية، اذ لوكان هذا صحيحا لنقلت الينا اخباره.
و الاعتراض الآخر هو ان معظم اصحاب الأصول، كما سبق قوله، هم من اصحاب الإمام الصادق(ع)، وافتراض وجود 400 اصل بين اصحاب سائر الائمة(ع) خلاف البديهيات الاولية في تاريخ تدوين احاديث الشيعة.
▪ اصحاب الأصول
سبق القول ان فترة امامة الإمام الباقر(ع) والإمام الصادق(ع) اتسمت بظروف ملائمة لنشر اقوال اهل البيت(ع) و معارفهم. في هذه الفترة كان العلماء والرواة الشيعة في امان من دسائس الاعداء، وعرفوا بين الناس بانهم من محبي اهل البيت(ع) وولايتهم، ولم يكن هناك ما يعترض طريق الائمة المعصومين(ع) في نشر الاحكام، وكان الشيعة يحضرون مجالسهم العامة والخاصة للتزود من علومهم، واستطاعوا خلال تلك الفترة القصيرة ان يدونوا مصنفاتهم عن قادتهم، وكان لمساعيهم تلك اكبر الاثر في نشر علوم آل محمد(ص). وقد وردت تراجم هؤلاء بعد ذلك في كتب الرجال القديمة، مثل كتاب «رجال » عبدالله بن جبلة الكناني (توفي 219هـ) و «مشيخة » حسن بن محبوب (توفي 224هـ) و «رجال » حسن بن فضال (توفي 224هـ) و «رجال » ابنه علي بن حسن، و «رجال » محمد بن خالد البرقي، و «رجال » ابنه احمد بن محمد بن خالد (توفي 274هـ) و «رجال » احمد العيقي (توفي 280 هـ) الا ان هذه الكتب، كما جاء في فهرست الشيخ الطوسي، لا تضم جميع اسمائهم، لذلك فقدت اسماء كثيرين من اصحاب الأصول، ولم يذكر الشيخ الطوسي سوي تراجم عدد قليل من الذين اشتهروا بانهم من اصحاب الأصول، فذكر بعضهم في رجاله وبعضهم في فهرسته. اما الرواة الآخرون الاجلاء من الشيعة، الذين عاشواقبلهم او بعدهم، ولعل عددهم كان مساويا لهم او اكثر منهم، فقد كانت ظروفهم القاسية وحالتهم السياسية الصعبة قد جعلتهم يعيشون في الخفاء بعيدين عن الائمة(ع)، بحيث لم يستطع الا القليل النادر منهم ان يتلقي بعض معلوماته شفاها منهم. ولهذا السبب لم يظهر منهم سوي عدد قليل من الكتب، وقد ورد ذكرهم في كتب الرجال المذكورة آنفا. غير ان كبار المحدثين الشيعة الذين عاشوا في الخفاء كانوا يكتفون باخذ الاحاديث من رؤاة يثقون بهم ويكتبونها عندهم، وكثير منهم كان يفارق الدنيا وهو في حالة الاختفاء ولم يبق لنا من آثارهم شي ء سوي ما ورد ذكره في الاسانيد والاحاديث، ولا نعرف شيئا عن احوالهم ومكانتهم سوي ما يذكره الذي اخذ الاحاديث منهم ورواها عنهم.
وبعد كتب الرجال التي سبق ذكرها، كانت هناك كتب اخري في هذا الباب، مثل كتاب حميد بن دهقان (توفي 310 هـ) و «رجال» الكشي (توفي 328هـ) و «رجال » الكليني (توفي 329 هـ) و «رجال » ابي العباس احمدبن محمد بن سعيد بن عقدة (249- 333 هـ) الذي اورد في كتابه اسماء 4000 من اصحاب الإمام الصادق(ع) الموثوق بهم، وقد ذكرهم ايضا الشيخ الطوسي في رجاله، وكذلك ذكرهم الحاج ميرزا حسن النوري في «خاتمة المستدرك » وشرح احوالهم بصورة مفصلة. بعد ذلك، وحتي القرن الخامس الهجري، كتبت كتب في الرجال تعد من الأصول بين كتب الرجال، مثل «رجال » النجاشي، و «اختيار معرفة الرجال » للكشي و «رجال » الشيخ الطوسي و فهرسته، وكتاب «الضعفاء» المنسوب الي الغضائري، وقد جمعهم و غيرهم الاسترابادي في كتابه «منهج المقال ».
بالتدقيق في كتب الرجال والفهارس المذكورة يمكن التوصل الي معرفة عدد من اصحاب الأصول. وتجنبا للاطالة نكتفي في هذا البحث بذكر اصحاب الأصول الذين ما زالت اصولهم باقية، ونرجع القاري ء الكريم الي «الذريعة » بالاضافة الي المصادر التي سبق ذكرها. وهؤلاء هم: زيد بن زراد، ابو سعيد عباد العصفوري، زيد الرسي، جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي، عاصم بن حميد الحناط، محمد بن مثني الحضرمي، جعفر بن محمد القرشي، عبد الملك بن حكيم، مثني بن وليد الحناط، خلاد السندي، حسين بن عثمان بن شريك، سلام بن ابي عمرو، عبدالله بن يحيي الكاملي، علي بن اسباط الذي تعتبر «نوادره » من الأصول، عبدالله صاحب اصل يعرف باسم «الديات »، و درست بن ابي منصور الذي بقي جزء من كتابه الذي اعتبر من الأصول.
▪ عاقبة الأصول
يقول الشهيد الثاني في هذا الباب: «استقر امر العلماء القدامي علي مجموعة الابعمائة الروائية التي جمعها 400 كاتب، واطلقوا عليها اسم الأصول واعتمدوها. و علي مر الزمان اصاب تلك الأصول التلف، وقام فريق بتلخيصها وادراجها في مؤلفاتهم الخاصة لتيسير الوصول الي الروايات. ان افضل كتب الاحاديث المجموعة هي: «الكافي » لمحمد بن يعقوب الكليني (المتوفي 328 أو 329هـ)، و «التهذيب » للشيخ ابي جعفر الطوسي (المتوفي 460 هـ)، وهما من الكتب التي لا يستغني الانسان باحدهما عن الآخر، اذ ان «الكافي » يجمع بين دفتيه نصوص احاديث مختلفة، بينما «التهذيب » يختص بالاحكام الشرعية. والكتاب الآخر هو «الاستبصار» الذي وردت اكثر احاديثه في «التهذيب »، لذلك يمكن الاستغناء عنه بوجود كتاب «التهذيب ». وعلي الرغم من ان «الاستبصار» يعقد بحثا عن الجمع بين الاخبار المتعارضة، الا انه بحث خارج عن اصل الحديث. والكتاب الآخر هو «من لا يحضره الفقيه » و هو كتاب جيد، الا ان معظم احاديثه موجودة في «الكافي » و «التهذيب».
لابد من القول ان بعض كتب الأصول ما زالت باقية حتي الآن كما سبق ذكرها من قبل، وبعضها الآخر ادخل في الكتب الروائية القديمة بحذافيرها، مبوبة ومنظمة. والسبب في تنظيم الأصول وتهذيبها هم تسهيل جعل الاحاديث في متناول الايدي والرجوع اليها، وذلك لان اكثرها من احاديث الائمة(ع) والتي كانوا يلقونها علي طلابهم في شتي المواضيع، او يجيبون بها عن اسئلة تتعلق. بمختلف ابواب الفقه.
لذلك فان قول الشيخ الطوسي في الفهرست، في ترجمة احمد بن محمد بن نوح: «وله كتب في الفقه علي ترتيب الأصول ». لايقصد منه القول ان لكتب الأصول ترتيبا خاصا، بل اراد ان يقول ان كتبه الفقهية ليست علي غرار ترتيب ابواب الفقه الذي اتبعه القدامي في مجموعاتهم الفقهية، بل كتبت علي اساس نظام الأصول الذي كان يفتقر الي ترتيب خاص به.
بعد جمع الأصول في مجموعات روائية، ضعفت الرغبة في استنساخها لصعوبة الاستفادة منها، ولذلك اصبحت نسخ الأصول نادرة الوجود، واختفت نسخها القديمة بالتدريج. و عند احتراق مكتبة شابور لاول مرة عند دخول طغرل بيك - اول ملك سلجوقي - الي بغداد سنة 448هـ عرضت كتب الأصول في هذه المكتبة الي التلف. الا ان هذه الحادثة وقعت بعد تاليف «التهذيب » و «الاستبصار» اللذين تم تاليفهما من كتب الأصول. بعد هذه الحادثة انتقل الشيخ الطوسي من الكرخ الي النجف التي احالها خلال 12 سنة الي مركز للعلوم الدينية، وتوفي في المدينة نفسها في 460هـ.
بقيت كتب الأصول، في معظمها، علي الحال التي كانت عليها حتي زمان محمد بن ادريس الحلي الذي اعتمد في كتابة جانب من كتابه «مستطرفات السرائر» علي تلك الأصول. وبقي قسم منها عند السيد رضي الدين بن طاووس (توفي 664هـ) حسب قوله هو في «كشف المحجة »، فكان يقتبس منها في كتبه المختلفة.
ثم أصاب النسخ الأربعمائة من الأصول التلف والفقدان بحيث لا يمكن العثور اليوم الا علي القليل منها. بالطبع، ربما كان بعضها ما يزال موجودا في بعض اركان العالم وزواياه، مما لا علم لنا به.
إنتهت
المصدر: مجلة آفاق الحضارة الاسلامية، العدد 4