□ مقالة/ الجزء الأول
شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه عند الشيعة الإمامية
لقد قمنا بزيارة المملكة المغربية في مستهل عام 1425هـ، وتعرفنا على رجال الفكر والثقافة في تلك البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها، وحول مواضيع مختلفة من الفقه وأصوله، والعقائد والكلام، والتي كان لها دور خاص في تحقيق التفاهم والتعارف بين الطائفتين.
ومما يجب ذكره أني قد ألقيت محاضرة حول تطور أصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في مدينة فاس بتاريخ 4 محرم الحرام 1425هـ، وذكرت فيها التطور الذي أحدثه علماء الإمامية في علم الأصول عبر القرون على نحو لا يرى نظيره في المدارس الأخرى، وذكرنا نماذج من تقدم الحركة الأصولية، وقد أعقبت هذه المحاضرة مناقشات واستفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك.
وفي اليوم الأخير من سفرنا والذي غاردنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحا مؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا التي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي، وقد استقبلنا بحفاوة وتكريم، وتعرفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوعة، وقد دار الحديث خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسمح المجال لذكرها هنا.
كل ذلك كان بفضل ربنا سبحانه وتعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة، ولمسنا منهم حب المعرفة والاطلاع على مذهب الشيعة الإمامية والتقريب بين المسلمين، والاهتمام بالتبادل الثقافي بين الجمهورية الإسلامية والمملكة المغربية.
وقد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في العدد الثاني من مجلة «الواضحة»، الصادرة عن دار الحديث الحسنية في المغرب المؤرخ في 1425هـ/2004م تحت عنوان: «أصول الفقه عند الشيعة الإمامية: تقديم وتقويم»، بقلم الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط.
ومن حسن الحظ أنا قد التقينا بصاحب المقال مرتين:
الأولى: خلال إلقاء محاضرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، والتي كان موضوعها: «الفقه الإسلامي وأدواره التاريخية.»
الثانية: كانت خلال الحفل الذي أقيم في سفارة الجمهورية الإسلامية في المغرب لتكريم ضيفها.
ونشكر الله الذي هيأ لنا هذه اللقاءات الأخوية.
وقد قرأت المقال ووجدت أن المواضيع التي تخضع للبحث والنقاش فيه عبارة عما يلي:
1. تأخر الشيعة في تدوين علم الأصول عن السنة.
2. أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، ومنها: سنة الأئمة الاثني عشر والإجماع.
3. الإمامية ترفض الأخذ بالقياس، والاستصلاح، لأنها أدلة ظنية، وفي الوقت نفسه يعملون بالظنيات كالعمل بأخبار الآحاد.
4. الإمامية يقولون بحجية الدليل العقلي، بينما يرفضون القياس، وهو من بديهيات العقول وأولياتها.
5. الإمامية ترفض حجية المصلحة؟! ولكنهم يأخذونها بأسماء وأشكال متعددة.
هذه هي المحاور التي يدور عليها مقال الدكتور الذي مارس النقد البناء، واستعرض وجهة نظره بعبارات مهذبة، ونحن نتناول تلك الأمور بالبحث والمناقشة ضمن فصول، خضوعا لما أفاده في مقدمة مقاله قائلا: على أنني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، فإني لا أنفي حتمية النقاش الصريح والنقد الحر المتبادل، لأن التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة، ولكنه بحاجة إلى تحسين الظن، وتهذيب الخطاب، وتحمل النقد، بحثا عما فيه من حق لقبوله، لا بحثا -فقط- عما فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه.
الأوّل:
التقديم في التأسيس أو التدوين :
إن واقع العلم المنتشر قائم بأمرين:
1. إلقاء الأفكار التي تقدح في أذهان المؤسسين إلى تلاميذهم.
2. تدوين الأفكار من قبل المؤسسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم واستلهموا تلك الأفكار.
وليس علم الأصول شاذا عن هذه القاعدة.
إذا كانت الغاية من علم الأصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي واستنطاق الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة، فإن أئمة أهل البيت(ع) لا سيما الإمامين الباقر والصادق(ع) هم السابقون في هذا الميدان، فقد أملوا على أصحابهم قواعد كلية تتضمن قواعد أصولية تارة، وقواعد فقهية تارة أخرى، فربوا جيلا كبيرا من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط حفلت معاجم الرجال والتراجم بأسمائهم وآثارهم.
فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث ممن تربوا في أحضان أهل البيت (ع) يقف على مدى رقيهم في سلم الاجتهاد، فمن باب المثال انظر إلى ما بقي إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين(ع)، نظير:
• زرارة بن أعين (ت150هـ) الذي يقول في حقه ابن النديم: «زرارة أكبر رجال الشيعة فقها وحديثا.»
• محمد بن مسلم الثقفي (المتوفى عام 150هـ).
• يونس بن عبد الرحمن (المتوفى عام 208هـ).
• الفضل بن شاذان (المتوفى عام 260هـ)، مؤلف كتاب "الإيضاح" المطبوع.
إلى غيرهم من الفقهاء البارزين الذين تركوا تراثا فقهيا مستنبطا من قواعد أصولية وفقهية على نحو يبهر العقول، وقد ذكرنا شيئا من فتاواهم واجتهاداتهم في كتابنا: «تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره»، وقد كانت اجتهاداتهم واستنباطاتهم على ضوء قواعد تلقوها عن أئمتهم(ع) واستضاءوا بنور علومهم.
وقد جاءت هذه القواعد مبثوثة في ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية. وقد قام جماعة من المحدثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكان واحد، نذكر منهم:
1. العلامة المجلسي (1037-1110هـ) ضمن موسوعته الكبيرة "بحار الأنوار" في كتاب العقل العلم.
2. الشيخ الحر العاملي (ت1104هـ) في كتاب أسماه "الفصول المهمة في أصول الأئمة"، وقد اشتمل على ستة وثمانين بابا أودع فيها الأحاديث التي تتضمن قواعد أصولية وفقهية مما يبتني عليها الاستنباط.
3. المحدث الخبير السيد عبد الله شبّر (ت1242هـ) في كتاب أسماه "الأصول الأصلية والقواعد الشرعية" يحتوى على مائة باب، وقد طبع الكتاب في ثلاثمائة وأربعين صفحة.
4. أخيرهم لا آخرهم العلامة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الأصفهاني (ت1318هـ) الذي خاض بحار الأحاديث وصرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت (ع)-والتي تتضمن الأصول والقواعد التي يبتنى عليها الاستنباط- في كتاب سماه "أصول آل الرسول"، وأورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع، ولو أسقطنا المتكرر منها لكان في الباقي غنى وكفاية، وهذا يشهد على تقدم أئمة أهل البيت(ع) في تأسيس الفكرة وهداية الأمة إلى تلك القواعد والأصول.
هذا وإن كثيرا من أئمة الفقه كانوا سباقين في التأسيس لا في التدوين. وإنما قام بالتدوين تلاميذ منهجهم، ومن المعلوم أن الفضل للمؤسس لا للمدون.
هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80-150هـ) أحد أئمة المذاهب الأربعة، ومؤسس الفقه الحنفي قد أسس مدرسة فقهية توسعت على يد تلاميذه، وأخض بالذكر منهم تلميذه المعروف محمد بن الحسن الشيباني (131-189هـ)، وتلميذه الآخر القاضي أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113-182هـ)،وهذان الفقهيان اتصلا بأبي حنيفة وانقطعا إليه وتفقها على يديه، وبهما انتشر المذهب، والفضل للمؤسس لا للمدون.
وهذا هو أحمد بن محمد بن حنبل (164-241هـ) الحافظ الكبير حيث لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا ومرجعا، وإنما جمع أصوله تلميذ تلميذه "الخلال" من الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس، وجاء من جاء بعده فاستثمرها وبلورها حتى صارت مذهبا من المذاهب. يقول الشيخ أبو زهرة: «إن أحمد لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلا الحديث.»
ومع هذا فقد صقل تلاميذه مذهبه وألفوا موسوعة فقهية كبيرة، كـ"المغني" لابن قدامة..
وأما مسألة التدوين، فهي وإن كانت أمرا مهما قابلا للتقدير، لكن لا نخوض فيها، على الرغم من وجود تآليف في أصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري.
ومن سبر تاريخ الحديث والفقه ودور الأئمة الاثني عشر وخاصة الباقر والصادق(ع) في حفظ سنة النبي وتوعية الناس، يقف على أن حضور مجالسهم كان واسعا جدا، فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين، وكانت خطاباتهم موجهة إلى عامة الحاضرين.. فإن الفوارق التي نشاهدها اليوم بين السنة والشيعة لم تكن في عصر الإمامين(ع) على حد تصد غير شيعتهم عن الاختلاف إلى مجالسهم ومحاضراتهم، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين وتابعي التابعين، من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم وقيادتهم أو من يرى أنهم مراجع للعقائد والأحكام.
هذا هو التاريخ يحكي أن حلقة درس الإمام الصادق(ع) كانت تضم عددا كبيرا من رجال العلم، وها نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم:
1- النعمان بن ثابث (ت150هـ) صاحب المذهب الفقهي المعروف، يقول محمود شكري الألوسي في كتابه "مختصر التحفة الاثني عشرية": هذا أبو حنيفة وهو من بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: «لولا السنتان لهلك النعمان"، يريد السنتين اللتين صحب فيهما -لأخذ العلم- الإمام جعفر الصادق(ع).
يقول أبو زهرة: «وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيرا، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف، والآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، فإنك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضيع ليست قليلة.»
2 - مالك بن أنس (ت179هـ): وكانت له صلة تامة بالإمام الصادق(ع)،وروى الحديث عنه، واشتهر قوله: ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد.
3 - سفيان الثوري (ت161هـ): من رؤساء المذاهب وحملة الحديث، وكان له اختصاص بالإمام الصادق، وقد روى عنه الحديث، كما روى كثيرا من آدابه وأخلاقه ومواعظه.
4 - سفيان بن عيينة (ت198هـ): وهو من رؤساء المذاهب البائدة.
5 - شعبة بن الحجاج (ت160هـ): خرج له أصحاب الصحاح والسنن.
6 - فضيل بن عياض (ت 187هـ): أحد أئمة الهدى والسنة، خرج له البخاري.
7 - حاتم بن إسماعيل (ت180هـ) خرج له البخاري ومسلم، أخذ عن الصادق(ع)، وأخذ عنه خلق كثير.
8 - حفص بن غياث (ت 194هـ) روى عن الصادق(ع) وروى عنه أحمد وغيره.
9 - ابراهيم بن محمد أبو إسحاق المدني (ت 191هـ): روى عن الصادق.
10 - عبد الملك بن جريج القرشي (ت 149هـ).
هذه عشرة كاملة، ومن أراد أن يقف على حملة علمه وتلامذة منهجه من السنة، فعليه بكتاب "الإمام الصادق والمذاهب الأربعة" لأسد حيدر.
هذه نبذة ممن استناروا بنور الصادق(ع) الوهاج، وانتهلوا من نميره العذب، وتلقوا عنه الفقه والحديث كما تلقاها عنه غيرهم من شيعته.
الثاني:
أدلة الأحكام عند الإمامية:
اتفقت الشيعة الإمامية على أن منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة، وهي: الكتاب، السنة، الإجماع، العقل. وما سواها إما ليست من مصادر التشريع، أو ترجع إليها.
هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن ادريس الحلي (543-598هـ) يذكر الأدلة الأربعة في ديباجة كتابه "السرائر" ويحدد موضع كل منها، ويقول: فإن الحق لا يعدو أربع طرق: إما كتاب الله سبحانه، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل فيها، فإنها مبقاة عليه وموكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها والتمسك بها.
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية:
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية من خصائص الفقه الشيعي، وأما الفرق بينهما فهو كالتالي:
وهو أنه لو كان الملاك في اعتبار شيء حجة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقا إليه عند المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلة الأربعة، فإن الملاك في حجيتها هو ما ذكرنا، فإن كلا من الكتاب والسنة حتى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع، وكاشف عنه إما كشفا تاما كما إذا أفاد القطع، أو كشفا غير تام كما في خبر العدل، وعلى كل تقدير، فالملاك لاعتباره حجة هو كاشفيته عن الواقع.
وأما إذا كان الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عملية للمكلفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو أصل عملي، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلة هو رفع التحير وإراءة الوظيفة عند اليأس عن العثور على دليل موصل للواقع، ولذلك أخذ في لسان حجيتهم الجهل بالواقع وعدم توفر طريق في متناوله، وهذه الأصول العامة التي تجري في عامة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة، وهي:
1. أصالة البراءة؛ 2. أصالة الاشتغال؛ 3. أصالة التخيير؛ 4. وأصالة الاستصحاب.
ولكل منها مجرى خاص:
أما الأولى: فمجراها هو الشك في التكليف، فإذا كان المجتهد شاكا في أصل الوجوب أو الحرمة، وتفحص عن مظان الأدلة ولم يقف على دليل وحجة على الحكم الشرعي، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف، كما إذا شك مثلا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، أو ما أشبه ذلك، والأصل له رصيد قطعي وهو:
أ ) قول الرسول : رفع عن أمتي تسعة.. وما لا يعلمون.
ب) حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.
وأما الثانية: فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي، ولكن تردد الواجب أو الحرام بين أمرين، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردد الواجب، والاجتناب عنهما عند تردد الحرام، مثلا، إذا علم بفوت صلاة مرددة بين المغرب والعشاء يجب عليه الجمع بينهما، أو إذا علم بنجاسة أحد الإناءين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.
وأما الثالثة: إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ولم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع، فالوظيفة العملية هي التخيير.
وأما الرابعة: وهو ما إذا ما علم بوجوب شيء أو بطهارته، لكن شك في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع وتفحص ولم يقف على بقائه أو زواله، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذا بقول الإمام الصادق(ع): «لا يُنقض اليقين بالشك.»
هذه هي الأصول العملية الأربعة التي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنة، وليس لها دور إلا عند فقد النص على الحكم الشرعي، ولكل مجرى خاص، وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع، بل كونها مرجعا للوظيفة الفعلية.
تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز:
إن الأصول العملية تنقسم إلى أصول محرزة وأصول غير محرزة: والمراد من الإحراز هو إحراز الواقع والكشف عنه، وذلك لأن بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع كشفا ضعيفا، لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجة لهذه الجهة، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة، ووضع حلول عملية في ظرف الجهل والشك، كما أن الشارع الذي أمضاه واعتبره حجة في الفقه لم يعتبره لهذه الغاية حتى يكون أمارة عقلانية كخبر الثقة.
ومثلوا لذلك بالأصول العملية الثلاثة:
1. الاستصحاب؛ 2. وقاعدة اليد؛ 3. قاعدة التجاوز.
فالأول منها أصل عام يجري في عامة أبواب الفقه، بخلاف الأخيرين فإنهما خاصان ببعض الأبواب. وما سوى ذلك أصل غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير.
هذه هي أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، فهلم معي ندرس ما ذكره الأستاذ حول أدلة الأحكام عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ والالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأصول الفقه عند الإمامية.
أولا - مسلك الشيعة مسلك الغزالي :
يقول الأستاذ: جعلت الشيعة أدلة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ثم قال: ولا يخفى على الدارس أن هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلة.
يلاحظ عليه: لا نظن أن الأستاذ يتهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجية الكتاب والسنة، فإن المسلمين قاطبة يقولون بذلك، وإنما مظنة التهمة قولهم بحجية العقل.
فنقول: هناك فرق واضح بين المسلكين: الإمامي والغزالي، فإن الأول يعتمد على التحسين والتقبيح العقليين، والغزالي تبعا لإمام مذهبه يرفض ذلك ويقول: «إن لله عز وجل إيلام الخلائق وتعذيبهم من غير جرم سابق، لأنه متصرف في ملكه.»
والعقل الذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي على الأصح هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميم العقل:
• التحسين والتقبيح العقليان.
• الملازمات العقلية.
وأين الغزالي ومنهاج أستاذه عن القول بهما؟
وتضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت(ع) على حجية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون، قال الإمام الصادق(ع): «حجة الله على العباد: النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله: العقل.»
وقال الإمام موسى بن جعفر(ع) (ت 183هـ) مخاطبا هشام بن الحكم: «يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول.»
إن أئمة أهل البيت(ع) أعطوا للعقل أهمية كبيرة، فهذا الإمام الباقر(ع) يقول: «إن الله لما خلق العقل استنطقه إلى أن قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب.»
فكان المترقب من الأستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإمامية.
ثانيا - تقييم تعريفه للأدلة الاجتهادية والأصولية العملية:
قد تعرفت على ما هو الفرق بين الأدلة الاجتهادية والأصولية العملية، وعلى تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز.
وللأستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به:
أ) الأدلة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى الأدلة المحرزة -الكتاب والسنة والعقل والإجماع- ويقابلها الأصول العملية باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلفين حين يتعذر عليها إحراز الحكم الشرعي من دليله.
يلاحظ عليه: أنه أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة والأصول العملية، إلا أن وصف الأدلة الأربعة بالأدلة المحرزة خلاف المصطلح، وإنما يوصف بها بعض الأصول، فمنها أصل محرز ومنها غير محرز كما تقدم في كلامنا، وإنما توصف الأدلة الأربعة بالأدلة الاجتهادية.
ب) ويدخل ضمن هذه الأصول العملية جملة قواعد: أهمها قاعدة الاحتياط، انطلاقا من أن الأصل هو شغل الذمة بالتكليف وأن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به، وقاعدة البراءة الأصلية، انطلاقا من أن الأصل براءة الذمة من التكليف، وقاعدة الاستصحاب التي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقا من أن اليقين لا يرتفع بالشك.
يلاحظ عليه: أن قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه، والجهل بالموضوع كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء، فيجب عليه قضاؤهما، وما ذكره من المنطلق يعني أن "الأصل هو شغل الذمة بالتكليف" له لا صلة له بقاعدة الاحتياط، بل أساسه هو العلم بالتكليف والجهل في المتعلق.
والعجب أنه عندما يفسر قاعدة الاحتياط عند الإمامية، يقول: الأصل شغل الذمة بالتكليف.
وعندما يفسر قاعدة البراءة عندهم بقوله: «الأصل براءة الذمة من التكليف"، وهذا هو نفس التناقض، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!
وهذا يكشف عن أن الأستاذ لم يكن ملما بأصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض. كما أن ما ذكره "إن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به" وجعله منطلقا للاحتياط عجيب جدا، لأن العلم بأن لله في كل نازلة حكما لا يسبب الاحتياط، وإذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو الإباحة أو الكراهة، أو الاستحباب.
إنتهت إلی هنا ویلیها الجزء الثاني في العدد المستقبل
المصدر: مجلة الواضحة، العدد الثالث