printlogo


printlogo


□ حوار/ الجزء الأول
الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة في حوار مع آية‌الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

الانتماء للإسلام والتعايش المذهبي
أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويّ الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.
السّؤال الأوّل: ما تعريف المصطلحات الأوليّة: الثّابت، المتغيِّر، الشّريعة، الحكم الأوّليّ، والحكم الثّانويّ؟
الثّابت والمتغيِّر:
ليس للمتغيِّر والثّابت مصطلح خاصّ شرعيّ ولا متشرعيّ، هما مستعملان عند الباحثين بمعناهما اللّغويّ، فالمتغيِّر هو ما يأتي عليه التّغيير والتّحوّل، وأمّا الثّابت هو ما على خلاف ذلك، والمعنى ليس من المركّبات الاعتباريّة كالصّلاة والصّوم حتى تكون له أجزاؤه وشروطه وموانعه.
الشّريعة:
أمّا الشّريعة فهي منظومة الأحكام الإلهيّة التّكليفيّة والوضعيّة، وهي كذلك الأحكام الولائيّة التي تضبط حركة الإنسان في الحياة في دوائرها المختلفة من الدّائرة الصّغيرة إلى الدّائرة الكبيرة، ومجموع علاقاته مع الآخر.
الحكم الأوّليّ:
الحكم الأوّليّ هو الحكم الذي جُعل لموضوعه بلحاظ العنوان لذلك الموضوع، من غير ملاحظة أيّ قيود وأيّ عنوان طارئ كعنوان الاضطرار، الإكراه، الحرج أو الضرر، وغير ذلك. مثال ذلك: وجوب الصّلاة على المكلَّف، فعندنا مكلَّف، وعندنا فعل هو الصّلاة، وعندنا حكم متعلِّق بهذا الفعل وهو الوجوب، لم يُلحظ في إيجاب الصّلاة للصّلاة غير عنوان الصّلاة، فوجوب الصّلاة موضوعٌ على الصّلاة بما هي صلاة، وعلى المكلَّف بما هو مكلَّف.
الحكم الثانويّ:
قد يأتي عنوان آخر بسبب مزاحمة فعلٍ آخر للصّلاة:
كإنقاذ الغريق مثلاً، فنكون أمام حالة جديدة يخلقها التزاحم.
أو صلاة تسبِّب الموت لشخص، فنأتي ونقارن بين الصّلاة والموت.
أو كالصّلاة وإزالة النّجاسة عن المسجد، فالصّلاة لها وقت ممتد والنّجاسة يجب إزالتها فوراً، فتُقدَّم إزالة النّجاسة.
الصّوم واجب على المكلّف بما هو صوم شهر رمضان، هذا الإيجاب على الصّوم بما هو صوم وليس أكثر من ذلك، ولكن هذا الصّوم قد يطرأ عليه طارئ يكون ضرريّاً أو حرجيّاً، وعندنا الحرج مرفوع.
فالصّلاة - بما هي صلاة -عنوانٌ أوّليّ، ووجوبها حكم أوّليّ، وكذلك الصّوم بما هو صوم -وهو عنوان أوّليّ-وجوبه حكم أوّليّ، أمّا الصّوم الضرريّ، أو الذي فيه تلف الحياة، فهذا ليس صوماً فقط، بل صوم بعنوان أنّه ضرريّ، فهذا صوم يسقط وجوبه، وإذا كان يسبِّب الوفاة يصل لحدّ الحرمة.
فالحكم الثانويّ هو الحكم المترتِّب على موضوع بلحاظ عنوان طارئ على ذلك الموضوع، كعنوان الضرر والحرج والاضطرار والإكراه.
مثال: أكل الميتة حرام، فأكل الميتة عنوان أوّليّ، وحرمة أكل الميتة حكم أوّليّ، لكن يأتي أنّ هذه الحرمة يضطر إليها المكلَّف اضطراراً بحيث لا حياة له بدون أن يتناول ما يسدّ رمقه منها، فهذا عنوان ثانويّ، طارئ، وهو عنوان الاضطرار إلى أكل الميتة، فيأخذ حكماً آخر وهو الإباحة أو الوجوب.
السُؤال الثّاني: هل الثّابت ما اتفقت عليه الأمّة؟
كلٌّ من الحكم الثّابت وما قد يُطلق عليه أنّه متغيِّر، وكلٌّ من الحكم الأوّليّ والثّانويّ حكمٌ شرعيّ.
الحكم الثّانوي كلّ ما هناك أنّه محدود ومُقدَّر بالحالة الطارئة، ففي جواز أكل لحم الميتة أو وجوبه فإنّ هذا الحكم ينتهي بانتهاء ظرف الاضطرار.
كلُّ الأحكام الولائيّة، والأوّليّة، والثّانويّة، قد لا يكون متّفَقاً عليها بكاملها، فالتّقية ثابتة في المذهب الجعفريّ، وليست كذلك في مذهب آخر، وهناك ثابت على مستوى الضّرورة الدِّينيّة، فكلّ المتديّنين يعرفون أنّ الصّلاة واجبة ويثبتون وجوبها، وهي ضرورة من ضرورات الدِّين، بينما هناك أحياناً ضرورة مذهبيّة، وقد يكون هناك ضروريّ فقهيّ.
والحقّ أنّ كلّ الأحكام التي شرّعها الله، أو جاءت في القرآن الكريم والسُّنّة المطهَّرة، ما علمناه منها وما لم نعلمه، ما اكتشفه الفقيه وما لم يكتشفه، وما وصل الزّمن إلى طرح السّؤال عنه وما لم يصل الزّمن إلى طرح السّؤال عنه، وكلّ ما كان مشرَّعاً عند اللهa -بعد انتهاء زمن النّسخ- فهو ثابت في عالم التّشريع.
فهناك عالَم يُسمّى عالَم التّشريع وآخر يُسمّى عالَم الفعليّة، فأيّ تغيُّر هو في عالَم الفعليّة وليس في عالَم التّشريع، فعلى مستوى التّشريع والجعل والمجعول فكلُّ الأحكام الإلهيّة -بعد انتهاء عملية النَّسخ- ثابتة ولا تغيٌّر فيها. أمّا كيف تواجه الأحكامُ الثّابتةُ حركةَ الزّمن وحركة التّطوّر فهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
السّؤال الثّالث: هل نستطيع أن نقول بأنّ ما يلزم حالة واحدة في زمان ومكان لأيّ شخصٍ وفي أيّ حالة هو الثّابت، وما دون ذلك هو المتغيِّر؟
سبق القول بأنّ الحكم أوّليّ وثانويّ، وأرجع فأقول: إنّ كلّاً من الحكم الأوّليّ والحكم الثّانوي ثابتٌ جعلاً ومجعولاً تبعاً لتقدير الموضوع، وكلاهما مشرّعان من اللهa، وهناك أحكام نُسخت، وهناك أحكام مطلقة، فكلٌّ من الحكم الأوّليّ والحكم الثّانويّ مطلق في عالَم التّشريع، فهذا مشرِّع لعنوانه، وذاك مشرِّع لعنوانه، فالعنوان الأوّليّ له حكمه الأوّليّ، والعنوان الثّانويّ له حكمه الثّانويّ ويبقى مرتبطاً به، والموضوع مأخوذ بنحو تقدير الوجود، بمعنى أنّه كلَّما وُجد هذا الموضوع خارجاً كلَّما ثبت له هذا الحكم فعلاً، فهو إذاً ثابت له في عالَم التّشريع.
هناك عالَم يُسمّى عالَم الفعليّة، فمثلاً: كان وجوب الحجّ على كلِّ مكلَّف ثابتاً منذ الأزل، أي أنّه في علم الله هناك تشريع أنّ من استطاع الحجّ من المكلَّفين وجب عليه الحجّ، فهنا يوجد وجوب على مستوى التّشريع، أي أنّه اعتُبِر الوجوب وتحصَّل الوجوب الاعتباريّ حتّى منذ الأزل، وهذا ثابتٌ وباقٍ، ولكنّ هذا الوجوب له مرحلة ثانية تُسمّى الفعليّة، أي التّحقق والتّنجُّز، فإن لم يوجد هذا المكلَّف المستطيع فالتّشريع له ثابت أو لا؟ نعم.. التّشريع له ثابت وموجودٌ في عالَم التّشريع، ولكن ما إن يوجد هذا المكلَّف ويصل إلى سنّ التّكليف وتحصل له الاستطاعة، تحصل مرحلة جديدة في الحكم تُسمّى مرحلة الفعليّة، ويكون هذا مخاطَباً الآن بأن يذهب إلى الحجّ، فقبل أن يستطيع لم يكن مخاطَباً، أمّا الآن فقد جاءت المخاطبة، وهذه هي مرحلة الفعليّة.
كان السّؤال: هل الثّابت هو ما يلزم حالة واحدة؟
فأقول: لو جئتُ للحكم الثّابت.. هل هو لكلّ حالة؟ لا.. ليس لكلّ حالة؛ لأنّ الحكم الثّابت قد يحصل له مزاحِم يرفع فعليّته في وقت معيَّن، فعلى مستوى الفعليّة ليس ثابتاً لكلّ واحد، أمّا على مستوى التّشريع فهو ثابت لكلّ واحد، فهناك مرحلتان: مرحلة فعليّةٍ ومرحلة تشريع، فالحكم الأوّليّ والحكم الثّانويّ في نظري أنّهما ثابتان في مرحلة التّشريع، غير أنّ الحكم في مرحلته الفعليّة قد يتغيّر وإن كان حكماً أوّليّاً، فأكلُ الميتةِ الحرامُ.. حينما أكون مضطراً إليه فعلاً لا يكون حراماً عليّ، وكذلك وجوب إزالة النجاسة ولم يبق من وقت صلاة العصر إلّا مقدار صلاة العصر أو مقدار ركعة واحدة، فالواجب عليّ الصلاة ولست مخاطباً خطاباً فعلياً بإزالة النجاسة.
السّؤال الرّابع: لماذا هناك عنوان الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة؟
جواب سماحة الشّيخ: الدِّين عقيدة، وشريعة، وأصول خلقيّة فطريّة.
العقيدة مجموعة حقائق لها تقرّرها الذّاتي وواقعيّتها، وليست محلّاً لاعتبار، فهي لا تحتاج إلى الاعتبار، ولا تتأثّر بالاعتبار، ولا ترتفع بالاعتبار، ولا توضع بالاعتبار.
عمليّة الجعل لا تمسّ الحقائق، فهذه حقيقة مادّيّة موجودة الآن، وأنت قلت أنا اعتبرها غير موجودة، فهل يرتفع وجودها؟ طبعاً لا يرتفع وجودها. هل يحتاج وجودها إلى اعتبار؟ طبعاً لا يحتاج وجودها إلى اعتبار.
الحقائق المعنويّة أيضاً كذلك، مثل (إنّ للكون خالقاً)، فهي حقيقة لا يؤثّر فيها الاعتبار: اعتبار العدم أو اعتبار الوجود، فإمّا أن يكون للكون خالق وإمّا ألّا يكون للكون خالق. فهذه الحقائق أين يأتي نقاشها؟ يأتي نقاشها في الوجود وفي العدم، أي أنّها تكون متّصفة بالوجود أو متّصفة بالعدم، إمّا أن أنكرها أو أعترف بها، فهي قابلة للاعتراف والإنكار الذّهنيّ والنّفسيّ، وليست قابلة للرّفع أو التّوقيت أو ما إلى ذلك، فقضية (الكون له خالق)، إمّا أن يكون له خالق دائماً، وإمّا ألّا يكون له خالق أبداً.
أيضاً النّبوّة، و(إنَّ بعث الأنبياء هو الحقّ)، فهذا إمّا أن يكون حقّاً وإمّا أن يكون باطلاً، إمّا أن يكون صادقاً كحقيقة واقعيّة، وإمّا أن يكون كاذباً كحقيقة واقعيّة. فالعقيدة لا يمسُّها التّغيّر ولا يمكن أن يُتصوّر فيها التّغيّر حتى يُطرح السُّؤال بشأنها هل العقيدة متغيِّرة أو غير متغيِّرة، فلا موضوع للسّؤال عن التّغيّر في العقيدة لعدم قابليّة العقيدة للتّغيّر.
أمّا الشّريعة فهي تعالج مسائل الإنسان وعلاقاته: بربِّه سبحانه، وبأخيه الإنسان، وبالطّبيعة.
وعلى الشّريعة أن تقدِّم إجاباتها عن الأوضاع المستجدّة بسبب حركة الإنسان العقليّة والإراديّة، واستمرار انتاجيَّته على امتداد الزّمن، بما يجعل تعامله مع هذه الأوضاع المختلفة منسجماً مع إرادتها.
نريد شريعة تضبط علاقاتنا مع الله تعالی، تضبط علاقاتنا مع أنفسنا، تضبط علاقاتنا في كلّ أطرها، بحيث تكون عمليّة الضّبط هذه منسجمة مع إرادة الشّريعة التي هي من إرادة الله تعالی  فمن أجل أن تأتي حياتنا منسجمة في خطِّها بالكامل مع إرادة الله، علينا أن نطلب شريعة تعطينا الأجوبة التي يفرزها التّطوّر الحضاريّ والتّطوّر الزّمنيّ وما إلى ذلك.
في مسألة الشّريعة عندي ثابت عندي متحرِّك.
عندي ثابت وهو الإنسان الذي وُجد من أوّل يوم وعنده قوّة إدراك، عنده مشاعر، عنده دوافع مادّيّة، عنده دوافع معنويّة، فالإنسان اليوم في نظرنا هو الإنسان في الأمس بالنِّسبة لفطرته ولكلّ هذه الأبعاد، وهذا ثابت، وما هو ثابت لا بدَّ أن يواجَه شرعاً بأحكام ثابتة.
وعندي متغيِّر وهو تطوُّر الأوضاع بسبب التغيُّر الحضاريّ، وأمثلة ذلك واضحة، منها: الحركة الصناعيّة، الحركة التجاريّة، حركة المصارف، المواصلات، الذّهاب إلى المريخ، الذّهاب إلى القمر، وكلّ هذا يخلق مسائل ومسائل مستجدّة بشكل سيَّال ومتدفِّق، وهذا يحتاج إلى إجابات.
هذا اللّون من التّغيّر يصحِّح لنا أن نطرح هذا السُؤال: هل في الشّريعة متغيِّر أو ليس فيها متغيِّر؟ وإذا كان ليس فيها متغيِّر فكيف بنصوصها المحدودة تستطيع أن تلبّي حاجة الثّابت وحاجة المتغيِّر؟ فصار فرقٌ بين ما هو عقيدة وما هو شريعة في صحّة طرح السُّؤال عن التّغيّر بالنِّسبة للشّريعة، وعدم صحّة طرحه بالنِّسبة للعقيدة.
السُؤال الخامس: ذكرتم عالم التّشريع وعالم الفعليّة، فهل يوجد متغيِّر في الشّريعة في عالم التّشريع؟
أوّلاً: ليس هناك حكم ينقلبُ في عالم التّشريع عن وضعه، فالوجوب وجوب، والحرمة حرمة. الصّلاة واجبة.. تبقى واجبة، والرّبا حرام.. يبقى حراماً، وقتل النّفس حرام.. يبقى قتل النّفس حراماً، فكلّ الأحكام في عالم التّشريع -حتى الأحكام الثّانويّة- تحتفظ بثباتها.
وإذا كان هناك تغيُّر فهو في عالم الفعليّة، أي في أنّني هل أنا الآن مخاطَب بهذا الحكم فعلاً (أي بهذه الحرمة أو هذا الوجوب)؟ أو أنّه يوجد سببٌ طارئٌ يرفع عنّي فعليّة الخطاب؟ ظرفي الطّارئ لا يخرجني من تشريع هذا الحكم ممّن شرّع له، أي لا يخرجني هذا الظّرف الطارئ من حكم الوجوب أو الحرمة، ولا يضع حدّاً لهذا الحكم على مستوى التّشريع، نعم.. لست مخاطَباً به فعلاً، هذا صحيح، فلست مخاطَباً بحرمة أكل الميتة في حال الاضطرار، ولست مخاطَباً بالصّوم مع الضّرر، ولست مخاطَباً بالفعل الفلانيّ حين يسبِّب لي حرجاً، وهكذا.
ثانياً: هناك أحكامٌ غيرُ معروفة يبعث التّطوّرُ الفقيهَ على أن يلتفت إلى الحاجة إليها، نسأل من أين جاء هذا التّغيّر؟ ما يحصل عند الفقيه هو اكتشاف الحكم لهذه الحالة المستجدّة. فمثلاً الصّلاة على القمر وعلى المريخ كيف؟ وما حكم المعاملات المصرفيّة؟ أو التّأمين على الحياة؟ أو بيع الأعضاء مثلاً؟ هذه مسائل كانت غير مطروحة، ولم تكن ذات موضوع خارجيّ في العالم، وصار لها الآن موضوع خارجيّ وبدأ السّؤال عنها، فمن هنا تتحرّك عقليّة الفقيه إلى أن يبحث عن أحكام هذه المسائل.
ثالثاً: هناك حكمٌ يتغيّر موضوعُه خارجاً فيتغيّر الحكم، فالحكم الذي ثبت لموضوعه لم يتغيّر، بل هو ثابتٌ له ما دام موضوعه. ومن الأمثلة على ذلك:
مباح أو محرّم يُضطَّر إليه. فأكلك مباح، تأكل منه الآن أو لا تأكل فهو مباح، لكن لو توقّفت حياتك على أن تأكل الآن، كيف يكون الحكم؟ يجب عليك الأكل. خرج الحكم من نوع الإباحة إلى الحكم الإلزاميّ (الوجوب).
يحرم عليك أن تتداوى بالخمر، لكن انحصر الدَّواء في الخمر، وتوقّفت الحياة على التّناول من الخمر بمقدار الضّرورة التي تدخل في العلاج الذي ينقذ الحياة، فهنا يأتي كلامٌ بأن يشرب من الخمر، ويأكل من الميتة ... فما الذي حصل؟ هل تغيَّر حكم حرمة الخمر؟ لا. كان الموضوع هو الخمر، والآن الموضوع خمر مضطّر إليه، أو أكلٌ تتوقّف عليه الحياة فهو مضطّر إليه، فهذا الحكم الثَّاني (أي: وجوب الأكل) هو حكم ثبت لموضوعٍ هو غير موضوعِ ما ثبت له حكم الإباحة، فحكم الإباحة باقٍ على موضوعه، فما إن تنتهِ من أكل اللّقمة التي تحفظ حياتك ويرتفع ضررك لا يجب عليك أن تأكل، فالحكم (أي: حكم وجوب الأكل عند الاضطرار) حكم له موضوعه الخّاصّ، وحكم إباحة الأكل له موضوعه الآخر (وهو عمليّة الأكل نفسها). فهذا قد نطلق عليه بأنَّه تغيُّر في الحكم، وهو ليس تغيُّراً حقيقيّاً؛ وإنّما تغيّر مجازيٌّ، أي: قل إنّه تغيُّر الحكم بتغيِّر الموضوع، وهذا أمر طبيعيّ جداً، فكلّ موضوع له حكمه الذي يسانخه ويناسبه.
الشطرنج كما عند السّيّد الإمام الخمينيّ(قد): الشطرنج حرام، لكنّ موضوع الحرمة عند السّيّد الإمام ليس الشطرنج في نفسه، إنّما هو لعبة الشَّطرنج المتلهَّى به، فحينما يكتشف أنّ الموضوع هو هذا (أي: إنّ الشطرنج الحرام هو الشطرنج المتلهّى به وليس ذات الشطرنج)؛ فحينئذٍ عندما يكون شطرنج خالٍ من التلهّي، وفيه ريّاضة فكريّة، فإنّه قد انخلق لي موضوع ثانٍ.
إذاً... فالواقع الخارجيّ والممارسة كانت تعطي الشطرنج عنوان أنّه لعبة للتلهّي، ولكن انخلق موضوع ثانٍ ولنسمّه الشطرنج الرياضيّ أو الترويضيّ «أي: الترويض الذهنيّ»، فهذا موضوع ثانٍ. فذاك الحكم ثابت لم يتغيَّر (حكم حرمة الشطرنج)، وهذا حكم ثان من أجل موضوع ثان، فلا يتعارضان. وهذا قد يسمّى متغيِّراً.
(حكم مهمّ يزاحمه حكم أهمّ): (كما مرَّ في مثال سابق): الصّلاة وإزالة النّجاسة عن المسجد، فلو كانت الصّلاة في أوّل الوقت أو في وسطه، فإزالة النّجاسة هنا تكون هي الأهمّ وتُقدّم على الصلاة، ولكن حينما لا يكون قد بقي من الوقت إلّا مقدار أربع ركعات أو ركعة واحدة من صلاة العصر فهنا تُقدّم الصلاة. فأين ذهب حكم وجوب إزالة النّجاسة فوراً؟ هل ارتفع؟ طبعاً في عالم التّشريع لم يرتفع، ولكن هناك موضوع ثانٍ، وهو موضوع إزالة نجاسةٍ تزاحمُ الصّلاة الأهمّ، فينخلق بسبب حالة التَّزاحم موضوع ثانٍ وينتفي موضوع الحكم الأوّل. وهذا يدخل أيضاً في التغيُّر.
يختلف أيضاً التّطبيق للحكم الشّرعيّ باختلاف الزّمان فتنخلق حالة جديدة أيضاً، ولنأخذ أمثلة على ذلك:
لباس الشُّهرة: وهو لباس ينكره عليك المجتمع، ويجعلك محلّ ملاحظة النّاس ومحلّ كلامهم ونقدهم، وتكون شاذّاً. فهذا اللّباس قد يكون اليوم لباس شهرة، ولكن بعد زمن لا يكون لباس شهرة، فهل تغيّرت حرمة لباس الشّهرة؟ لا، لم تتغير ولكنّ الموضوع تبدّل، فما هو حرام هو لباس الشّهرة، ولكنّه اليوم ليس لباس شهرة حتى يكون حراماً. فهذا فاعليّة زمان.
التّشبه بلباس الكفّار: فربطة العنق مثلاً عندما يقال إنّها حرام لأنّها تشبُّه بالكافر، فما دامت الحالة حالة تشبّه بالكافر تبقى الحرمة، ولكن [إذا] انتفى هذا الموضوع وصار هذا اللّباس ليس لباس الكفّار، بل لباس العالَم كلّه، فهل تبقى الحرمة؟ لا، فهنا حصل تبدّل موضوع.
نفقة الزّوجة واتساعها وضيقها: فالزَّمان له أثره، فالنفقة تتّبع الإمساك بالمعروف، بحيث تكون وحدة من وحدات الإمساك بالمعروف، ولكن هل هناك تحديد شرعيّ ثابت للنّفقة؟ بحيث يقول إنّ لها -مثلاً- في اليوم رغيفين ولها لباسها وما إلى ذلك؟ لا يوجد، فهنا الإمساك بالمعروف هو النفقة الواجبة، والمعروف ما هو؟ هو الحسن المتوافق عليه عند النّاس (الحسن وليس القبيح) فهذا معروف.
اليوم يوجد مستوى نفقة يكلِّف في الشهر -فرَضاً- خمسين ديناراً حسب المتعارف، ولكن يأتي زمن تكون النّفقة فيه تساوي -مثلاً- عشرين ديناراً، أو يأتي زمن تكون فيه النّفقة تساوي مِائة دينار، وهناك أمور قد تدخل في النّفقة حسب العرف وقد تخرج، فتحديد النّفقة هنا سيكون متغيّراً، ولكن ذلك ليس لتغيّر في الحكم وإنّما لتغيّرٍ فيما يحقق المعروف من النّفقة.
أمثلة تطبيقيّة أخرى على الثّابت والمتغيِّر:
الأحكام تكليفيّة (كوجوب الصلاة والصوم)، ووضعيّة (كالصّحّة والفساد والطّهارة والنّجاسة والشرطيّة والمانعيّة).
من الثّابت في الحكمِ التّكليفُ بالعبادات، وجوب بقاء عمليّة التّناسل، (فيجب على كل الأجيال أن تُبقي على عمليّة التّناسل)، وجوب حفظ الأمن، وجوب تربيّة الأولاد، وجوب حفظ حدود الدّولة الإسلاميّة، الإنفاق على الزّوجة، حرمة التّعدّي على الأنبياء‍i، حرمة إيذاء المؤمن من غير حق، وجوب التّبليغ وتعليم الجاهل، حرمة بيع الخنزير والميتة، إقامة الحدود، وطائفة كبيرة جداً من الأحكام الثّابتة.
من أمثلة المتغيِّر في الحكم التّكليفيّ:
المستحب لو تعلّق به نذر أو حلف كما سبق، المستحبّ لو تعلّق به نذر طبعاً سيجب، لو تعلّق به حلف سيجب.
المكروه لو نذر تركه صار حراماً.
المرور بالمكان المغصوب مع الانحصار لإنقاذ غريق سيكون واجباً إذا قلنا بوجوب المقدّمة، أو على الأقلّ سترتفع الحرمة وسيكون مباحاً.
وجوب المبادرة لإزالة النجاسة عن المسجد، هذا الحكم سيرتفع بتضايق وقت الصلاة الواجبة.
من أمثلة الثّابت على مستوى الحكم الوضعيّ:
صحّة البيع: حيث إنّ البيع غير جائز في وقت النداء، إلّا أنّه حتى في وقت النّداء لصلاة الجمعة فإنّهم يصحّحون البيع ويسمّونه صحّة وضعيّة، رغم أنّ هناك حرمة تكليفيّة. فعلى كلّ حال.. على مستوى الحكم الوضعيّ فإنّهم يقولون بصحّة البيع وسائر المعاملات المحكوم بصحتها.
فساد الرّبا مثلاً، عدم التّملّك بالغصب والسّرقة والقمار، فكلّ هذه أحكام وضعيّة ثابتة.
من أمثلة المتغيِّر في الحكم الوضعيّ:
الشّرط الضّمنيّ: كخدمة الزّوجة في بيت زوجها بالمقدار المتعارف، طبعاً ليس هناك حكم يقول يجب على الزّوجة أن تخدم زوجها، لكن في الوقت الذي كان متعارفاً في المجتمع أنّ الزّوجة تخدم زوجها، فلو أنّ بنت فلان ستتزوّج من زوجها ابن فلان، فالكلّ يعرف أنّ الزواج وراءه أن تخدم الزّوجة زوجها بالخدمة المتعارفة، فهذا الشّرط غير موجود في العقد -طبعاً تخدمه أو لا تخدمه فهذا أمر مباح بالنّسبة لها-، فهل خدمتها هذه تكون شرطاً من شروطه عليها ومن شروطها على نفسها له؟
في وقت من الأوقات يكون المعروف والمعاش تماماً هو خدمة الزّوجة لزوجها حين يتم العقد يتمّ وكأنّه يقول إنّ على الزّوجة أن تقوم بخدمة زوجها حسب المتعارف، فهنا لا يمكن القول إنّه لم يشترط عليها، لا.. الشرط موجودٌ.
نعم، ليس شرطاً صريحاً ولكن هناك شرط ضمنيّ. قد يأتي وقت ينتهي هذا لكثرة اشتراط الزوجات عدم الخدمة في الوقت الذي كان متعارفاً فيه الخدمة، فيأتي وقت يصبح على الزّوج هو أن يشترط على الزّوجة خدمتها له، في وقت يرتفع فيه هذا الأمر ولا يكون متعارفاً فيه أنّ الزّوجة تخدم زوجها فانتفى الشّرط الضّمنيّ، فهذا حكم وضعي متغيِّر بتغيُّر الزّمان أو المكان.
السّؤال السّادس: بعد إعطاء هذه الأمثلة التّطبيقية -سماحة الشّيخ- هل يمكن أن تبيِّن لنا لماذا بُنيت الشّريعة على هذه الثّنائيّة من الثّابت والمتغيِّر؟
أظنّ أنّ الجواب تقدَّم، وهو أنّ الإسلام في شريعته يتكفّل ببيان الأحكام للمكلَّفين على مدى وجودهم في الأرض. والإنسان كما تقدّم له خصائصه التّامة، كالإدراك والمشاعر والدّوافع المادّيّة والمعنويّة، هذه كلّها لا ينفكّ عنها ولا تنفكّ عنه مادام إنساناً، فالإنسان هو إنسان بفطرته، عنده دافع الأكل، دافع الشّرب، دافع الجنس، دافع حبّ التّملّك، حبّ السيطرة ... فكلّ هذا موجودٌ عنده. وله علاقاته الاجتماعيّة التي تحكمها موازين ثابتة، وهناك علاقات مع اللهa، يحمكها موقع عبوديّتي ومربوبيّتي للهa، وهذا لا يتغيَّر، فلا بدّ من ثابت، فالذي ينظِّم هذه العلاقة الثّابتة لا بدّ من أن يكون ثابتاً، فالذي يلبّي حاجات الإنسان بالقدر المجزي، والمتناسق، (أي: تلبية دوافع الإنسان المادّيّة والمعنويّة بشكلٍ متناسق ومجزٍ ويضع الإنسان على طريق كماله) هذا هل يتغيّر بتغيّر الزّمان؟ لا. هذه المعادلة لا تتغيّر بتغيّر الزّمان، الأحكام لا بدّ من أن تكفل المعادلة الدّقيقة بين هذه الدّوافع وطاقاتها وأدوارها ووظائفها وما إلى ذلك، فهذا ثابتٌ في الإنسان.
هناك في العلاقة الاجتماعيّة حريّة فرديّة وهناك مصلحة اجتماعيّة، وهناك حدود لهذه الحريّة، فلك حريّتك ولي حريّتي، هل هذا يتغيّر بتغيّر الزّمان؟ لا، هناك ضوابط لهذه الحريّة.
حقّ الإنسان في الأمن، في الحياة، في المباحات العامّة من أرض وماء وكلأ ومعادن، وحقّه حاكماً ومحكوماً هل يتغيّر اليوم عن غد؟ لا، لا يتغيّر. وهكذا، والداً وولداً، زوجاً وزوجة. فهناك علاقات ثابتة موجودة.
موجود دوافع ثابتة وموجود هدف ثابت لحياة الإنسان، وموجود حدود لطاقة الإنسان، وموجود معادلات وموازنات لا يعلمها إلّا اللهa  لهذا الإنسان في داخله بين مؤلِّفاته وأبعاد وجوده، وبينه وبين الخارج، فهذه الثوابت كلّها موجودة، فماذا تفعل معها؟ أتجعل الشّريعة كلّ يوم متحرّكة؟
وهناك فارق تكوينيّ بين الرّجل والمرأة -مثلاً- بما هما رجل وامرأة، هذا الفارق له تأثيره الدائم في كلّ منهما، المرأة لم تتحوّل إلى رجل في طبيعتها، والرّجل لا يتحوّل في طبيعته إلى امرأة في كلّ أبعادها.
وكما أنّ للإنسان خصائصه الثّابتة، له ظروفه المتغيّرة وحركته الحضاريّة الصّاعدة التي يطرح تطوّرُها الكبيرُ كثيراً من الأسئلة المستجدّة على الشّريعة، فالصّناعة تتقدّم، الزّراعة تتقدّم، المواصلات، الطّبّ، إلى آخره، كلّ ذلك يفرز ماذا؟ يفرز العديد من المسائل التي تتطلّب أجوبة شرعيّة، فهل على الشّريعة أن تجيب على هذه الأسئلة أو لا؟ فأمام حالات متغيّرة جداً عليها أن تستجيب لحاجة هذه المستجدّات المتطلّبة للحكم الشَّرعيّ. فهذا الجانب يتطلّب من الشّريعة مرونة لا تُفقِدُها أصالتها، وقدرة مستمرّة على الإجابة، لكن هل يتطلّب تغيّراً في الحالة التّشريعية؟ ذاك أمر آخر.
المهمّ أنّ مسؤوليّة الشّريعة ماذا؟ أن تكون مرنة وقادرة على الإجابة على أسئلتك، الإجابة التي تضمن مصلحتك كإنسان، وتضعك على طريقك الموصل إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، أمّا أنّ هذه المرونة تعني تغيُّر الحكم أو بلا تغيُّر حكم، أنّ ثوابت الشّريعة كافية، (ثوابت الشَّريعة طبعاً محدود، نصوص الشّريعة مهما كثرت فهي محدودة، وحركة التّطوّر مستمرّة ومتسعة، فكيف تلبّي النصوص المحدودة حركة الحياة الممتدّة المتطوّرة؟! هذا قد يأتي في قضية معالجات نذكر بعضها، وبعد ما طرح من أنّ التغيّر هو في عالم فعليّة الحكم وليس في عالم تشريع الحكم.
إنتهی الجزء الأول من الحوار ویلیه الجزء الثاني في العدد المستقبل