printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الرابع والأخیر
شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه عند الشيعة الإمامية

▪ الخلط بين المماثل والمشابه‎
‎  ‎والذي ألفت نظر الأستاذ إليه هو أن القياس ليس من باب المماثلة، بل من باب المشابهة، وكم هو الفرق ‏بين ‏التماثل والتشابه، فما ذكره من أن "ما ثبت لشيء ثبت لمثله" راجع إلى المتماثلين، والفرق بينهما ‏واضح، وذلك لأن ‏التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة، فالتجربة في عدة من ‏مصاديق طبيعية واحدة تفيد ‏العلم بأن النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة، ولذلك يقولون: إن التجربة ‏تفيد العلم، وذلك بالبيان التالي‎:‎
‎  ‎إذا أجرينا مثلا تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة كالحديد، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي، ‏والجاذبية، ‏والارتفاع عن سطح البحر، وغيرها مع اتحادها جميعا في التركيب فوجدنا أنها تتمدد مقدارا ‏معينا، ولنسمه (س)، عند ‏درجة خاصة من الحرارة، ولنسمها (ح). ثم كررنا هذه التجربة على هذه ‏الجزئيات في مراحل مختلفة في أمكنة ‏متعددة، وتحت ظروف متغايرة ووجدنا النتيجة صادقة تماما: ‏يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح)، فهنا ‏نستكشف أن التمدد بهذا المقدار المعين معلول لتلك ‏الدرجة الخاصة من الحرارة فقط، دون غيرها من العوامل، ‏فعندئذ يقال: "ما ثبت لشيء ثبت لمثله"، أو ‏حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد‎.‎
‎  ‎وأما التشابه فهو عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما، وهذا ‏كالخمر ‏والفقاع فإنهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار، فلو أثبتت التجربة أن للخمر أثرا خاصا لا ‏يمكن القول بثبوته ‏للفقاع والنبذي، بل لا بد من التماس الدليل على المشاركة وراء المشابهة‎.‎
‎  ‎وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء، فإن ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية، أنواع مختلفة، فلو ‏رأينا هذا ‏الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كل يحرك فكه الأسفل عند المضغ ربما نحكم بلا جزم ‏بذلك على سائر ‏الحيوانات من دون أن تكون بينهما وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة، والدافع إلى ذلك ‏التعدي في الحكم وهو ‏التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد، رغم اختلافها في الفصول ‏والأشكال، ولكن لا يمكن الجزم ‏بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي، لإمكان اختلاف أفراد نوعين ‏مختلفين في الحكم‎.‎
‎  ‎وبذلك يعلم أن القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل، ومن المعلوم ‏أن ‏تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلا إذا كان هنالك مساعدة من جانب ‏العرف لإلغاء ‏الخصوصية، وإلا يكون التعميم عملا بلا دليل‎.‎
‎  ‎مثلا، دل الكتاب العزيز على أن السارق والسارقة تقطع أيديهما، والحكم على عنوان السارق فهل يلحق ‏به النباش ‏الذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإن التسوية بين العنوانين أمر مشكل، يقول السرخسي: «لا ‏يجوز استعمال القياس ‏في إلحاق النباش بالسارق في حكم القطع، لأن القطع بالنص واجب على ‏السارق‎‏».‏
‎  ‎والحاصل أن هناك فرقا واضحا بين فردين من طبيعة واحدة، فيصح تعميم حكم الفرد إلى الفرد الآخر ‏لغاية ‏اشتراكهما في النوعية، وأن حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، لكن بشرط أن يثبت أن ‏الحكم من لوازم ‏الطبيعة لا الخصوصيات الفردية‎.‎
‎  ‎وأما المتشابهان فهما فردان من طبيعيتين كالإنسان والفرس يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من ‏الأشياء، فهل ‏يصح تعميم حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلا، إلا إذا دل الدليل على أن الوحدة الجنسية سبب ‏الحكم ومناطه وملاكه ‏التام، كما دل الدليل في أن سبب الحرمة في الخمر هو الإسكار، وإلا فلا يصح ‏إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة ‏أخرى بمجرد التشابه بينهما، أو الاشتراك في عرض من الأعراض‎.‎
▪ الدليل العقلي وحجية المصلحة‎
قد تعرفت على أن العقل أحد مصادر التشريع أو بالأحرى أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي‎.‎
ومجال الحكم العقلي غالبا أحد الأمور التالية‎:‎
‏1‏‎- ‎التحسين والتقبيح العقليان‎.‎
‏2‏‎- ‎أبواب الملازمات: من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته وحرمة ضده، والملازمة بين النهي ‏عن العبادة ‏أو المعاملة وفسادها إلى غير ذلك مما يرجع إلى باب الملازمة‎.‎
‏3‏‎- ‎أبواب التزاحم: أي تزاحم المصالح التي لا بد من أخذها، كإنقاذ أحد الغريقين مع العجز عن إنقاذ ‏كليهما، أو ‏تزاحم المصالح والمفاسد كتترس العدو بالمسلمين، فإن للعقل دورا فيها، وله ضوابط لتقديم ‏إحدى المصلحتين على ‏الأخرى، أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس (وهي مذكورة في مظانها)‏‎.‎
ولا غبار على حجية العقل في هذه الموارد، إنما الكلام في حجية المصلحة وعدها من مصادر التشريع ‏فيما لا نص ‏فيه، فقد ذهب عدة من فقهاء السنة إلى حجية المصلحة، وسماها المالكية بالمصالح المرسلة، ‏والغزالي بالاستصلاح، ‏وحاصل دليلهم على حجية المصلحة وكونها من مصادر التشريع كالتالي‎:‎
إن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه ‏تطورهم ‏واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في ‏مختلف الأزمنة والأمكنة، ‏ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد ‏بالتشريع من تحقيق مصالح الناس‎‏.‏
وحاصل هذا الوجه ادعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب ‏والسنة، لأن ‏حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لا زالت تتزايد كل يوم، فإذا لم تكن هناك تشريعات ‏تتلاءم مع هذه الحاجيات ‏لم تتحقق مقاصد الشريعة‎.‎
ثم إن السبب لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأمور التالية‎:‎
‏1‏‎- ‎إهمال العقل وعدم عده من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين‎.‎
‏2‏‎- ‎إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالا سياسيا، فقد صار ذلك سببا لوقف الدراسات ‏الفقهية منذ ‏قرون، وفي ظل ذلك توهم المتأخرون وجود النقص في التشريع الإسلامي وعدم كفايته ‏لتحقيق مقاصد الشريعة ‏فلجأوا إلى عد المصالح المرسلة من مصادره، وبذلك وجهوا قول من يعتقد ‏بحجية المصالح المرسلة من أئمة ‏المذاهب‎.‎
‏3‏‎- ‎عدم دراسة عناوين الأحكام الأولية والثانوية كأدلة الضرر والجرح والاضطرار والنسيان، فإن هذه ‏العناوين وما ‏يشابهها تحل أكثر المشاكل التي كان علماء السنة يواجهونها، من دون حاجة لعد الاستصلاح ‏من مصادر التشريع‎.‎
‏4‏‎- ‎عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع ‏المفسدة ‏أحكاما مؤقتة ما دام الملاك موجودا‎.‎
والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية هي أن الطائفة الأولى أحكام شرعية جاء بها النبي  لتبقى خالدة ‏إلى يوم ‏القيامة، وأما الطائفة الثانية فإنما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء ‏سائر القوانين) لرفع ‏المشاكل المتعلقة بحياة المجتمع الإسلامي‎.‎
هذه هي حقيقة المصالح المرسلة. ثم إنهم مثلوا للمقام بأمثلة، نذكر منها ما يلي‎:‎
‎    ‎‏1‏‎.  ‎جمع القران الكريم في مصحف بعد رحيل النبي‎.‎
‎    ‎‏2‏‎.  ‎قتال مانعي الزكاة‎.‎
‎    ‎‏3‏‎.  ‎وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة‎.‎
‎    ‎‏4‏‎.  ‎إنشاء الدواوين‎.‎
‎    ‎‏5‏‎.  ‎سك النقود‎.‎
‎    ‎‏6‏‎.  ‎فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال لا بد منه لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد ‏وغير ‏ذلك‎.‎
‎    ‎‏7‏‎.  ‎سجن المتهم كي لا يفر‎.‎
‎    ‎‏8‏‎.  ‎حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس‎.‎
ثم إن بعض المغالين ربما يتجاوز، فيمثل بأمور لا تبررها أدلة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثا، مع أن ‏الحكم ‏الشرعي هو كونه طلاقا واحد في عصر النبي  وبرهة بعد رحيله، وهذا من باب تقديم المصلحة ‏على النص‎.‎
ثم إن للإمامية في العمل بالمصالح مذهبا وسطا أوضحناه في كتابنا، وليست الإمامية ممن ترفضه بتاتا ‏كما تصوره ‏الأستاذ أو تقبله في عامة الصور‎.‎
هذا إجمال الكلام في المصالح المرسلة -والتفصيل مع مالها وما فيها يطلب من محله- إذا عرفت ذلك ‏فهلم معي ‏نقرأ ما ذكره الدكتور الريسوني في هذا الموضوع، قال: «فتارة تدخل تحت اسم "الدليل ‏العقلي" حيث يدرجون ‏ضمنه -مثلا- اعتبار "الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة"، وهذا ‏عين اعتبار المصلحة. كما أن  من ‏القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة "وجوب مقدمة ‏الواجب"، وهي المعبر عنها ب«ما لا يتم الواجب إلا ‏به فهو واجب"، ذلك أن معظم المصالح المرسلة هي ‏من قبيل "ما لا يتم الواجب إلا به"، فهي مقدمات أو وسائل ‏لواجبات أخرى، ومثلها قاعدة "كل ما هو ‏ضد الواجب فهو غير جائز"، فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد. وتارة ‏يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما ‏يسمى عندهم "السيرة العُقَلائية" أو "بناء العقلاء"، وهو في الوقت نفسه من ‏المصالح المرسلة‎‏».‏
وحاصل كلامه: أنه تدخل تحت حجية المصلحة القواعد التالية‎:‎
1.‎وجوب مقدمة الواجب‎.‎
‏2.‏‎ ‎حرمة ضد الواجب‎.‎
‏3‏‎. ‎حجية بناء العقلاء وسيرتهم‎.‎
‏4‏‎.  ‎الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة‎.‎
‎  ‎فهي نفس العمل بالمصلحة مع أنهم يدخلونها تحت "الدليل العقلي‎".‎
‎  ‎يلاحظ عليه: أن اشتمال هذه القواعد على المصالح ودرء المفاسد غير كون المصلحة سببا لتشريعها ‏ومبدأ لتقنينها، ‏فإن الدليل على وجوب مقدمة الواجب أو حرمة ضد الواجب حكم العقل بالملازمة بين ‏الإرادتين، فمن حاول ‏الوقوف على السطح لا محيص له من إرادة نصب السلم، أو ركوب المصعد‎.‎
‎  ‎فاشتمال المقدمة على المصلحة أو اشتمال الضد على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم ‏بالوجوب ‏والحرمة‎.‎
‎  ‎وأما حجية بناء العقلاء، فإن أساسها كونه بمرأى ومسمع من الشارع وهو إمضاؤه، لهذا لو كان غير ‏مرضي عنده ‏لما سكت عن النهي عنه، لقبح السكوت عما يجب إغراء الأمة، ولولا إمضاؤه لما صح ‏الاعتماد عليه في الفقه، كما ‏هو الحال في السير التي رفضها الشارع كبيع الخمر والكلب والخنزير ‏والتملك بالمقارنة‎.‎
‎  ‎وبه يظهر حكم القاعدة الرابعة، فإن الحكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف، لا قاعدة ‏المصالح ‏المرسلة، وإن كان في الجلب والدرء مصلحة، وبالجملة: الأمور الجانبية، ليست أساسا لحكم ‏العقل في مورد هذه ‏القواعد‎.‎
نحن نفترض أن لهذه المسائل طابعا عقليا كما أن لها طابعا استصلاحيا، فلو كان الوصول إليها من دليل ‏العقل أمرا ‏غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله، فلماذا يوجه اللوم إلى الفريق ‏الأول دون الثاني أو ليس ‏هذا المورد من مصاديق المثل السائر: «رمتني بدائها وانسلت»؟
٭ ٭ ٭
‎  ‎هذه بعض الملاحظات على كلام الأستاذ حفظه الله ونفعنا بعلومه، وبقيت في كلامه أمور أخرى يظهر ‏النظر فيها ‏من بعض ما ذكرنا‎.‎
‎  ‎وفي الختام ندعو له ولعامة الإخوان في المملكة المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية ‏بدوام ‏التوفيق والسداد‎.‎
‎  ‎والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‎.‎
‎   ‎قم المقدسة، إيران‎.‎ /غرة ربيع الأول 1426ه‎.‎
المصدر: مجلة الواضحة، العدد الثالث‏