printlogo


printlogo


□ مقالة
الامام محمد الجواد(ع) عبقرية وسخاء وعلم بلا حدود
من أروع صور الفكر والعلم في الإسلام الإمام أبو جعفر الثاني محمّد الجواد(ع) الذي حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره، وقد أقبل عليه العلماء والفقهاء ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، وهم ينتهلون من نمير علومه وآدابه، وقد روى عنه الفقهاء الشيء الكثير ممّا يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلامية من العبادات والمعاملات وغير ذلك من أبواب الفقه، وقد دوّنت في موسوعات الفقه والحديث.

لقد كان هذا الإمام العظيم أحد المؤسّسين لفقه أهل البيت(ع) الذي يمثّل الإبداع والأصالة، وتطور الفكر.
وروى عنه العلماء ألواناً ممتعة من الحكم والآداب التي تتعلّق بمكارم الأخلاق وآداب السلوك، وهي من أثمن ما أثر عن الإسلام من غرر الحكم التي عالجت مختلف القضايا التربوية والأخلاقية.
ودلّل الإمام أبو جعفر الجواد(ع) بمواهبه وعبقرياته، وملكاته العلميّة الهائلة التي لاتُحدّ على الواقع المشرق الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية من أنّ الإمام لابدّ أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم من دون فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، فإنّ الله أمدَّ أئمّة أهل البيت(ع) بالعلم والحكمة وفصل الخطاب كما أمدَّ اُولي العزم من أنبيائه ورسله، وتعتبر هذه إحدى العناصر الحيّة في عقيدة الشيعة.
لقد برهن الإمام أبو جعفر(ع) على ذلك فقد تقلّد الإمامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الإمام الرضا(ع) وكان عمره الشريف  فيما أجمع عليه المؤرّخين  لايتجاوز السبع سنين، وهو دور لايسمح لصحابة  حسب سيكلوجية الطفل  أن يخوض في أي ميدان من ميادين العلوم العقلية، أو يدخل في عالم المناظرات والبحوث الجدلية، مع كبار العلماء والمتخصّصين فإنّ ذلك غير ممكن لمن كان في سن الطفولة. إلاّ أنّ الإمام الجواد(ع) وهو بهذا السنّ قد خرق هذه العادة.
فقد سأله أشهر علماء عصره عن أعقد المسائل الفلسفية والكلامية والفقهية فأجابهم عنها، وكان ممّن سأله يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد الذي انتخبه العباسيون لامتحان الإمام فسأله عن مسألة فقهية، ففرّع الإمام عليها عدّة فروع ثمّ سأله عن أي فرع أراده منها، فلم يهتدِ يحيى لذلك، ولم يستطع أن يتخلّص ممّا هو فيه، واعترف بعدم قدرته على مجاراة الإمام.
ولقد شغلت مناظراته مع يحيى وغيره من علماء عصره الرأي العام في بغداد وغيرها، فكانت حديث الأندية والمجالس، وتحدّث بها الركبان، ولا تزال تسجّل له الاعجاب على امتداد التاريخ..
وممّا يدلّل على مدى ثرواته العلمية، وهو بهذا السن انّ فقهاء الشيعة بعد وفاة الإمام الرضا(ع) قد خفّوا إلى يثرب للتعرّف على الإمام القائم من بعده، فأرشدهم الثقات إلى الإمام الجواد فمثلوا أمامه وسألوه عن أعمق المسائل، وأكثرها تعقيداً فأجابهم عنها، ويقول الرواة: انّه سئل في موضع آخر عن ثلاثين ألف مسالة فأجاب عنها، ومن الطبيعي أنّه لا تعليل لهذه الظاهرة المحيّرة والمذهلة للفكر إلاّ بما تذهب إليه الشيعة الإمامية من أنّ أئمّة أهل البيت(ع) قد منحهم الله تعالى العلم وآتاهم من الفضل ما لم يؤت أحداً من الناس.
ويقول بعض المؤرّخين: إنّ مواهب الإمام الجواد(ع) وعبقرياته قد ملكت عواطف المأمون، ومشاعره فأخلص له في الحبّ والولاء فقدّمه على أبنائه، وأهل بيته، وزوّجه من ابنته اُمّ الفضل، ووفّر له العطاء الجزيل، وأوعز إلى جهاز حكومته وسائر الأوساط الرسمية باحترامه وتبجيله. إلاّ أنّه واقع لذلك كما سنعرض له في بحوث هذا الكتاب.
ولم يلق الإمام الجواد(ع) أي ضغط اقتصادي طيلة حياته وإنّما عاش مرفهاً عليه غاية الترفيه فقد أجرى له المأمون مرتباً سنوياً يبلغ حوالي مليون درهم، وهي كثيرة في ذلك العصر الذي كان الدرهم فيه يساوي قيمة شاة.
وكانت ترد إليه الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية التي تذهب الشيعة إلى لزوم دفعها إلى الإمام، كنصف الخمس الذي يسمّيه فقهاء الشيعة الإمامية بحقّ الإمام(ع) وكمجهول المالك وغيره من سائر الحقوق الشرعية بالإضافة إلى واردات الأوقاف التي وقفها على أهل البيت(ع) بعض المحسنين من الشيعة في (قم) وغيرها وكان(ع) يقتصد في صرفه على نفسه، وينفق تلك الأموال الطائلة على فقراء المسلمين وذوي الحاجة، ولهذا السخاء المنقطع النظير، فقد لقّب(ع) بالجواد وكان هذا اللقب من أميز ألقابه وأشهرها حتى عُرِف واشتهر به بين الناس.
واُحيط الإمام محمّد الجواد(ع) بهالة من الحفاوة والتكريم، وقابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار والتعظيم، فكانت ترى في شخصيّته امتداداً ذاتياً لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية والخير إلى الناس. إلاّ أنّه لم يحفل بتلك المظاهر التي اُحيط بها، وإنّما آثر الزهد في الدنيا والتجرّد عن جميع مباهجها.
وقد رآه الحسين في بغداد، وقد إلتفّت حوله الجماهير، فحدّثته نفسه بأنّه لا يرجع إلى ما كان عليه من الزهد في الدنيا والاقبال على الله، وشعر الإمام منه ذلك، فأقبل عليه بلطف ورفق قائلاً:
(يا حسين، إن خبز الشعير، وملح الجريش في حرم جدّي رسول الله(ص) أحبُّ إليَّ ممّا تراني فيه...).
وكانت هذه الظاهرة إحدى العناصر البارزة في سيرة الإمام محمّد الجواد(ع) كما كانت السمة البارزة في سيرة أئمّة أهل البيت(ع)، فلم يؤثر عن أي أحد منهم أنّه سعى للدنيا، أو اتّجه نحو مباهجها، وإنّما آثروا جميعاً طاعة الله وابتغوا الدار الآخرة، وعملوا كلّ ما يقرّبهم إلى الله زلفى.
وعاش الإمام محمّد الجواد(ع) في تلك الفترة القصيرة من حياته متّجهاً صوب العلم فرفع مناره، وأرسى اُصوله وقواعده، فاستغل مدّة بقائه في بغداد بالتدريس وإشاعة العلم، وبلورة الفكر بالمعارف والآداب الإسلامية، وقد احتف به جمهور كبير من العلماء والرواة وهم يأخذون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة، وعلم الفقه، والتفسير، ويعرض هذا الكتاب إلى تراجمهم وإعطاء صورة مفصّلة عن حياتهم حسبما تنصّ عليه مصادر التراجم، فإنّ الحديث عنهم من مكمّلات البحث عن شخصيّة الإمام(ع).
أمّا عصر الإمام الجواد(ع) فهو من أروع العصور الإسلامية على امتداد التاريخ وذلك لانتشار الحضارة فيه على نطاق واسع، وكان من أروع صور تلك الحضارة تطوّر العلوم، وانتشار المعاهد، وإنشار المعاهد، وإنشاء المكتبات وترجمة الكتب الطبيّة، والفلسفية من اللغة اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية، وقد صارت بغداد حاضرة من أعظم حواضر العلم والفكر في الإسلام فقد ازدهرت بكبار العلماء والمتخصّصين في علوم الطبّ واللغة والفقه وغيرها إلى اللغة وغيرها كما تطوّرت الحياة الاقتصادية في بغداد إلى حدّ غريب إلاّ أنّه من المؤسف أنّه قد تكدّست الملايين من الأموال عند بعض الطبقات، وهي التي كانت تخدم السلطة العبّاسية، وتعمل لصالحها، فقد أثرت هذه الطبقة ثراءً فاحشاً حتى حارت في صرف ما عندها من الأموال، حتى صنعت أبواب بيوتها من الذهب، وتفنّنت في أنواع الترف والشهوات في حين أنّ الأكثرية الساحقة من الشعوب الإسلامية كانت تعاني مرارة العيش والفقر والحرمان.
ونحن مدعوّون إلى دراسة عصر الإمام محمّد الجواد(ع) والوقوف على جميع معالمه الحضارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فقد أصبحت دراسة العصر بهذا اللون من البحوث المنهجية التي لاغنى للباحث عنها، ولم يعهد هذا الكتاب دراسة خاصّة عن حياة الإمام الجواد(ع) فقط وإنّما هو دراسة شاملة ومستوعبة للعصر الإسلامي الذي نشأ فيه.
أمّا البحث عن حياة الملوك الذين عاصرهم الإمام الجواد(ع) فإنّه يرتبط ارتباطاً وثيقاً وموضوعيّاً بحياة الإمام فإنّه يصوّر مدى ما عاناه من المشاكل وما عانته الاُمّة الإسلامية من المصاعب والخطوب في دور اُولئك الملوك الذين جهدوا على ظلم الناس وارغامهم على ما يكرهون.
وقد قضى الإمام أبو جعفر(ع) أكثر أيام حياته في عهد المأمون الذي هو من أبرز ملوك العبّاسيّين فكراً وسياسة، ومقدرته للتغلب على الأحداث، وقد عرضنا بصورة موضوعيّة إلى دراسة، ودراسة الأحداث السياسية التي وقعت في عهده، والتي كان من أبرزها:
عقده لولاية العهد للإمام الرضا(ع) والحروب الطاحنة التي وقعت بينه وبين أخيه الأمين، وواقعة أبي السرايا، وغير ذلك من الأحداث، وقد ذكرنا الأسباب التي أدّت إلى أن يزوّج المأمون ابنته اُمّ الفضل من الإمام الجواد(ع) كما ذكرنا دراسة عن حياة المعتصم العبّاسي الذي قاسى الإمام في عهده أشد ألوان الاضطهاد فأرغمه على مغادرة يثرب والإقامة الجرية في بغداد، وأقام عليه المباحث تحصي عليه جميع تصرّفاته، وتراقب جميع من يتّصل به، ولمّا استبان له سموّ شخصية الإمام وأنّه لا يجاريه ولا يسايره ولا يقرّ سياسته الهادفة إلى نشر الظلم والفساد في الأرض فحينئذٍ دسّ له السمّ على يد زوجته اُمّ الفضل فاغتاله، وكان الإمام في غضارة العمر وريعان الشباب، ويعرض هذا الكتاب إلى تفصيل ذلك كله.
لا أرى هناك عائدة على الاُمّة، أو خدمة تؤدّي إليها أفضل من نشر حياة أئمّة أهل البيت(ع) وإذاعة مآثرهم، ونشر فضائلهم بين الناس فإنّهم(ع) المصدر الأصيل لكرامة الإنسان، وشرفه، والينابيع الفيّاضة للفكر والوعي، لا لهذه الاُمّة فحسب، وإنّما للناس جميعاً على اختلاف قوميّاتهم، وأديانهم، وميولهم.. وقد رفعوا راية الحق عالية خفّاقة، وهي ترشد الضالّ، وتهدي الحائر، وتوضّح القصد، وتدللّ على الإيمان بالله الذي تبتني عليه قوى الخير والسلام في الأرض. إنّ البحث عن سير أئمّة أهل البيت(ع) يكشف عن كنوز مشرقة من العلم والحكمة ويكشف عن ذوات أخلصوا للحقّ، وخلقوا للإيمان واتّجهوا صوب الله تعالى، وتبنّوا الدعوة إليه، وعانوا في سبيل ذلك من فراعنة عصورهم مالم يعانه أي مصلح اجتماعي في الأرض، إنّ الإمام الجواد(ع) أحد كواكب تلك العترة الطاهرة، وهو ممّن رفع كلمة الله، فامتحن كأشدّ ما يكون الامتحان من أجل ذلك قابله فراعنة عصره وطواغيت زمانه، بألوان قاسية من الاضطهاد والجور ويوضّح هذا الكتاب جميع هذه الجوانب.
ولم تحظّ المكتبة العربية بدراسة عن حياة الإمام أبي جعفر الجواد(ع) الذي هو من منابع الفكر والعلم في الإسلام، وأحد مفاخره هذه الاُمّة وقادتها الطليعيّين فلم يكتب أحد عن سيرته سوى محمّد بن وهبان فقد ألّف كتاباً عن حياته أسماه (أخبار أبي جعفر الثاني) لكنّه لم يوجد في مكتباتنا. ولعلّه من جملة ما فقدته الاُمّة من ثرواتها المخطوطة، أو أنّه في بعض خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.
وقد وفّقت  والحمدلله  إلى البحث عن سيرة هذا الإمام العظيم الذي ملأ الدنيا بفضائله وعلومه وزهده وتقواه، ولا أدّعي أنّي ألممت بجميع جوانب حياته المشرقة، فذاك أمر لا يتّفق مع الواقع الذي نخلص له، وإنّما ألقينا أضواءً خافتة على بعض معالم شخصيّته التي هي امتداد ذاتي  بلا شكّ  لحياة آبائه الطاهرين الذين أضاؤوا الحياة الفكرية والاجتماعية في الإسلام.
 مقتبس من مقدمة كتاب (حياة الإمام محمّد الجواد(ع) دراسة وتحليل)
للشيخ باقر شريف القرشي