□ مقالة/ الحلقة الثانیة
الحاجة إلى الدين في علم الكلام الجديد
□ الشیخ عبدالحکیم الخزاعي
قلنا في الحلقة السابقة ان مبحث الحاجة إلى الدين ظهر جليا في علم الكلام الجديد كمبحث مستقل بينما كان بحثا فرعيا في مبحث النبوة، وسبب ذلك هو النزعة العلمية الحديثة التي تريد إقصاء الدين عن مسرح الحياة بالتالي لم تقبل له دورا عاما في الحياة وارتضت له دورا ثانويا فرديا، وإذا رجعنا إلى علم الكلام الجديد نجده قد تناول البحث حول الحاجة كثيرا بل تم جعله موضوعا أساسيا من موضوعات علم الكلام الجديد أو فلسفة الدين وكما خصصنا بحثنا السابق حول كتاب مهم محوري في علم الكلام القديم إلا وهو كشف المراد في تجريد الاعتقاد، سوف نطل على الموضوع من خلال كتاب مهم أيضا في علم الكلام الجديد الا وهو كتاب (دراسات في علم الكلام الجديد )تأليف حسن يوسفيان فإننا نجده قد تناول الموضوع بشكل جيد ودرسه دراسة موضوعية وافية.
ففي الفصل السادس من الكتاب عقد بحثا كاملا تحت مسمى الحاجة إلى الدين وفيه قسم الحاجة إلى الدين إلى حاجة روحية وحاجة اجتماعية.
▪ الحاجة الروحية إلى الدين
1. إضفاء المعنى على الحياة: يقول اريك فروم عالم النفس الألماني ((لا يشعر الإنسان المعاصر بالأمان، بل يشعر في أكثر أوقاته بالحيرة والضياع وهو يعمل بشكل دائم، ولكنه يشعر بعبثية ما يفعله بشكل مستمر).
بهذا إستهل بحثه يوسفيان عن موضوع معننة الحياة ويبدو أنها قضية تمس الإنسان المعاصر كثيرا وإن كانت مشكلة العدمية وعدم الوضوح في المعنى وقضية الموت قديمة جدا بقدم الإنسان وقد جعلها بعض الباحثين سبب وجود الفلسفة والأفكار، ومعنى أن الدين يجعل معنى للحياة أن الإنسان المؤمن بالله لايرى شيئا وضع في غير محله، بل يعتقد أن العالم كله خاضع لنظام دقيق. وعلى حد تعبير مطهري: العالم الإلهي هو عالم الخير والوجود والوحدة والإنسجام وكل موجود في أيّ مرتبة كان يتناسب مع رتبته الوجودية وقدرته على إستيعاب الفيض الإلهي وبحسب هذه النظرة إلى الوجود وحدها يمكن وصف الكون بأنه النظام الأحسن وبأنه أفضل العوالم الممكنة وهذه الرؤية هي التي تنشر على صاحبها السكينة والاطمئنان.
وفي قبال هذه النظرة المتفائلة إلى الوجود والتي تؤثر في نظرة الإنسان إلى نفسه وهدفه، توجد نظرات أخرى معتمة في الأدب والفلسفة؛ مثل النظرة اللاأدرية أو الشكية المفرطة أو العدمية السوداء التي سادت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بل تمتد إلى القرون التي قبلها.
إن الدين يقول على لسان القرآن الكريم: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب )وهذا الاطمئنان يعيشه الإنسان على عدة مستويات: مستوى الاطمئنان العقلي في قبال الشك المطلق وليس الشك النسبي الذي يعيشه كل إنسان وهو دافع ومقدمة للمعرفة. الشك النسبي الذي يجعل الإنسان باحثا ومتسائلا وليس كسولا مما يجعل الإنسان متعطشا للعلم وبذلك يرتوي ويعيش لذة العلم والمعرفة التي لا تضاهيها اي لذة أخرى.
والمستوى الآخر من الاطمئنان هو الاطمئنان القلبي الذي يأتي وراء الاطمئنان العقلي، فقد يكون العقل جازما مطمئنا لكن القلب فيه تردد وفيه حركة، فيريد السكون والثبات وهذا لعله ما تريد أن تبعثه قصة إبراهيم الخليل في طلبه من الله رؤية إحياء الموتى في قوله: (ليطمئن قلبي). ولعل قوله: (بلى) إشارة إلى تسليم العقل بالمعاد واطمئنان القلب الى قضية وراء الإيمان الساذج وهو الإيمان القلبي العميق الذي هو رؤية باطن الأشياء وملكوتها (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين ).
ولاشك أن الاطمئنان العقلي والقلبي يجعل روح الإنسان كلها كذلك وهذا يظهر على الجسد فيتخلص الإنسان من الأمراض النفسية والهموم القلبية والقلق الذي يعذب روحه وكل ذلك ببركة الدين والإيمان بالله، وهذا لم يأتي عبر التقليد والتلقين والعقل الجمعي ولقلقة اللسان؛ بل عبر الوعي والإيمان الحقيقي والعمل والجهاد الاكبر. فليس هذا الأمر يشمل كل معتقد بالدين بل من فهم جوهر الدين وروحه وحقيقته قال الله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا بل قولوا أسلمنا).
2. ري العطش إلى الخلود: الرغبة في عدم الفناء والخلود من الحاجات الأساس التي تضرب جذورها في أعماق الروح الإنسانية وفي المقابل، الخوف من الفناء وانتهاء الحياة بالموت هما من أشد الأمور التي تثير خوف الإنسان واضطرابه.
ليس الناس تواقين إلى الحياة في هذا العالم بل هم تواقون اليها في القبر أيضا، ولا يكفي أحدهم أن تبقى آثاره حية من ورائه فما نرغب فيه قبل أي شيء هو أن نبقى نحن أحياء، ونشتاق إلى اللقاء بأحبتنا بعد الموت ونتنزه معهم في عالم ملؤه السلام والعدالة.
فالإنسان تواق إلى الخلود ويطلب ذلك وما يروي عطشه هو الاعتقاد بالدين خصوصا مبدأ المعاد الذي يقول له انك خالد. يقول وقد روي عن الرسول محمد(ص) (ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار.)
وفرق بين عقيدة وفلسفة تقول للإنسان انك زائل بزوال جسدك وبين عقيدة تقول له انك خالد بخلود روحك. ان هذه العقيدة لها تأثير على عقل الإنسان وروحه وفكره وأخلاقه وسلوكه في الحياة الدنيا وتشكل نوعا من الرؤية الكونية خصوصا أن المعاد هو عالم الجزاء وعالم تتجلى فيه العدالة الإلهية كاملا (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا).
تساعد الأديان الإلهية الإنسان على إشباع هذه الحاجة النفسية الأصيلة عنده، وذلك من خلال التأكيد على الحياة بعد الموت، وليس ذلك من خلال تقديم تفسير محبب للموت، بل من خلال ريّ عطش الإنسان إلى الخلود وبذلك يتحول الموت بحسب التفسير الديني إلى منطلق للحياة الحقيقية. وهذا التفسير للموت يضفي على (الحياة) معنى آخر كما يمنح (الإيثار والتضحية ) معناهما، ويجعل المؤمنين بالله يقبلون على الشهادة بعشق. وما أعذب وصف الإمام علي(ع) لعلاقته بالموت حين يقول: (والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه).
بل نجد ان القرآن الكريم يسمي الحياة الآخرة بالحيوان أي الحياة الحقيقية، وهذه إشارة إلى أن هذه الحياة ليس بأصيلة بل الأصالة والوجود الحقيقي هو للعالم الآخر. لذلك قالت الروايات ان هذه دار ممر وليست دار مقر وخذوا من ممركم إلى مقركم، وإنها دار مجاز وظل نستظل به قليلا ثم نرتحل عنه. وكل هذا يأتي بعد الموت، لذلك تنقلب نظرة الإنسان إلى الموت هنا إلى حقيقة أخرى فيراه وجودا لا عدما.
3.رفع القدرة على الصبر والتحمل:قال تعالى: (واصبر وما صبرك الا بالله)
يعيش الإنسان في هذه الحياة ويواجه صعوبات كثيرة؛ منها صعوبات كونية ترتبط بالكون ونظامه ومنها اجتماعية ترتبط بالنظام الاجتماعي، لذلك يحتاج طاقة كبيرة من الصبر والتحمل والدين يساهم مساهمة كبيرة في ذلك. دور الدين في رفع قدرة الإنسان على الصبر والتحمل واضح إلى درجة دعت بعض علماء الاجتماع إلى جعل هذه الحقيقة منشأ لظهور الدين في ساحة الاجتماع الإنساني: ان الدين هو في الأساس جواب وردة فعل انسانية تجاه الصعوبات التي تواجه الانسان في حياته، وهو يحاول من خلال الدين التعويض عن الظلم والتجارب الصعبة التي يمر بها.
يقول ويليام:عندما تسقط كل الرهانات وتخيب كل الآمال في معركة الحياة وتذهب إدراج الرياح تتحرك في حنايا نفوسنا المشاعر الدينية بشكل مدهش، وتضفي على حياتنا المبددة لونا آخر ورونقا جديدا.
وقد مدح الله الصابرين في كتابه المجيد بل تم جعل الصبر للايمان بمنزلة الرأس من الجسد ووردت أحاديث كثيرة في منزلة الصبر والقرآن يقول عن الصابرين إن لهم أجرا بدون حساب. فالايمان بوعد الله ووعيده وثوابه العظيم يجعل الانسان صابرا وهذا يجعله قويا غير منهارا، بخلاف من يفقد صفة الايمان الراسخ بالله فانه يكون عرضة للهزائم المستمرة؛ سواء كانت هزائم نفسية أو هزائم خارجية. يقول الله تعالى عن سبب الفوز بالقتال: (فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين). وماذلك إلا لأن صفة الصبر صفة تجعل الانسان ثابتا عند الشدائد كما قال الامام علي(ع): (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة,تجارة مربحة يسرها لهم ربهم.)
4.التخفيف من القلق والاضطراب: من أكثر القضايا التي تقلق الانسان هو المستقبل والخوف منه ومن تقلباته؛ سواء على مستوى اصل وجود الانسان أو ما يتعلق به من ذوات وصفات، فهو يخاف على رزقه وزوال معيشته ويخاف من تقلبات الزمان وغدره وهكذا يكون القلق دائميا، ويأتي هنا الإيمان بالله فيعطيه طاقة من الأمل عبر التوكل على الله والثقة بوعده إذا كان معه، فيكون هذا الإيمان طاقة إيجابية في قلب الإنسان تجعله مطمئنا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب.)
يقول يوسفيان: الإعتقاد بوجود الله العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، يسهم بدرجة كبيرة في التخفيف من قلق الانسان من المستقبل وما يخفيه له فالانسان المؤمن بالله لايفكر في غير أداء التكليف والقيام بالواجب، ولايلتفت كثيرا إلى النتائج التي تترتب على فعله في الحياة الدنيا.
5. النجاة من دوامة الوحدة: الشعور بالغربة أمر متأصل بالإنسان فهو يستوحش من العالم ويتصور أن أشياء العالم أو النوع الإنساني كفيلة برفع الوحشة عنه، لذا يتشبث بها ولكنه سرعان ما يشعر بالإغتراب، لذا أصبح مفهوم الإغتراب مفهوما فلسفيا حديثا، فالتغرب عن الذات سمة العصر مع أنه يعج بكل وسائل الانشغال والانهماك بالعالم لكنه يشعر بقرارة نفسه أنه بعيدا عن ذاته غريبا في هذا العالم بل يزداد غربة ووحشة أكثر وأكثر، وهنا يأتي دور الدين في هذا العصر، ونحن نرى بعكس البعض أن حاجة الإنسان الى الدين تتأكد في هذا العصر المملوء بكل ما يبعد الانسان عن ذاته ويجعله شيئا من الأشياء. فللدين قدرة عجيبة في رجوع الانسان إلى ذاته بل معرفة الذات والتأمل فيها طريقا لمعرفة الرب (من عرف نفسه فقد عرف ربه.)
يقول حسن يوسفيان: (لقد استطاع التقدم التقني والفني في مجال التواصل ردم الهوات الزمانية والمكانية، ولكنه في الوقت نفسه رفع من منسوب الإحساس بالغربة بين القلوب ) وهذا الإحساس بالوحدة الذي هو سبب من أسباب الإكتئاب يأخذ أشكالا عدة ومن أكثر هذه الأشكال إنتشارا ما يتجسد في الإحساس والوعي بأن الإنسان كلما استخدم سلطته وقدرته ألفى نفسه عاجزا عن حل المشكلات التي يواجهها وذلك نتيجة إكتشافه مدى قصوره على مستوى العلم والقدرة.
وفي هذا المقام تظهر أهمية الإيمان بالله الذي يمكن الركون الى علمه وقدرته غير المتناهية للخلاص من دوامة الاحساس بالوحدة التي تكسرها الخلوة به تعالى حيث يقضي الانسان أكثر اللحظات جمالا وروعة. وهذا ما يشير إليه أمير المؤمنين(ع) في قوله وهو يناجي ربه جل وعلا: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ اَلآْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ اَلْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى اَلاِسْتِجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ اَلْأُمُورِ بِيَدِكَ وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»، فغربة الوجود يبددها الإيمان بالله وحده تعالى.
وبهذا نكتفي من الوظيفة النفسية والروحية للدين وفي المقال القادم سنتحدث عن الوظيفة الإجتماعية للدين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
المصدر:مركز الإمام الصادق(ع) للدراسات التخصصية