printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الثاني
شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه عند الشيعة الإمامية

▪ هل سنة وراء سنة النبي؟
السنة هي المصدر الثاني للعقيدة والشريعة، سواء أكانت منقولة باللفظ والمعنى، أو كانت منقولة بالمعنى ‏فقط، إذا كان الناقل ضابطا في النقل. وقد خص الله بها المسلمين دون سائر الأمم حيث إنهم اهتموا بنقل ‏ما أثر عن النبي  من قول وفعل وتقرير، وبذلك صارت السنة من مصادر التشريع الإسلامي‎.‎
وقد أكد أئمة أهل البيت(ع) على أن السنة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، وأن جميع ما ‏يحتاج الناس إليه قد بينه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنة نبيه‎ .‎
قال الإمام الباقر(ع): «إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه ‏لرسوله، وجعل لكل شيء حدا، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا.»‏
وقال الإمام الصادق عليه(ع): «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة.»‏
وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(ع) قال: «قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة ‏نبيه، أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه.»‏
روى أسامة قال: «كنت عند أبي عبد الله(ع) وعنده رجل من المغيرية() فسأله عن شيء من السنن ‏فقال: «ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه سنة من الله ومن رسوله، ولولا ذلك ما ‏احتج علينا بما احتج؟"؛ فقال المغيري: "وبم احتج؟" فقال أبو عبد الله(ع): قوله (اليوم أكملت لكم ‏دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، فلو لم يكمل سنته وفرائضه وما يحتاج إليه ‏الناس، ما احتج به.»‏
روى أبو حمزة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله  في خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس اتقوا الله، ما ‏من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به» إلى غير ذلك من ‏النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت(ع) من التأكيد على السنة والركون إليها‎.‎
▪  ‎أئمة أهل البيت(ع) حفظة سنن الرسول‎
كان النبي الأكرم  يقوم بأمور ومهام لها صلة بالجوانب المعنوية بالإضافة إلى إدارة دفة الحكم، وهي‎:‎
‏1‏‎ - ‎تبيين الأحكام الشرعية والإجابة عن الحوادث المستجدة التي لم يبين حكمها في الكتاب ولا في ‏السنة الصادرة إلى يومها‎.‎
‏2‏‎ - ‎تفسير القرآن الكريم وتبيين مجملاته وتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته‎.‎
‏3‏‎ - ‎الرد على الشبهات والتشكيكات التي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى بعد الهجرة‎.‎
ومن المعلوم أن من يقوم بهذه المسؤوليات سوف يورث فقده فراغا هائلا في نفس هذه المجالات، ومن ‏الخطأ أن نتهم النبي  -والعياذ بالله- أنه قد ارتحل من دون أن يفكر في ملء تلك الثغرات المعنوية ‏الحاصلة برحيله‎..‎
فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي  نقف على أنه قد سد هذه الثغرات باستخلاف من جعلهم قرناء الكتاب ‏وأعداله، وأناط هداية الأمة بالتمسك بهما، ونذكر نماذج من كلماته  في هذا المجال‎:‎
‏1‏‎ - ‎روى ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول" عن جابر بن عبد الله قال: «رأيت رسول الله  في حجة ‏الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن ‏تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.»‏
‏2‏‎ - ‎وأخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: «قام رسول الله  يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما ‏بين مكة والمدينة، وحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر ‏يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا ‏بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه.. ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، ‏أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.»‏
‏3‏‎ - ‎أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «رأيت رسول الله  في حجة يوم ‏عرفة على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن ‏تضلوا: كتاب الله وعترتي.»‏
‏4‏‎ - ‎أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : إني تارك فيكم الثقلين أحدهما ‏أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود الى السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى ‏يردا علي الحوض‎.‎
‎  ‎وهذا الحديث المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابيا، ودونه ما يربو على ‏ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم والفنون، وفي جميع الأعصار والقرون، فهو حديث صحيح ‏متواتر بين المسلمين، وقد عين النبي  ببركة هذا الحديث من يسد هذه الثغرات ويكون المرجع العلمي بعد ‏رحيله وليس هو إلا أهل بيته‎.‎
‎  ‎وبهذا يتبين أن العترة(ع) عبية علم الرسول، وخزنة سننه، وحفظة كلمه، تعلموها بعناية من الله تبارك ‏وتعالى كما تعلم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد، ولذلك تمنى موسى(ع) أن ‏يعلمه مما علم، قال سبحانه حاكيا عن لسان نبيه موسى(ع) (قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني ‏مما علمت رشدا).‏
‎ ‎وعلى ضوء ذلك فليس لأئمة أهل البيت(ع) سنة ولا تشريع، وما أثر عنهم من قول وفعل وتقرير ‏فإنما يعتبر لكونهم حفظة سنن النبي ، فلا يصدرون ولا يحكمون إلا بسنته. فلو قيل: إن قول الإمام(ع) ‏أو فعله أو تقريره سنة إنما يراد به أنهم تراجم سنة النبي  وأقواله وأفعاله‎.‎
‎  ‎فما قاله العلامة الشيخ المظفر(قد) من أن المعصوم من آل البيت(ع) يجري قوله مجرى قول النبي  ‏من كونه حجة على العباد إنما يريد ذلك. وما أحسن قوله «يجري مجرى قول النبي »، فلو كان أئمة ‏أهل البيت(ع) أصحاب سنن في عرض سنة النبي  فلماذا قال: «ويجري قولهم مجرى قول النبي »؟‎!‎
‎  ‎هذه عقيدة الإمامية من أولهم إلى آخرهم، فالتشريع لله سبحانه فقط، والنبي الأكرم  هو المبلغ عن الله ‏سبحانه في ما شرعه، وأئمة أهل بيته خلفاء رسول الله  وحفظة سننه وتراجم كلمه، والمبلغون عنه السنن ‏حتى يجسدوا إكمال الدين في مجالي العقيدة والشريعة‎.‎
‎  ‎وحين قال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم) فإنما هو لأجل نصب علي(ع) أول أئمة أهل البيت ‏(ع) للخلافة لكي يقوم بنفس المسؤوليات التي كان النبي  قائما بها طيلة أيام رسالته، ويملأ الثغرات ‏التي أعقبتها رحلته ، غير أنه نبي يوحى إليه و هذا وصي حافظ لسننه‎.‎
‎  ‎سنة الصحابة في مقابل سنة النبي‎:‎
‎  ‎لقد تبين لنا أن الأستاذ قد عجب من وجود سنة لأهل البيت(ع) ،وقد فسرنا معنى ذلك عند ‏الإمامية، وقلنا بأنه ليس للأئمة سوى سنة النبي ، ولكن ألفت نظره إلى أن أهل السنة قد قالوا بوجود ‏سنن أخرى بعد سنة النبي ، واليك ما يشير إلى ذلك‎:‎
‏1‏‎- ‎الحديث المعروف عندهم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين،  تمسكوا بها وعضوا عليها ‏بالنواجذ.»‏
‎  ‎يقول ابن قيم الجوزية في تفسير الحديث: «فقد قرن سنة خلفائه بسنته وأمر باتباعها كما أمر باتباع ‏سنته،وهذا يتناوله ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم للنبي  فيه شيء، وإلا كان ذلك سنة». فالرواية ‏تدل على أن للصحابة سنة كسنة النبي ، فعندهم سنة أبي بكر وسنة عمر وسنة عثمان وسنة علي‎.‎
‏2‏‎- ‎روى السيوطي أن حاجب بن خليفة قال: «شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في ‏خطبته: على أن ما سن رسول الله  وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه.»‏
‎  ‎أبعد هذه النصوص يصح للأستاذ أن يستغرب من وجود سنة لأئمة أهل البيت(ع) ، أعلام الهدي، ‏ومصابيح الدجى، وقرناء الكتاب، وثاني الثقلين‎..‎
‎  ‎ولولا المخافة من تكدير مياه الصفاء لبسطنا القول في ذلك‎.‎
▪ طرق علم الأئمة بالسنة‎
‎  ‎قد أشرنا إلى أنه ليس لأئمة أهل البيت(ع) سنة خاصة، بل هم حفظة سنن النبي ، ولسائل أن ‏يسأل: ما هي طرقهم إلى سنن النبي  وأكثرهم لم يعاصروه ولم يسمعوا عنه مباشرة، ومن المعلوم أن النبي  ‏قد عاصره الإمام علي والإمامان الحسن(ع) والحسين(ع) فقط؟
‎   ‎والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم، فإن لهم(ع) طرقا إلى ‏سنن النبي  نأتي ببعضها‎:‎
الأول: السماع عن رسول الله‎  :‎
إن الأئمة(ع) يروون أحاديث رسول الله  سماعا منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولذلك ترى في ‏كثير من الروايات أن الإمام الصادق(ع) يقول: "حدثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي ‏عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم". وهذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم‏‎.‎
فأئمة أهل البيت(ع) رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله  عن هذا الطريق‎.‎
الثاني: كتاب علي(ع)‎.‎
كان لعلي(ع) كتاب خاص بإملاء رسول الله ، وقد حفظته العترة الطاهرة(ع)، وصدرت عنه في مواضع ‏كثيرة، ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بث الحر العاملي في موسوعته الحديثية أحاديث ذلك ‏الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة‎.‎
وإليك شذرات من أقوال الأئمة بشأن هذا الكتاب الذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلون به‎:‎
قال الإمام الحسن المجتبى(ع): «إن العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، ومنه لا ‏يحدث شيء إلى يوم القيامة، حتى أرش الخدش، إلا وهو عندنا مكتوب، بإملاء رسول الله وخط علي ‏بيده.»‏
وقال أبو جعفر الباقر(ع) لأحد أصحابه -أعني حُمران بن أعين- وهو يشير إلى بيت كبير: «يا حمران، ‏إن في هذا البيت صحيفة، طولها سبعون ذراعا، بخط علي(ع) وإملاء رسول الله ، ولو ولينا الناس ‏لحكمنا بما أنزل الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة.»‏
وقال(ع) أيضا لبعض أصحابه: «يا جابر، إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا ‏نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله‎ ‎‏.»‏
وقال الإمام الصادق(ع) عندما سئل عن الجامعة: «فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضية إلا ‏فيها حتى أرش الخدش.»‏
وقال الإمام الصادق(ع) في تعريف كتاب علي: «فهو كتاب كوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله  من فلق ‏فيه، وخط علي بن أبي طالب(ع) بيده، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتى فيه ‏أرش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة.»‏
ويقول سلمان بن خالد: «سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "إن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعا، إملاء من ‏رسول الله ، وخط علي(ع) بيده، ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها، حتى أرش الخدش.»‏
وقد كان علي(ع) أعلم الناس بسنة الرسول ، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: «كنت إذا سألت رسول ‏الله  أعطاني، وإذا سكت ابتدأني.»‏
الثالث: أنهم محدثون‎.‎
لأجل إيقاف القارئ على المحدث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئا في توضيحه‎.‎
المحدث من تكلمه الملائكة بلا نبوة ورؤية صورة، أو يلهم له ويلقي في روعه شيء من العلم على وجه ‏الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره‎.‎
فالمحدث بهذا المعنى مما أصفقت الأمة الإسلامية عليه، بيد أن الخلاف في مصاديقه، فالسنة ترى أن عمر ‏بن الخطاب من المحدثين، والشيعة ترى عليا وأولاده الأئمة منهم‎.‎
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبي : «لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال ‏يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم عمر.»‏
وقد أفاض شراح صحيح البخاري في الكلام حول المحدث.‏
وللمحدثين من أهل السنة كلمات حول المحدث نأتي بملخصها‎:‎
يقول القسطلاني حول الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة.‏
وأخرج مسلم في صحيحه باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي : «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، ‏فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم.»‏
وقال النووي في شرح مسلم: «اختلف تفسير العلماء في المراد ب"محدثون"، فقال ابن وهب: ملهمون، ‏وقيل: يصيبون إذا ظنوا كأنهم حُدِّثوا بشيء فظنوه، وقيل: تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية مُكَلمون.»‏
وقال الحافظ محب الدين الطبرسي في "الرياض": «ومعنى "محدثون" -والله أعلم- أن يلهموا الصواب، ‏ويجوز أن يحمل على ظاهره، وتحدثهم الملائكة لا لوحي، وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك ‏فضيلة عظيمة.»‏
وحصيلة الكلام أنه لا وازع من أن يخص سبحانه بعض عباده بعلوم خاصة يرجع نفعها إلى العامة من ‏دون أن يكونوا أنبياء أو معدودين من الرسل، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله (فوجدا عبدا من ‏عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)، ولم يكن المصاحب نبيا، بل كان وليا من أولياء الله ‏سبحانه وتعالى، بلغ من العلم والمعرفة مكانة دعت موسى وهو نبي مبعوث بشريعة إلى القول (هل اتبعك ‏على أن تعلمني مما علمت رشدا).‏
ويصف سبحانه وتعالى جليس سليمان -آصف بن برخيا- بقوله (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا ‏آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي).‏
وهذا الجليس لم يكن نبيا، ولكن عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصله من الطرق العادية التي يتدرج ‏عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علما إلهيا أفيض عليه لصفاء قلبه وروحه، ‏ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربه ويقول: (هذا من فضل ربي).‏
والإمام علي والأئمة من بعده الذين أنيطت بهم الهداية في حديث الثقلين ليسوا بأقل من صاحب موسى ‏(ع) أو جليس سليمان، فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي  عن طريق الإشراقات الإلهية‎.‎
الرابع: الاستنباط من الكتاب والسنة‎.‎
هذا هو الطريق الرابع، فقد كانوا(ع) يستدلون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنة بوعي متميز يبهر ‏العقول ويورث الحيرة، ولولا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك، ونكتفي هنا بأنموذج ‏واحد، وهو: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم: فقال ‏يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام علي ‏الهادي(ع) يسأله، فلما قرأ الكتاب كتب: يضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه ليسأله عن ‏العلة، فقال(ع): (بسم الله الرحمن الرحيم فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، ‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا باسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) ، فأمر به ‏المتوكل فضرب حتى مات. ‏
إن الإمام المهدي ببيانه هذا شق طريقا خاصا لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقا لم يكن يحلم به ‏فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أن مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا ‏تتجاوز ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجها خاصا لدلالته، لا يلتفت إليه إلا من نزل القرآن في بيته، ‏وليس هذا الحديث غريبا في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه(ع)‎.‎
هذه إلمامة عابرة في بيان طرق أهل البيت(ع) إلى النبي‎ .‎
فما روي عن الإمام موسى بن جعفر(ع): حول علمهم بالسنة فإنما هو ناظر إلى ما سبق ذكره‏‎.‎
سئل الإمام موسى بن جعفر(ع): أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه، أو تقولون فيه؟ فقال: «لا، بل كل ‏شيء في كتاب الله وسنة نبيه.»‏
فالإمام يريد بالسنة ما ذكرنا (مصادرها وطرقها) لا خصوص السنة الموجودة في أفواه الناس وعلى ‏ألسنتهم، وإن كان ربما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي  في بعض المواضيع‎.‎
هذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما نقله الأئمة(ع) من سنن النبي‎.‎
كيف لا يكون عند علي كتاب يجمع فيه سنن النبي  وهؤلاء هم أبناء علي(ع) ينقلون عنه ويعتمدون ‏عليه؟‎!‎
والعجب ما ورد في رواية البخاري من أن الصحيفة التي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلا على جمل ‏محدودة، فلو لم يكن عند علي وأبنائه المعصومين إلا ما جاء في هذه الرواية، فمن أين هذه العلوم ‏الموروثة عنه وعن أبنائه الصادقين التي بهرت بها العقول؟‎!‎
كيف لا يكون عند علي(ع) سوى هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أن المسلم عند الفريقين أن ‏عليا كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره، وكان الصحابة يرجعون إليها في المشاكل والمسائل ‏العويصة؟، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه ويسألونه، كيف لا وهو باب مدينة علم ‏النبي‎ .‎
وقد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي بجمع ما ورد في كتاب علي(ع) مما هو مبثوث ‏في الجوامع الحديثية، ورتبه على 26 بابا، وما جمعه إنما هو غيض من فيض وقليل من كثير مما كان في ‏الأصل‎.‎
إنتهت وتلیها الجزء الثالث في العدد المستقبل
المصدر: مجلة الواضحة، العدد الثالث