printlogo


printlogo


مقالة
مفهوم الناسخ ودلائل المنسوخ بقلم الدكتور علي أبو الخير

من أكثر القضايا المثيرة للحساسية الدينية والحساسية الدنيوية معًا، قضية النسخ في الإسلام، لأن بعض طوائف المسلمين من الذين جعلوا الإرهاب وسيلة لفرض آرائهم وعقائدهم، فقاموا بالقتل قديمًا كالخوارج، وحديثًا كالدواعش والوهابيين.
هم من أولئك الذين يعتبرون أن الناسخ والمنسوخ حقيقة دينية، من لم يعتقدها فهو كافر يجب استتابته ثم قتله بحكم أنه مشرك أو كافر أو مرتد، لأنهم قالوا مثلًا: إن آية السيف من سورة التوبة، الآية 5 تنص على: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ…﴾، وزعموا أن تلك الآية نسخت حوالي مائة آية تؤكد على حرية العقيدة مثل: لست عليهم بمسيطر – لست عليهم بوكيل – لا إكراه في الدين – لكم دينكم ولي دين… إلى آخر الآيات القرآنية التي تدعو للسلم والسلام والعفو وحرية الإنسان وكرامته، وبالمفهوم العصري يمكن القول: إن الناسخ سياسي المفاهيم، والمنسوخ المظلوم هو الإسلام أو الدين المحمدي القرآني، مع العلم أن الخلفاء والسلاطين والأمراء والملوك كثيرًا ما طبقوا الناسخ السياسي ضد المعارضين والمفكرين والكتاب، متناسين المنسوخ الديني، فاتهموا الجميع بالردة والكفر، ثم طبقوا عليهم آية السيف الناسخة الماسحة لآيات التسامح وحرية الدين، وابتعدوا عن سياق الآيات التي قبل آية السيف من سورة التوبة، وكلها آيات تدل على أن آية السيف نزلت لحكم وقتي، وليس لها علاقة بحرية المعتقدات، وهو أمر يطول شرحه.   
الناسخ والمنسوخ عند الفقهاء
الحقيقة المؤكدة أن قضية الناسخ والمنسوخ قضية قديمة أخذ بها الفقهاء والشيوخ والمؤرخون، بناء على الآية 106 من سورة البقرة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فقالوا: إن الله ينسخ أحكام القرآن بحكم قرآني جديد، والإبقاء على الآيتين للتلاوة، وقالوا: إن الآيات المنسوبة بآيات أخرى ثلاثة أو أربعة، مثل الرجم والرضاعة، ويتلوا المسلمون كل الآيات في كل الأوقات، رغم أن حكم أحد الأحكام صار باطلًا، والآخر صار مؤبدًا.
 
ومن غير المنطقي أن تكون آية قرآنية نزلت، وكاد عمر بن الخطاب أن يضعها في القرآن، وهي (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وزعموا أن الآية لم تُكتب في المصحف، ولكن حكمها باقي ويُطبّق، وأنها تنسخ آيات سورة النور.
الفرق بين الآية القرآنية والآية الكونية
إن كلمة “آية”، تعني آية كونية، وليست آية قرآنية، فالآية الكونية مثل شق البحر لموسى، أو إحياء الموتى لعيسى، ومن ثم فإن آخر الآيات والمعجزات للأنبياء هي معجزة محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخاتم المعجزات في صورة كلمات تُتلى آناء الليل وأطراف النهار هي القرآن الكريم، فالله نسخ أي شطب أو مسح أو أنسى الناس آيات قديمة بأخرى جديدة مع النبوة المحمدية، وليس فيها ما يعني نسخ حكم شرعي والإتيان بحكم قضائي شرعي جديد، وهذا المعنى في النسخ جاء في سورة الحج، الآية 52: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، فالله هنا نسخ أي شطب أو مسح ما يلقيه الشيطان في نفس أي نبي، والنسخ هنا أيضًا ليس نسخًا لآية ثم الإتيان بآية أخرى فيها حكم شرعي جديد، كما هو متداول.
النسخ للإثبات
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فكلمة نسخ تأتي أيضًا بمعنى الإثبات، أو نسخ بمعنى تصوير ورقة، قال تعالى في سورة الأعراف، الآية 154: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾، والنسخة التي فيها هدى هنا تعني صورة طبق الأصل لما في الألواح التي أُلقيت أو نزلت على نبي الله موسى (ع)، من فوق جبل الطور في سيناء، وأيضًا في سورة الجاثية، الآية 29: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، والاستنساخ هنا هو تصوير فوتوغرافي أو إلكتروني، أو نسخ بالقلم لما هو مدون في الكتب.
ومن القضايا المعاصرة قضية الاستنساخ الطبي، وهو استنساخ إنسان من إنسان كما نفهم، وليس فيها مسح إنسان أو مسح قانون لخدمة إنسان آخر، فالنسخ في النهاية قد يأتي بمعنى النفي أو الإثبات، والسياق العام هو الذي يجعلنا نفرق بينهما.
كل هذا يؤكّد لنا أن القرآن الكريم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ بالمعنى المشهور عند العلماء والفقهاء، فكل آية قرآنية لها حكم محدد قاطع، مثلًا المسلم الجديد يمكن تطبيق مراحل تحريم الخمر عليه كما وردت في القرآن، والأمر الواضح هو أن الناسخ والمنسوخ يوجد في السنة النبوية، فربما أمر النبي بأمر ثم نسخه القرآن بالوحي، والقرآن قال على لسان النبي(ص) في سورة يونس، الآية 15: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، فالنبي الكريم كان حريصًا على أداء الرسالة كما يُوحى إليه بها، فلا ناسخ ولا منسوخ إلا في السنة، فالقرآن قاطع الأحكام والسنة مفسرة لها، وليس العكس، مثلما تبطل المحكمة الدستورية نسخ في بعض الأحكام بسبب عدم دستوريتها لأنها لا تتفق مع الدستور، ولله المثل الأعلى في كل الأحوال.
النسخ في نهج البلاغة
قال الإمام علي بن أبي طالب(ع)، كما رُوي عنه في نهج البلاغة: “إنّ في أيدي الناس حقًّا وباطلًا، وصدقًا وكذبًا، وناسخًا ومنسوخًا، وعامًّا وخاصًّا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا ووهمًا، وقد كذب على رسول الله على عهده حتّى قام خطيبًا فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار، ثمّ كذب عليه من بعده….”.
ثم يذكر الإمام في نفس الخطبة فيقول: “… ورجل ثالث سمع من رسول الله شيئًا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه”.
الإمام علي هنا يتحدث عن الأحاديث النبوية، عن التأويل وليس التنزيل، فالناسخ والمنسوخ هو ما جاء عن النبي(ص)، صحيحًا متفقًا مع القرآن الكريم.
ولقد حيّرت نفس القضية بعض العلماء، مثل إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه الموافقات: “إن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطـلاق أعـم منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقـون علـى تقييـد المطلـق نسـخًا، وعلـى تخصـيص العمـوم بـدليل متصـل أو منفصـل نسـخًا، وعلـى بيـان المـبهم والمجمل نسـخًا، كمـا يطلقـون علـى رفـع الحكـم الشـرعي بـدليل شرعي متأخر نسخًا”، فقد اتخذ الشاطبي طريقًا وسطًا، فلا هو يؤيد النسخ على إطلاقه، ولا هو ضده.
وهذا ما يؤيد وجهة نظرنا بأن الناسخ والمنسوخ قضية سياسية تم إضفاء طابع ديني عليها، ثم يدافعون عن دين الله رغم أنهم يضطهدون المفكرين، ويتركون من يفكرون بعقلية آية السيف، أو حديث نُصرت بالرعب، ولهذا يظل الوضع على ما هو عليه..
المصدر: المعارف الحکمیة