مقتطف
مع الإمام الخامنئي | الحوزويّون روّاد قضايا الأمّة*
الحوزة مؤسّسة منفتحة على خارجها، فمخرجاتها على جميع المستويات هي في خدمة فكر المجتمع والبشر وثقافتِهما. هي مكلّفة بـ «البلاغ المبين»، ونطاق هذا البلاغ واسع جدّاً، يمتدّ من المعارف التوحيديّة السامية إلى الواجبات الشرعيّة الفرديّة، ومن تبيين النظام الإسلاميّ وهيكليّته ومسؤوليّاته إلى نمط العيش والبيئة والحفاظ على الطبيعة والحيوان، وكثيرٍ من المجالات والجوانب الأخرى للحياة البشريّة.
وقد اضطلعت الحوزات العلميّة منذ القِدم بهذه المسؤوليّة الثقيلة، وانخرط العديد من المتخرّجين فيها على مختلف مستوياتهم العلميّة في أساليب متنوّعة لتبليغ الدين وأمضَوا عمراً فيه. وبعد الثورة، ظهرت في الحوزة مؤسّسات لتنظيم محتوى هذه الحركات التبليغيّة وتقويمه في بعض الأحيان.
* العناصر الضروريّة للتبليغ
ثمّة عنصران أساسيّان ينبغي التركيز عليهما في الحوزة، هما: التعليم والتهذيب.
1. التعليم: إنّ إيصال رسالة عصريّة تملأ الفراغ، وتُحقّق هدف الدين يستلزم التعليم والتعلّم لا محالة. يجب أن يتصدّى جهازٌ ما لهذه المهمّة ليعلّم الطالب قوّة الإقناع، والإلمام بأسلوب الحوار، ومعرفة كيفيّة التعاطي مع الرأي العامّ، والفضاء الإعلاميّ والافتراضيّ، والانضباط في مواجهة المخالف، ويُعِدَّه عبر التمرين والممارسة لدخول هذا الميدان في فترة محدودة. من جهة، ينبغي جمع أحدث المغالطات والآفات الفكريّة والأخلاقيّة وأكثرِها شيوعاً، وتوفير أفضل ردٍّ عليها وأبلغه وأقواه في إطار لغة متناسبة مع العصر، وباستخدام الأدوات التقنيّة الحديثة. ومن جهةٍ أخرى، يجب تدوين أهمّ المعارف الدينيّة التي تتناسب والوضع الثقافيّ والفكريّ المعاصر في هيئة حُزَم مناسبة لفكر جيل الشباب والناشئة والأسرة ولثقافتهم. تُعدّ هذه التركيبة من الشكل والمضمون أهمّ موضوعات التعليم في هذا الجانب.
ويُعَدُّ الموقف الإيجابيّ، بل وحتّى الهجوميّ، أهمّ من الموقف الدفاعيّ في العمل التبليغيّ، وإنّ ما قيل بشأن دفع الشبهات والمغالطات ومعالجتها، ينبغي أن لا يجرّ الجهاز التبليغيّ إلى الغفلة عن مهاجمة مسلّمات الثقافة المنحرفة السائدة في العالم، وربّما في بلدنا. إنّ ثقافة الغرب المفروضة والتلقينيّة تتّجه بسرعة متزايدة نحو الانحراف والانحطاط؛ فالحوزة الضليعة بالفلسفة والكلام لا تكتفي بالدفاع في وجه إثارة الشبهات، بل تخلق تحدّيات فكريّة تُجاه هذا الانحراف والضلال، وتُجبر المدّعين المُضلّلين على الردّ.
يندرج إعداد هذا الجهاز التعليميّ ضمن أولويّات الحوزة؛ وهذه هي تربية «المجاهد الثقافيّ»، التي يجب إعدادُها بجدّيّة قصوى وبوتيرةٍ سريعة.
2. التهذيب: لا يعني التهذيبُ تربيةَ المنعزلين؛ فجزءٌ كبير من نطاق نشاط المجاهد الثقافيّ هو الدعوة إلى تهذيب النفس والأخلاق الإسلاميّة، وهذا العمل يكون عديم الأثر والبركة إذا لم يكن الداعي نفسه متحلّياً بما يدعو إليه. إنّ الحوزة بحاجةٍ إلى تحرّكٍ أكبر من الماضي في تأكيد التوصيات الأخلاقيّة.
* الإخلاص وتحمّل الصعاب
أنتم أيّها الطلّاب والفضلاء الشباب قادرون حتماً، بعون قلوبكم الطاهرة والنقيّة وألسنتكم الصادقة، على إنجاز مهمّة التهذيب الأخلاقيّ لجيل الشباب اليوم، شريطة أن تبدأوا بأنفسكم أوّلاً؛ فالإخلاص في العمل، وقطع الطريق على وساوس المال والجاه والمنصب، هو المفتاح لدخول الأجواء العذبة للروحانيّة والحقيقة. وهكذا يغدو العمل الشاقّ للجهاد الثقافيّ مهمّة عذبة وحركة مؤثّرة. إنّ الصعاب التي يواجهها طالب العلم في مثل هذه الحال ستتحوّل إلى وسيلة لإرادةٍ صلبة وعزمٍ راسخ بدلاً من أن تكون عائقاً أمام السلوك الجهاديّ للتبليغ.
* ميثاق الحوزويّين
لا شكّ في أنّه لا يمكن العثور على أيّ حركة إصلاحيّة أو ثوريّة في إيران أو العراق في المئة والخمسين سنة الماضية، لم يقدها علماء الدين، أو لم يحضروا في خطوطها الأماميّة. وفي ذلك دلالة مهمّة على طبيعة الحوزات العلميّة ودورها في التصدّي لتهديدات العدوّ في مختلف المجالات. انطلاقاً من إدراك هذه الحقائق، وفي ندائه الموجَّه للحوزات العلميّة المُفعم بالمضامين والمدوّي، وصف الإمام الخمينيّ قدس سره الحوزويّين برُوّاد الشهادة في جميع الثورات الشعبيّة والإسلاميّة؛ وفي المقابل، عدّ طريق الشهداء وعملهم مصداقاً لبلوغ حقيقة التفقّه. وبعبارة أخرى: قدّم العلماء بوصفهم طلائع ميدان الجهاد والدفاع عن الوطن ونصرة المظلومين. وفي ما يخصّ مستقبل الحوزة، علّق أكثر آماله على الطلّاب والفضلاء الذين حثّتهم هواجس النهضة والكفاح والثورة على التحرّك، وعبّر عن عتبه على الذين يكتفون بكتبهم ودراستهم، من دون الاهتمام بهذه القضايا المصيريّة. جرت الإشارة مراراً في هذا النداء إلى المتحجّرين، والتحذير من تغلغل العدوّ عبر استغلاله لغفلتهم، مُنبِّهاً إلى خطر الأساليب المتطوّرة للتكسّب بالدين. وحسب الرأي الصائب للإمام الجليل قدس سره، يتربّص صيّادو الاستعمار في أرجاء العالم ويكمُنون للحوزويّين الشجعان المُلمّين بالسياسة، ويخطّطون لمحاربة مجدهم وعظمتهم ونفوذهم الشعبيّ.
* لا لفصل الدين عن السياسة
لقد تخوّف الإمام الجليل قدس سره من أن يُصيب تيّار التحجّر المتظاهر بالتقدّس الحوزةَ العلميّة بوساوس فصل الدين عن السياسة والنشاطات الاجتماعيّة.
إنّ الترويج لهذا الوهم الباطل يُمثّل أعظم هديّة تُقدَّم لقوى الاستعمار والاستكبار، والتي لطالما تضرّرت من حضور علماء الدين وخوضهم معركة الكفاح ضدّها، وتكبّدت الهزائم في حالات متعدّدة.
إنّ قداسة الدين أكثر ما تتجلّى في ميادين الجهاد الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ، وتترسّخ بتضحية حاملي معارف الدين وجهادِهم وبذل دمائهم الطاهرة. ينبغي مشاهدة قدسيّة الدين في سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان أوّل عمل أقدم عليه عند دخوله يثرب هو تأسيس الحكومة، وتنظيم القوّة العسكريّة، وتوحيد ساحة السياسة والعبادة في المسجد.
ينبغي للحوزة العلميّة، وحفاظاً على اعتبارِها المعنويّ ووفاءً لفلسفة وجودها، أن لا تنفصل أبداً عن الناس والمجتمع وقضاياه الأساسيّة، وأن تعدّ الجهاد بكلّ أنواعه واجباً قطعيّاً عليها عند الحاجة.
تأسيس الحكومة الإسلاميّة، كان من الإنجازات البارزة للإمام الراحل (قد) في مباحث “ولاية الفقيه” في أثناء نفيه إلى النجف، ما فتح طريق البحث أمام فضلاء الحوزة، وقد تكاملت أبعاد النظريّة نظريّاً وعمليّاً بعد قيام الجمهوريّة الإسلاميّة؛ لكنّ هذا العمل لا يزال غير مكتمل في العديد من النظم الاجتماعيّة للبلاد. لذا، تقع على الحوزة مسؤوليّة ملء هذا الفراغ؛ وهذا يندرج في عداد مسؤوليّاتها الحتميّة. اليوم، وبعد حاكميّة النظام الإسلاميّ وإرسائه، غدت مسؤوليّة الفقيه والفقاهة ثقيلة، إذ إنّ الفقه الذي يصنع الأمّة ليس محصوراً في حدود الأحكام العباديّة والواجبات الفرديّة وأبعادها.
*المشاركة في إنتاج النظم الاجتماعيّة
تُدار الدول والمجتمعات البشريّة في جميع شؤونها الاجتماعيّة عبر نظم محدّدة؛ فشكل الحكومة، وأسلوب الحكم (الاستبداد، التشاور، و...)، والنظام القضائيّ والتحكيم في النزاعات والمخالفات والقضايا الحقوقيّة أو الجزائيّة، والنظام الاقتصاديّ والماليّ ومسائل العملة وغيرها، والنظام الإداريّ، ونظام إدارة الأعمال، ونظام الأسرة، وغيرها، كلّها تُعدّ من الشؤون الاجتماعيّة للدولة، والتي تُدار في مجتمعات العالم بأساليب مختلفة، وفي إطار نظم متنوّعة.
وتستند هذه النظم إلى قاعدة فكريّة، نابعة إمّا من عقول المفكّرين أو من التقاليد الموروثة. أمّا في الحكومة الإسلاميّة، فينبغي أن تُستمدّ هذه الأنظمة من الإسلام ونصوصه المعتبرة، وأن تُستخرج منها نظم إدارة المجتمع.
*الاستفادة من مكتشفات العالم المعاصر
إنّ الحوزة تحتاج في عمليّة صياغة النظم الاجتماعيّة وتنظيمها، إلى أن تكون على دراية كافية بمكتشفات العالم المعاصر بشأن هذه النظم. هذه الدراية ستمكّن الفقيه عبر إدراك صوابيّة هذه المكتشفات أو خطئها، من الاستحضار الذهنيّ اللازم لتوظيف تصريحات الكتاب والسنّة وإشاراتها في صياغة هيئة النظم الاجتماعيّة لإدارة شاملة وكاملة للمجتمع على أساس الفكر الإسلاميّ. ويمكن أن يكون هذا أحد مجالات التعاون بين الحوزة والجامعة. المهمّة الكبرى للجامعة هي أن تنهض بمسؤوليّة تمييز الآراء الصحيحة والخاطئة في المعارف الرائجة عالميّاً في مجال العلوم الإنسانيّة، وأن تعمل بالتعاون مع الحوزة العلميّة على تقديم مضمون الفكر الدينيّ ضمن قوالب مناسبة.
*توصيات لعمل أفضل
تعدّ حوزة قم رائدة وفي الطليعة، ولكي تكون بقيّة الحوزات على مسافة ملحوظة منها، ينبغي الالتفات إلى النقاط الآتية:
1. يجب أن تكون الحوزة مواكبة للعصر، وأن تخطو دائماً بما ينسجم مع الزمان، بل أن تتعدّى الزمان في حركتها.
2. يجب الاهتمام بتربية الطاقات في المجالات كلّها. فمن يرسم مسار حركة هذا الشعب ومستقبل الثورة الإسلاميّة هي الطاقات التي تتربّى اليوم في الحوزة العلميّة؛ فليُعزّز الحوزويّون علاقتهم بالناس.
3. يجب على مديري الحوزات، وعبر التدبير المناسب، أن يحبطوا المغالطات المغرضة التي تجعل الطلّاب الحوزويّين الشباب محبطين تجاه المستقبل. يتمتّع الإسلام وإيران والتشيّع اليوم بعزّة وحرمة على مستوى العالم لم يسبق أن كان لهما مثيل في الماضي. على الطالب الحوزويّ الشابّ أن يدرس ويتنامى وهو يمتلك هذا الشعور.
4. ينبغي أن يُنظر إلى جيل الشباب في المجتمع بعين التفاؤل، وأن يجري التعامل معهم من هذا المنظور. إنّ فئة واسعة من شباب اليوم، من الذين يمتلكون معدّل ذكاء مرتفعاً، أوفياء للدين ومدافعون عنه، بالرغم من كلّ المغالطات الهدّامة للفكر والإحساس الدينيّ؛ وثمّة كثيرون آخرون أيضاً ليس لهم أيّ معاندة مع الدين والثورة الإسلاميّة. يجب أن لا تؤدّي الأقليّة الضئيلة جدّاً المُعرضة عن المظاهر الدينيّة إلى وقوع الحوزة في التحليلات غير الواقعيّة.
5. يجب أن تُصاغ المناهج الدراسيّة في الحوزة بنحو يُدرَّسُ فيه الفقه النيّر والمواكب للعصر، والمبنيّ طبعاً على المنهج الاجتهاديّ، إلى جانب الفلسفة الواضحة ذات الامتداد الاجتماعيّ والرؤية المؤثّرة في هيئة الحياة المجتمعيّة، ومعها علم الكلام البليغ والمتين والقادر على الإقناع، وذلك على يد أساتذة ماهرين. وتكسب هذه الثلاثيّة كشفاً ونورانيّة وعمقاً في ظلّ فهم القرآن ودروس التفسير.
6. ينبغي أن تتولّى الحوزة بنفسها -لا جهة خارجة عنها- منح الشهادات العلميّة إلى خرّيجيها. ويمكن بطبيعة الحال استخدام تسميات مألوفة ومعروفة في الأوساط العلميّة داخل البلاد وخارجها، مثل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه البحثيّة وما إلى ذلك، بدلاً من المستويات الحوزويّة الأوّل والثّاني والثّالث والرّابع.
وأخيراً، لطالما كان الزُّهد والتقوى والقناعة والاستغناء عن غير الله، والتوكّل، وروحيّة التقدّم، والاستعداد للجهاد، من توصيات الإمام الجليل قدس سره وأبرز الشخصيّات الأخلاقيّة والمعرفيّة إلى الطلّاب الحوزويّين الشباب، والآن أنتم أيّها الشباب الأعزّاء في الحوزة العلميّة مخاطبون بهذه التوصيات ذاتها.
* من نداء سماحته دام ظلّه إلى المؤتمر الدوليّ الذي عُقد بمناسبة مرور مئة عام على إعادة تأسيس الحوزة العلميّة في قم، بتاريخ 07/05/2025م.
المصدر: مجلة بقیة الله