محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام. نوّر العالم بولادته في العاشر من شهر رجب على الرأي الأغلب. ورد عن الإمام الحجّة(عج) في أدعية شهر رجب "اللهم إني أسألك بالمولودَين في رجب محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمد المنتجب...".
عاش مع أبيه الإمام الرضا(ع) سبع سنوات وبعده ثماني عشرة سنة إلّا عشرين يوماً، عاصر فيها المأمون العباسي مدّة خمس عشرة سنة (203هـ إلى 218هـ) والمعتصم سنتين (218هـ إلى 220هـ).
أمّه نوبيّة مريسيّة من أهل بيت ماريّا القبطيّة زوجة النبي(ص) أمّ ولده إبراهيم. سمّاها الإمام الرضا(ع) خيزران وتكنّى بأمّ الحسن.
قال عنها الإمام العسكري(ع): "خُلقت طاهرة مُطهَّرة وهي أمّ ولد وتكنّى بأمّ الجواد وأمّ الحسن وكانت أفضل نساء زمانها".
نشأته مع أبيه الإمام الرضا(ع)
ذُكر أنّ الإمام الجواد(ع) ولد بعد وفاة الرشيد العباسي وفترة احتدام الصراع على السلطة بين ولديه الأمين والمأمون. وعندما سيطر المأمون على الخلافة توجّه إلى إخضاع الخصوم والقضاء على المعارضين لملكه وسلطانه ثمّ توجّه إلى مَن يعتبره الخطر على خلافَته ومُلكه ألا وهم أهل البيت عليهم السلام أصحاب الحقّ الشرعيين، فأراد أوّل الأمر أن يستميلهم إلى جانبه لكثرة أتباعهم وما لهم من مقام في قلوب المؤمنين، خاصّة وأنّ الظروف لا تسمح بالمواجهة على أكثر من جبهة فاختار التودّد لهم وأن لا يسير بسيرة أبيه مع أهل البيت عليهم السلام، فرفع عنهم وعن أشياعهم التتبّع وردّ لهم أموالهم وأمر الخطباء أن يقدّموا ذكر عليّ(ع) على سائر الأصحاب لأنّه أفضلهم، كما وأجبر الإمام الرضا(ع) على القبول بولاية العهد وهدّده بالقتل إنْ رفض.
حينها حضر الإمام الرضا(ع) إلى خراسان بنفسه فقط ولم يحضر معه الإمام الجواد(ع) تحييداً له عن أعين السلطة، فبقي في المدينة بعيداً عن أبيه الإمام الرضا(ع). لذا، لم يذكر المؤرّخون الكثير عن حياته مع أبيه(ع) سوى ما ورد في الفترة البسيطة بعد ولادته.
إمامة الإمام الجواد(ع)
تحمّل الإمام الجواد(ع) أعباء الإمامة بعد شهادة أبيه الرضا(ع) وله من العمر سبع سنوات، قضى أغلبها بعيداً عن أبيه(ع) لضرورات أمنيّة استدعتها سياسة حفظ الإمام الجواد(ع). إلّا أنّ الروايات التي وردت عن الإمام الرضا(ع) في تعيين ولده الجواد(ع) لم تترك مجالاً للشكّ فيها.
فقد روي عن الإمام الرضا(ع) قوله: "(...) هذا أبو جعفر قد أجلستُه مجلسي وصيّرتُه مكاني، وقال(ع): إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذّة".
المشكّكون في إمامته(ع)
إنّ سياسة التشكيك في إمامة كلّ إمام من أئمّة أهل البيت عليهم السلام عند تولّيه الإمامة أمر معتمَد من أصحاب الأغراض الشخصيّة ومن السلطة الحاكمة. ولعلّ من أصعب الامتحانات ما مرّ به الشيعة في امتحان تثبيت إمامة الإمام الرضا(ع) حيث استشهد الإمام الكاظم في السجن مما سهّل على المنكرين أن ينكروا تعيين الإمام الكاظم لولده الإمام الرضا(ع)، مضافاً إلى إنكار عدد من أصحاب الإمام الكاظم(ع) لإمامته(ع)، وكذلك عدد من أهل بيته وأقربائه، إلّا أن الله سبحانه وتعالى أظهر الحق على يديه وتيقّن الشيعة بإمامته.
وهذا عين ما حصل من قبل المغرضين بحقّ إمامة الإمام الجواد(ع) حيث استغلوا بدايةً بُعد الإمام الرضا(ع) عن ولده الجواد(ع) كما استغلوا شهادة الإمام الرضا(ع) لاستهداف إمامة الجواد(ع). ونلفت النظر إلى بعض الإشكاليات التي ركّز عليها القوم:
1. إشكاليّة صغر السن:
وهذا الأمر أثار ضجّة كبيرة في أوساط الموالين والمعادين وأعاد فتْح باب إمامة الإمام الرضا(ع) والتشكيك في صوابيّة قراره بتعيين ولده من بعده، ممّا حدا بالإمام الرضا(ع) إلى أن يردّ على هذه الهجمة ويؤكّد على أنّ التعيين إلهيّ، والأمر لله سبحانه، وهكذا جرَت إرادته من قبل في العديد من أنبيائه.
روي عن صفوان بن يحيي قال: قلت للرضا(ع): "قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، وقد وهب الله لك، فأقرّ عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإنْ كان كون فإلى مَنْ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر(ع) وهو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك وهذا ابن ثلاث سنين، فقال(ع): وما يضرّه من ذلك فقد قام عيسى بالحجة وهو أقلّ من ثلاث سنين".
وقد ذكر الكليني في الكافي احتجاج الإمام الرضا(ع) على إمامة الجواد(ع) مع صغر سنه باستخلاف نبي الله داود(ع) لسليمان وهو صبي يرعى الغنم فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم.
وقد وصل الاعتراض والتشكيك إلى نفس الأصحاب حتى سأل أحدهم الإمام الجواد(ع) فقال: "يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثَة سنك، فقال(ع): وما ينكرون من ذلك قول الله عزّ وجلّ، لقد قال الله عزّ وجلّ لنبيه(ص): ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108)، فوالله ما تبعه إلّا علي وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين".
2. إشكاليّة لون البشرة:
وهنا تبرز دناءة القوم بتشكيكهم في نسب الإمام الجواد(ع)، حيث إنّه(ع) كان شديد الأدمة؛ أي السمرة، فاستغل المنكرون هذا الأمر وأشاعوا التشكيك بين الناس في المدينة خصوصاً بعد بقائه(ع) في مكّة وانتقال الإمام الرضا(ع) إلى خراسان فازداد الضغط عليه، إلى درجة تجرّأ القوم وعرضوه على القافّة وهم أصحاب الخبرة في معرفة نسب الشخص، وكان له(ع) من العمر حينها خمس وعشرون شهراً، فلمّا نظروا إلى وجهه الشريف خرّوا لوجوههم سجّداً ثم قاموا وقالوا: يا ويحكم أمثل هذا الكوكب الدرّيّ والنور الزاهر تَعرِضون على مثلنا، وهذا والله الحسب الزكي والنسب المهذّب الطاهر ولَدتْه النجوم الزواهر والأرحام الطواهر والله ما هو إلّا من ذريّة النبي(ص) وأمير المؤمنين(ع).
عندها نطق الإمام الجواد(ع) بلسانٍ أرهف من السيف وقال: "الحمد لله الذي خلَقنا من نوره، واصطفانا من بريّته، وجعلنا أمناء على خَلقه ووحيه، أيّها الناس، أنا محمد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي سيد الساجدين ابن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن فاطمة الزهراء بنت محمد عليهم السلام أجمعين، أفي مثلي يُشَكّ؟ وعلى الله تبارك وتعالى وجدّي محمد المصطفى يفترى وأُعرض على القافّة؟ إنّي والله لأعلم ما في سرائرهم وخواطرهم وإنّي لأعلم الناس أجمعين بما هم إليه صائرون أقول حقّاً، وأظهر صدقاً علماً قد نبّأه الله تبارك وتعالى قبل الخلق أجمعين وبعد بناء السماوات والأرضين.
وأيم الله، لولا تظاهر الباطل علينا، وغواية ذريّة الكفر وتوثّب أهل الشرك والشكّ والشقاق علينا، لقلت قولاً يعجب منه الأولون والآخرون، ثمّ وضع يدَه على فيه وقال: يا محمد، اصمت كما صمت آباؤك، واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون.
ثم أتى إلى رجل بجانبه فقبض على يده، فما زال يمشي يتخطّى رقاب الناس وهم يفرجون له، قال: فرأيت مشيخة أجلّائهم ينظرون إليه ويقولون: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ فسألت عنهم، فقيل هؤلاء قوم من بني هاشم من أولاد عبد المطلب. فبلغ أمر العَرض هذا الإمام الرضا(ع) وما حصل فيه وهو في خراسان فقال(ع): الحمد لله الذي جعل في ابني محمد أسوة برسول الله(ص) وابنه إبراهيم".
واللطيف في إشارة الإمام الرضا(ع) لنفس الحرب التي مارسها المشكّكون في حقّ إبراهيم ابن النبي محمد(ص) من زوجته ماريّا القبطية حيث كان لونه يميل إلى السمرة الحادة فبدأ المشكّكون ببثّ سمومهم في المجتمع الإسلاميّ فنصَر الله تعالى نبيّه عليهم وألقمهم حجراً وأبطل خبثهم، فكان ما حصل مع الإمام الجواد(ع) مواساة لرسول الله(ص) ولما حصل معه.
ومن الواضح أنّ أمّ الإمام الجواد(ع) هي من أهل بيت ماريا القبطيّة زوجة النبي(ص) وأنّ أهل النوبة في مصر لهم السمرة الحادة كلوْن طبيعيّ لبشرتهم، والخال أحد الضجيعين، وإنّ العرق لدسّاس، فمن الطبيعيّ جداً أن يشبه الولد أخواله، ولكنّ المغرضين دائماً يقلّبون الحقائق ويزرعون الشكّ إلّا أنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً.
إبطال التشكيك في الكرامات
كان باب إبطال التشكيك في إمامة الإمام الرضا(ع) من خلال الكرامات التي ظهرت على يديه، وهو عين ما حصل مع الإمام الجواد(ع) حيث ظهر على يديه من الكرامات ما جعل القوم يتيقّنون بإمامته فتطمئنّ قلوب الموالين ويُقطع بها ألسنة المعادين المعاندين.
فقد روى أحد الأصحاب: "مضى أبو الحسن الرضا ولي عليه أربعة آلاف درهم، ولم يعرفها غيري وغيره فأرسل إليّ أبو جعفر: "إذا كان في غد فأْتني"، فأتيته في الغد، فقال لي: "مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم" فقلت: نعم، فرفع المصلّى الذي كان تحته، فإذا تحته دنانير فدفعها إليّ، وكان قيمتها في الوقت أربعة آلاف درهم". وغيرها كثير من الروايات المذكورة في الكتب لا يتّسع المقام لذكرها.
كانت إمامة الإمام الجواد(ع) الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت عليهم السلام كالشمس الساطعة في سماء زمن التخلّف والرجعية واجتماع الناس على الباطل وتخاذلهم عن الحقّ حتّى قضى سلام الله عليه في السادس من ذي الحجة عام 220هـ شهيداً مظلوماً محتسباً.
المصدر: بقیة الله