printlogo


printlogo


مقالة
إعتزالية الشريف المرتضى بين الوهم و الحقيقة

الجزء الثاني والأخیر
 الأصول التي انفردت بها المعتزلة
يقول أبو الحسين البصري: "وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اكتملت في الإنسان هذه الخصال فهو معتزلي".
وحيث أن الإمامية وأغلب المعتزلة متفقون في أصل التوحيد، وخصوصاً في مسألة الصفات الإلهية، وكذلك في أصل التوحيد عموماً، باستثناء بعض مسائله، لذا علينا بيان رأيهم في أصول مذهبهم الأخرى، وهي الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فالوعد والوعيد تعتبره المعتزلة أصلا من أصول مذهبها، في حين أن الإمامية - ومنهم المرتضى - لا تعتبره أصلا، بل إنها تخالفهم من خلال إنكارها للوعيد. أما المنزلة بين المنزلتين فهو الأصل الثاني الذي انفردت به المعتزلة، فهي ترى أن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين هو واصل بن عطاء، في حين أن الإمامية لم تعتبره أصلا على الإطلاق، بل ذهبوا إلى أن مقترف الكبيرة مؤمن لتصديقه بالله ورسوله وإقراره بما جاء به النبي (ص)، ويرون أنه معاقب على ذنبه هذا إذا لم يحصل له أحد أمرين: عفو اللّه تعالى وهو مرجو، وشفاعة الرسول(ص) وهي متوقعة لقوله تعالى: "…واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات…"، وبذلك يتفق الإمامية مع الأشعرية عموما.
أما رأي الشريف المرتضى فيظهر لنا من خلال استعراض النص الكامل للمناظرة الواردة في أماليه التي جرت بين واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بخصوص مرتكب الكبيرة، والتي أدت في النهاية إلى تحول عمرو بن عبيد عن مذهب الحسن البصري الذي كان يقول: أن مرتكب الكبيرة فاسق، إلى مذهب واصل بن عطاء الجديد.
ولو اطلع القارئ الكريم على نص المناظرة الواردة في الأمالي لاستنتج منها أن الشريف المرتضى لم يشذ عن رأي الإمامية، إلا أن القارئ سيجد في ثنايا النص تسديد المرتضى لواصل بن عطاء في إشكاله على عمرو بن عبيد، الذي لا يكشف إلا عن فساد دليل عمرو بن عبيد ولا يقتضي تصحيح مسلك واصل بن عطاء على رأي المرتضى.
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأصل الثالث الذي انفردت به المعتزلة، وهو الذي اعتبرته الإمامية من فروع الدين لا من أصوله.
حقيقة الصلة بين التشيع والاعتزال: وحيث تبين لنا مما تقدم أن الشريف المرتضى إمامي اثنا عشري في أصوله العقائدية، علينا الآن أن نتحرى عن صحة الآراء القائلة باعتزاليته حسبما أشار إلى ذلك لفيف من المؤرخين، ومن ثم الرد عليها استنادا للحقائق.
وقبل تحقيق ذلك ولكي يكون المتتبع على بينة من الأمر، لابد من إبراز حقيقة مهمة جدا طالما التبس فهمها على الكثير من الباحثين، ألا وهي حقيقة "الصلة بين التشيع والاعتزال".
١ - من المعلوم أن جل اعتماد مفكري الشيعة ومتكلميهم في تعزيز آرائهم يتجه نحو ما صرح به أئمة أهل البيت(ع) بشأن كل مسألة من المسائل العقائدية؛ إذ أن أئمة أهل البيت(ع) كانوا المنبع الوحيد الذي تستقي منه الشيعة أمورها الشرعية والعقائدية بعد النبي (ص)، فالمعلوم أن الشيعة - وخصوصاً أصحاب الأئمة(ع) - كانوا يسألونهم عن كل أمر يمت بصلة إلى العقيدة والشريعة. وهذا ما تؤكده الفكرة القائلة: "أن مذهب الإمامية يقتضي بأن الهيكل العام للتعاليم الشيعية إنما قام على ما روي من أحاديث وأخبار عن الإمام المعصوم، فمنطوق المذهب يقضي بطرد كل احتمال للتأثير الخارجي لابل إنكاره باعتبار أن المذهب الشيعي وحدة فكرية قائمة بذاتها مستمدة من تعاليم الإمام.
إذن، فللإمامية أفكارهم الخاصة التي أسسوا عليها أحكامهم وآراءهم في الأصول والفروع، فكما أنهم استقلوا في فروع الأحكام فكذلك هم مستقلون تماما في أصولها وفي المسائل الكلامية، ومما يعزز ما تقدم تصريح الشيخ المفيد أستاذ الشريف المرتضى - بهذا الصدد، فهو يقول: "لسنا نعرف للشيعة فقيهاً متكلماً على ما حكيت عنه من أخذ الكلام من المعتزلة وتلفيقه الاحتجاج".
٢ - وحيث الأغلب يتفق على أن نشوء مذهب المعتزلة، كان قد بدأ على يد واصل بن عطاء وبناءً على ما ورد في النقطة الأولى آنفاً من تعضيد متكلمي الفكر الشيعي آراءهم بأحاديث أئمتهم، فان في هذه الحقيقة ما يكفي للرد على القائلين باستقاء الشيعة أفكارها من المعتزلة، فهل يستطيع أحد إنكار هذه الحقيقة؟ بل بماذا نفسر قول الكراجكي - تلميذ المرتضى - : "واعلم أن المعتزلة لها من الألفاظ القبيحة والزلات الفظيعة ما يكثر تعداده. وقد صنف ابن الراوندي كتاب فضائحهم فأورد فيه جملاً من اعتقاداتهم وآراء شيوخهم مما ينافر العقول ويضاد شريعة الرسول (ص). وقد وردت الأخبار بذمهم من أهل البيت(ع) ولعنهم الإمام الصادق (جعفر بن محمد)(ع) فقال: لعن الله المعتزلة، أرادت أن توحد فألحدت ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت".
٣ - ومضافا لما تقدم فأن كل من قال بتبعية الشيعة للمعتزلة يرى أنهم - الشيعة - قد تابعوا المعتزلة في مسائل الصفات الإلهية، التي قال معظم المعتزلة بأنها عين الذات، إلا أننا نجد أن أئمة أهل البيت(ع) قد سبقوا متكلمي المعتزلة إلى ذكر هذه الحقيقة وهذا ما هو موجود في أمهات المصادر الكلامية للإمامية.
٤ - وبالرغم من اشتراك الإمامية والمعتزلة - من حيث المنطلق - في معالجة بعض المسائل الكلامية معالجة تتسم بالاشتراك في بعض وجهات النظر، إلا أن الإمامية أعطوا مفهوماً لهذه المسائل المذكورة يتفاوت مع مفهومها عند المعتزلة، فالإمامية مثلاً في مسألة الاختيار لم يفسروه بصورة التفويض المطلق للإنسان، إذ أن ذلك يعد سلباً للاختيار عن ذات الحق واشتراكاً له في وظائفه (جلت قدرته) بل يفسر الاختيار ولأول مرة من قبل أهل البيت(ع) بأنه "أمر بين أمرين".
وقد أيد الإمامية أصل العدل بمفهومه الجامع دون المساس في التوحيد الفعلي، أو التوحيد الذاتي، فالعدل قد استقر في مكانه الصحيح إلى جانب التوحيد.
٥ - إن المعتزلة درسوا أصول الدين دراسة حرة مجردة، واقتبسوا كل ما روي عن الإمام علي(ع)، بهذا الصدد، يقول الشريف المرتضى: "اعلم أن أصول العدل والتوحيد مأخوذة من كلام أمير المؤمنين(ع) وخطبه، فإنها تتضمن من ذلك مالا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه عَلِمَ أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول، وروي عن الأئمة(ع) من أبنائه(ع) من ذلك مايكاد لايحاط به كثرة".
القائلون باعتزالية الشريف المرتضى
وحيث أن موضوع البحث هو التحقق من نسبة الاعتزال لهذا الرجل. لذا سنتناول هنا آراء القائلين باعتزاليته، وحسب الترتيب الزمني لنتعرف على أول قائل بذلك وآراء العلماء فيه باعتباره مفتتحاً لهذه النسبة إلى المرتضى ألا وهو ابن حزم.
١ - قال ابن حزم - على ما نقله عنه ابن حجر -: كان الشريف المرتضى من كبار المعتزلة الدعاة.
٢ - قال ابن الجوزي: فيه ميل أو تظاهر في الاعتزال.
٣ - قال ابن الفوطي: وكان رئيس الإمامية، وكان يقول مع ذلك بالاعتزال.
٤ - قال ابن كثير: كان له شعر جيد على مذهب الإمامية والاعتزال.
٥ - أما ابن حجر فقد وصفه بأنه: المتكلم الرافضي المعتزلي.
٦ - وأخيراً ما ذهب إليه من المحدثين المرحوم الدكتور عبد الرزاق محيي الدين من أنه من أعلام المعتزلة.
المناقشة
ألآن وقد علمنا أن ابن حزم هو مفتتح هذا الرأي، نقول: هل الشريف المرتضى هو الشخصية الوحيدة التي قدح فيها أو في سيرتها ابن حزم هذا؟ أم أنه كبقية العلماء الذين اتهمهم ابن حزم بالانحراف عن مبادئهم وعقائدهم؟ إليك ماقاله ابن خلكان عن ابن حزم هذا لتتضح لك الأمور عن قرب.
قال ابن خلكان: "كان - ابن حزم - كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لايكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف فقهاء عصره، فتماثلوا على بغضه، وردوا أقواله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ منه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده…" ثم قال ابن خلكان: وفيه قال أبو العباس بن العرين: "كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف الثقفي شقيقين"، "وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة"، انتهى كلام ابن خلكان.
وإذا كان الأمر قد خفي على ابن حزم - ومن تأثر أو نقل عنه دون تمحيص ممن لم يسند مدعاه إلى حقيقة وجدها في كتب الشريف المرتضى - فيجب أن لا يخفى على الدكتور عبد الرزاق محيي الدين، وهو الذي تصدى لاستقصاء آراء المرتضى من الناحية الأدبية، فأنت إذا تصفحت الأمالي - مثلاً - وهو أكثر مؤلفات المرتضى اعتماداً من قبل الدكتور محيي الدين - وجدت أن المرتضى حينما يستعرض آية من كتاب الله فإنه يتناولها من عدة وجوه منها: اللغة، الأدب، الفقه، التفسير، والكلام.
وحيث أن الشريف المرتضى قد أوضح رأيه بكل المسائل العقائدية التي ذكرناها سابقاً، لذا كان على الدكتور محيي الدين أن يكون موضوعياً فيما بدا له من النتائج خلال دراسته لآراء الشريف المرتضى.
ومضافاً لكل ما تقدم أنّ الدكتور محيي الدين لم يسند مدّعاه بأي دليل يؤيد اعتزالية الشريف المرتضى، بل أنه وقع في تناقض من خلال مايلي:
أ - قال: لابد للمرتضى وهو من أعلام المعتزلة، من معرفة وجوه الكلام وتأويلاته.
ب - ثم وقع في تناقض حين صرح بأن: "المرتضى فرّق بين الإمامية والمعتزلة، وقد كان المذهب الإمامي يلتقي كثيراً مع الاعتزال، حتى لقد يقل أن تجد إماميا غير معتزلي، وطالما طعن المعتزلة بالرفض، ولكنه - المرتضى - حاول محاولات كثيرة إلى الفصل بين الاعتزال والمذهب الإمامي، وأشار إلى مواطن التقائهم واختلافهم.
أقول لما عَلِم الدكتور محيي الدين أن المعتزلة قد طعنوا بالرفض، وأن المرتضى حاول محاولات كثيرة إلى الفصل بين الاعتزال والمذهب الإمامي، وأنه أشار إلى مواطن التقائهم واختلافهم، أقول: ألم يلاحظ الدكتور محيي الدين أن المرتضى في معرض حديثه عن مواطن الالتقاء والاختلاف قد صرح باختلافه مع المعتزلة في مسائل عديدة أهمها: الإمامة، الفرق بين النبي والرسول، الوعيد، الشفاعة، عصمة الأئمة(ع) وأفضليتهم وغيرها.
ومضافاً لكل ما تقدم آنفاً - مما استطعنا من خلاله دحض هذه التهمة - إليك جملة من الحقائق التي صرح بها الشريف المرتضى في مؤلفاته… حقاً أن الآراء يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها كما يقول المرتضى:
١ - وقوفه لإمام المعتزلة في عصره القاضي عبد الجبار المعتزلي من خلال تأليفه كتاب "الشافي في الإمامة"، رد فيه على ما يذكره القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني" من مسائل الإمامة: بدءً من تعريفها والفرق بينها وبين الخلافة، مروراً بطريق وجوبها وطريق إثباتها، وانتهاءً بصفات الإمام. وفي جميع هذه المسائل ظهر الخلاف الفكري الحاد بين الشريف المرتضى من جهة وما تراه المعتزلة من جهة أخرى كما اتضح من خلال استعراضنا في الصفحات الأولى رأي الطرفين في مسألة الإمامة. كما تضمن كتاب "الشافي" هذا مسائل غير مسألة الإمامة مختلف بشأنها بين الطرفين كالوعيد وحكم مرتكب الكبيرة والشفاعة التي أنكرتها المعتزلة.
وفي ختام هذه النقطة جدير بأن أذكر ما أفاده السيد حسن الأمين حين قال: "كيف يكون الإمامي معتزلياً وكتاب "الشافي" للمرتضى هو رد على "المغني" للقاضي عبد الجبار، لكن اعتاد جماعة أن ينسبوا جملة من محققي علماء الإمامية إلى الاعتزال بموافقتهم للمعتزلة في بعض المسائل… وهذا خطأ من قائله، فالمعتزلة أقرب إلى أهل السنة منهم إلى أهل الشيعة، لموافقتهم إياهم في أمر الخلافة، وفي أخذ فروع الدين من الأئمة الأربعة".
٢ - استشهاده في أغلب الأحيان بأحاديث واردة عن أئمة أهل البيت(ع)، فتراه تارة يستشهد بأحاديث واردة عن الإمام علي(ع)، وأخرى عن الإمام زين العابدين - علي بن الحسين - وثالثة عن الإمام محمد الباقر، ورابعة عن الإمام جعفر الصادق، وخامسة عن الامام موسى بن جعفر، وسادسة عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وهذا مالا نجده عند المعتزلة قاطبة، نعم إذا أرادوا أن يستشهدوا فإنهم يستشهدون بأحاديث واردة عن الإمام علي بن أبي طالب(ع) فقط لا غير دون سائر الأئمة الباقين، في حين أننا وجدنا المرتضى كسائر متكلمي الإمامية إذا أرادوا تعضيد فكرة أسندوها إلى أحاديث أئمتهم عموما، إذن فلو كان المرتضى معتزلياً لحذا حذوهم في عدم الاستشهاد بأحاديث الائمة من أهل البيت(ع).
٣ - استعراضه الآراء الواردة في أصل تسمية المعتزلة: فمما أورده من هذه الآراء قوله: "وقيل أن اسم الاعتزال إنما اختصت به هذه الفرقة لاعتزالهم مذهب الحسن البصري في تسمية مرتكبي الكبيرة من أهل الصلاة بالنفاق، وحكي غير ذلك، أقول: لو كان المرتضى منهم لكان جازما في الإدلاء بأصل تسميتهم دون ذكر عدة أقوال كما نراه.
٤ - في معرض رده على ما ادعاه القاضي عبد الجبار من جواز الاستغناء عن الإمام في أمور منها: "تأكيد العلوم وإزالة الشبهات وأنه يبين ذلك ويفصله …. الخ"، يقول الشريف المرتضى: "ولو وجب أن يطلق الاستغناء عن الإمام في هذه الأمور من حيث كان لنا طريق يوصل إلى العلم بها من غير جهة لوجب على صاحب الكتاب وأهل مذهبه - تأمل ماذا قال المرتضى آنفاً - أن يطلقوا الاستغناء عن الرسول (ص) في جميع ما أداه إلينا مما علمنا قبل أدائه بالعقل"؛ فلو كان معتزليا لما قال "وأهل مذهبه".
٥ - في معرض رده على ما ادعاه القاضي عبد الجبار من أن الإمامية قالوا بأن المعارف كلها ضرورية، قال الشريف المرتضى: "ما نعرف فينا أحداً - تأمل ماذا قال آنفا - يدعي أن المعارف كلها ضرورية، وقد كان يجب أن لا يعتبر باعتقاد الضرورة في المعارف من له مثل أبي عثمان الجاحظ الذي افتتح هذا الرأي المفكر".
٦ - في معرض رده على هجوم أبي هاشم الجبائي - حسبما نقله القاضي عبد الجبار عنه - على هشام بن الحكم وطبقته نحو أبي عيسى الوراق وابن الراوندي ورمي بعضهم بالتجسيم والبعض الآخر بالإلحاد والبعض الثالث بالثنوية - قال الشريف المرتضى: "أن ذلك عدول عن النظر والحجاج إلى القذف في المذاهب وسب أهلها وتقبيحها في النفوس بما لو صح لم يك نقضاً لأصل المقالة ولا قادحا في صحة النحلة".
وفي معرض دفاعه التفصيلي عن هشام بن الحكم وما رمي به من القول "إنه تعالى جسم لا كالأجسام"، يقول الشريف المرتضى: "إن هذا القول ليس بتشبيه… وأكثر أصحابنا يقولون أنه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة فقال لهم إذا كنتم تقولون إن القديم تعالى شيء لا كالأشياء فقولوا أنه جسم لا كالأجسام". ثم يضيف المرتضى على ما تقدم فيقول: وليس من عارض بشيء وسأل عنه يكون معتقداً له ومدينا به.
ويستمر الشريف المرتضى في دفاعه عن هشام بن الحكم من خلال استعراضه بعض آراء شيخ المعتزلة وتقبيحه لها فيقول: كيف لم يذكر القاضي عبد الجبار قول أبي الهذيل العلاف في مقدورات الله تعالى ومعلوماته وهو قول أقبح من القول المحكي عن هشام رحمه الله…. وقول النظام أن الله تعالى لا يقدر على الظلم. وقوله بالمداخلة والطفرة، وأنه لا نهاية لأجسام العالم في التجزؤ والأعراض. وهذا مزح من التعطيل والإلحاد بالتجاهل والعناد.
ومن النص المتقدم يتبين أن الشريف المرتضى بعد عرضه لبعض آراء شيوخ المعتزلة آنفاً قد استقبحها، وعليه فلو كان ينتسب إليهم لما كان ذلك منه، كما أنه لو كان مقتنعاً بآرائهم لما هاجمها وإنما يعمل جهد إمكانه الفكري لتأويلها تأويلاً يراه قريباً للمنطق العقلي السليم.
٧ - هجومه على الجاحظ من خلال استشهاده بما جاء في بعض كتبه، حين قال: "ومن جمع بين كتبه التي هي العثمانية والمروانية والعباسية والإمامية والرافضة والزيدية، رأى من التضاد واختلاف القول مما يدل على شك عظيم وإلحاد شديد وقلة تفكر في الدين".
٨ - في معرض رده على ماذكره القاضي عبد الجبار من عدم عد الخوارج ضمن الإجماع، يقول المرتضى: "وليس قوله - القاضي عبد الجبار - أنني لا أعدهم في الإجماع بحجة، لأن للخوارج أن يقولوا له - للقاضي - مثل قوله بحدوث فرقتهم - فرقة المعتزلة - وابتداء أصل مقالتهم معروف كما أن ذلك معروف في مقالة الخوارج".
وبذلك يتبين أن الشريف المرتضى لم يكن من كبار المعتزلة الدعاة كما تراءى لابن حزم وليس فيه ميل أو تظاهر في الاعتزال، كما اعتقد ابن الجوزي، ولا من أعلام المعتزلة كما استساغها الدكتور عبد الرزاق محي الدين.
أن ما أود ألفت النظر إليه من الناحية المنهجية لدى محاولتنا التفهم الموضوعي لتاريخنا الفكري هو لزوم التحرز الشديد والترفع عن الذاتية الضيقة، والأخذ بالموضوعية والتمسك باليقظة التامة في دراسة نص من النصوص وتفحصه أو مقارنته.
وعندها نقول: أننا قد توصلنا إلى حقيقة مؤداها أن سلامة التراث الفكري من الاجتهادات الخاطئة - التي لم يتثبت أصحابها تثبتاً صحيحاً - تحقق لنا حرية التعبير في فَهم التاريخ تحققاً تظهر فيه الفكرة العقلانية أكثر اتساقاً وأعمق جذوراً، وألصق بطبيعة المنهج ومسائله.
انتهت
المصدر: رسالة التقریب، العدد 25