printlogo


printlogo


مقالة
القراءة وأهميتها في حياة الأفراد والمجتمعات

 (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ  عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(العلق:1 - 5)
هكذا انبثق نور الإسلام في بدء انطلاقته بتوجيه أمر لرسول الله(ص) بالقراءة، وما أدراك ما القراءة؟! القراءة حركة العقل والفكر لتغيير الواقع من حالة دانية إلى حالة مرتفعة سامية.
والآيات الكريمة التي أجمع المفسرون على أنها أول سورة نزلت على صدر رسول الله(ص) وهذه الواقعة الرائعة التي ربطت الأرض بالسماء وغيّرت وجه التاريخ تشير إلى أن الإسلام انطلق من العلم والمعرفة؛ ليبني الإنسان فردًا ومجتمعًا ودولة، وينشئ حضارة إنسانية رائعة.
إن القراءة بمعناها الحقيقي تعني التأمل والتدبر في كتاب التكوين الآفاقي والأنفسي هذا من جانب، ومن جانب آخر قراءة في كتاب التدوين المتمثل في كتاب الله المنزل على رسوله(ص) ليكون دليلًا ومرشدًا إلى معرفة ما في الكون من أسرار، وما في خلقه ووجوده من أهداف الكون وما وراءه من أسرار وماذا يراد منه؟
إن القراءة التي أمر الله تعالى بها النبي(ص) وأمته والسائرين على هداه يجب أن تهدي إلى الواحد الأحد لمعرفة أسمائه وصفاته، ومقاصده التي أنزل كتابه من أجلها، هذه القراءة في كل حركة وسكون بل في كل لحظة بصر، وخطرة قلب تبدأ باسم الله، وتتحرك على هدى الله.
وعلى كل حال، القراءة طريق ووسيلة للوصول إلى معرفة الله تعالى ومعرفة أحكامه، وما يريده من الإنسان للسير في معارج الكمال.
إن تكرار الأمر بالقراءة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)، إشارة لتثبيت الفكرة وبيان أهميتها، لترسخ في أذهان السامعين؛ وتصبح حقيقة متأصلة في روح الإنسان يستأنس بها ولا يحيد عنها بل لتصبح أصلًا متجذرًا في كيانه.
وهي كذلك إشارة إلى مظهر من مظاهر لطف الله في الإنسان وإكرامه، أن علَّمه بالقلم ليرفعه إلى أعلى المستويات الفكرية والروحية والأخلاقية، ولينقله من كثافة المادة وطين الطبيعة إلى شفافية الروح، (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) بعد أن أخرجه إلى هذه الدنيا صفحة بيضاء لا يحتوي على شيء سوى أرضية صالحة لغرس بذور العلم، لِتُعمّق الإيمان، وتؤصل التوحيد في عقل الإنسان وقلبه وروحه ووجدانه.
وخلاصة الكلام: إن الإسلام أكد على القراءة الواعية للقرآن؛ لأنه كتاب التدوين الذي يهدي لقراءة الكون فهو كتاب التكوين، وأقسم تعالى بالقلم لما له من دور في رفع شأن الإنسان وإصلاح المجتمع، وانتشار الحضارة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)(ن:1 - 2) يقول المفسر الكبير الشيخ الطبرسي: "والقلم، الذي يكتب به، أقسم الله به لمنافع الخلق فيه، إذ هو أحد لسانيّ الإنسان يؤدي عنه ما في جنانه، ويبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه، وبه تحفظ أحكام الدين، وبه تستقيم أمور العالمين، وقد قيل إن البيان بيانان؛ بيان اللسان، وبيان البنان، وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باقٍ على مر الأيام، وقيل: إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم، وقد نظمه بعض الشعراء وأحسن فيما قال:
إن يخدم القلمَ السيفُ الذي خضعت
له الرقاب ودانت حِذْرَهُ الأممُ
فالموت والموت شيء لا يغالبه
ما زال يتبع ما يجري به القلمُ
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
إن السيوف لها مذ أرهفت خدمُ"
ويقول العلامة الطباطبائي: "أقسم سبحانه بالقلم، وما يسطرون به، وظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم ومطلق ما يسطرون به، وهو المكتوب فإن القلم، وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار، والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد دون المكان دونه حجابًا.
وقد امتنَّ الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما وتعليمهما له، فقال في الكلام: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ  عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) وقال في القلم: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ  عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فإقسامه تعالى بالقلم وما يسطرون إقسام بالنعمة".
هذا إجمال الإشارة إلى أهمية القلم، وأما التفصيل: فإن الإسلام إنما أعطى للعلم هذه الأهمية لأمور كثيرة يتوقف عليها بناء الإنسان وتسيير أموره، ومن تلك الأمور:
1- إن القلم الذي هو رمز للعلم والمعرفة يعد هو المصدر (لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إن تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار، وتطور المدارس المذهبية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية… كان في الواقع بفضل ما ثبت من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، مما كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان.. وكان ذلك بواسطة "القلم".
2- إن القلم له الدور الأساسي والرئيسي في تأسيس الحضارة؛ وبناء ثقافة الشعوب؛ وتقدمها بل هو العامل الأهم في تقدم الشعوب ورقيها.
3- إن القراءة عامل أساسي في فهم الحياة الإنسانية السابقة والحاضرة واللاحقة، وفهم سر وجودها، وأهدافها، ووسائلها، معرفة تحدد عوامل النهوض والتقدم، وعوامل السقوط والانهيار.
4- القراءة مصدر هام لتحصيل المعارف والمعلومات؛ وتثبيتها في سجل التأريخ وبقائها ترفد مسيرة الإنسان على طول خط التأريخ.
5- وإذا تخلينا عن كل ذلك نجد أن القراءة أفضل متعة، وتسلية، وسياحة في عمق التأريخ وغذاء للروح والعقل والنفس، وانتقال من عوالم ضيقة محدودة إلى عوالم واسعة سعة الحياة؛ ولذا يقول الإمام أمير المؤمنين(ع): "من تَسَلّى بالكتب لَم تَفُتْهُ سَلْوَةٌ"، ويقول(ع): "نِعْمَ المُحَدِث الكِتاب"، ويقول(ع): "الكتاب أحد المحدثين."
وبناء على ذلك نجد في السنة الشريفة التأكيد على الكتاب والكتابة، يقول الإمام الصادق(ع): "اكتب وبث علمك في أخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك؛ فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يستأنسون إلا بكتبهم."
وعن رسول الله(ص): "قيّدوا العلم بالكتابة."
وعن الإمام الحسن(ع) لما دعا بنيه وبني أخيه: "إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه، وليضعه في بيته."
وقال(ع) لأبي بصير: "دخل عليَّ أناس من أهل البصرة، فسألوني عن أحاديث, وكتبوها فما يمنعكم من الكتاب، أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا."
هكذا أكد الإسلام على القراءة والكتابة، فهما متلازمان لا تنفك إحداهما عن الأخرى.
ولأهمية هذا الأمر نرى أن الأمم المتحضرة اهتمت بشأن الكتب والمكتبات، وأسست لها المؤسسات الكبيرة؛ لأنها مَعْلَم حضاري كبير.
عوامل العزوف اليوم عن القراءة:
رغم علم الجميع بأهمية القراءة والكتابة وإجماع الناس على ذلك في جميع الأمم والشعوب إلا أننا نرى اليوم انصراف أكثر الناس عن القراءة والمطالعة وهجران المكتبات، وقد قامت بعض المؤسسات بتقديم إحصائيات عن نسبة القراءة في الوطن العربي، وقارنتها بنسبة القراءة في أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الأوربية، فعن جريدة الرأي الأردنية أن معدل قراءة المواطن العربي سنويًا ربع صفحة، ومعدل قراءة الأمريكي 11 كتاب سنويًا، و7 كتب نسبة قراءة البريطاني، وإجمالي ما تنتجه الدول العربية 11% من الإنتاج العالمي رغم أن نسبة سكان الوطن العربي إلى سكان العالم 5% حسب إحصائيات سنة 2009 وما يطبع باللغة الإنكليزية 60% من نسبة المطبوعات بالعالم وهناك إحصائيات عن عدد المطبوعات في كل دولة.
جاء في تقرير مؤسسة التنمية الإنسانية العربية والذي أشرف عليه المئات من الخبرات والعلماء والباحثين إحصاءات ووصلوا إلى النتيجة المذهلة القائلة: ثلث الرجال، ونصف النساء في الوطن العربي لا يقرؤون.
وقالت منظمة اليونسكو في تقرير لها عن القراءة في الوطن العربي أن المواطن العربي يقرأ ست دقائق في السنة، طبعا هذا غير الكتب المدرسية والمجلات والصحف.
إن العراق الذي كادت الأمية تنعدم فيه إبان العقود الماضية تراجع بشكل ملحوظ نتيجة للظروف السيئة، وازدادت أعداد الأميين، وبدت ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس وعزوفهم عن الدراسة، جلية في الشوارع ومواقع العمل المختلفة.
ولعل من أهم العوامل التي أسهمت في انصراف الشباب عن القراءة هو:
1ـ نظام التعليم العقيم المبني على حشو أدمغة التلاميذ بكمية معينة من المعلومات بدلًا من غرس قيم البحث أو التفكير أو الإبداع.
2- المناهج التعليمية الجافة والكتب المدرسية المنفرة التي تجعل من الكتاب؛ ومن القراءة شيء مكروه بحيث يذهب الكثير من الباحثين والمراقبين لواقع القراءة في العالم العربي إلى "أن تدني هذه الظاهرة يعود بشكل جوهري إلى مناهج التعليم التي تعلم التلقين والحفظ واستدعاء الذاكرة عند ضرورة الامتحان، وعدم إشاعة حب القراءة كثقافة مهمة في حياة الطالب مدى الحياة".
3- ومن الأسباب أيضًا تركيز الأمهات والآباء على النجاح بأعلى الدرجات في المدرسة بأي طريقة كانت حتى لو لم يفهم الطالب الدرس الذي تلقاه ما دام قد حفظه ببغاويًا وعبر به مرحلة دراسية.
4- ولعله من الأسباب المهمة كثافة المناهج التعليمية؛ وحشد الكثير من الدروس، وتكثير واجبات الطالب البيتية والامتحانية بحيث تصل إلى حد الارتباك والضيق والملل حتى يعود الطالب يكره الكتاب المفروض عليه فرضًا، وبالتالي يصبح يكره رؤية الكتاب.
5- الانغماس بالحياة المادية الخارجة عن حاجة الإنسان بحيث إن الإنسان عاد اليوم لا يكتفي بما يكفيه من وسائل، وإنما استغرق في الكماليات إلى أذنيه.
6- الخطأ الذي غرس في ذهن الفرد بأن القراءة لأجل نيل الشهادة والامتحان، وإذا نال الشهادة فقد وصل درجة الكمال وحقق جميع آماله فلماذا يقرأ إذن.
7- الخطأ في فهم التطور التكنولوجي، فالبعض يتصور أن حصوله على المعلومة بسهولة من الإنترنت أو التلفزيون يكفي عن ذلك، ونسي أن بحث الإنسان عن المعلومة، ومواصلة التأمل والتفكير هو الذي يوسع آفاقه العلمية والفكرية.
8- ولعله من أهم الأسباب عدم معرفة أهمية القراءة والمغزى الأساسي منها، وهي بناء شخصية الإنسان بتوسيع آفاقه العملية والفكرية والأخلاقية، وأن القراءة لا تنحصر فقط بالحصول على الشهادة، وإنما الشهادة هي نتاج القراءة والدراسة، وليس العكس، فحصول الشهادة بلا مواصلة القراءة والدراسة يؤدي إلى محو ما حصل عليه الطالب أثناء دراسته.
المصدر: مجلة ینابیع، العدد المزدوج 57-58