مقالة
مشكلة تعويم الإجتهاد في الفقه والعقائد
الجزء الأول
الخلاصة: تناقش المقالة مشكلة تعويم الاجتهاد في الفقه والعقائد الإسلامية، مشيرة إلى تأثيرات انهيار نفوذ الأزهر وفتح باب الاجتهاد بشكل غير منضبط لدى أهل السنة، مما أدى إلى انتشار الفتاوى والاجتهادات من غير المختصين. كما تتناول تأثر الشيعة بهذه الظاهرة بعد الثورة الإسلامية في إيران، حيث ظهرت محاولات مشابهة لدى البعض لتقديم اجتهادات غير مؤسسة. يحذر الكاتب من خطورة ترك الاجتهاد دون ضوابط وشروط صارمة، مؤكداً على ضرورة تقييد الاجتهاد بمنهج علمي وفقهي دقيق لتجنب الفوضى الدينية.
بســم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
طرأ في عصرنا على الإجتهاد في فقه الإسلام وعقائده أمران، شمل أولهما جميع المذاهب، وهو إنهاء نفوذ الأزهر وفتح باب الإجتهاد عند إخواننا السنة . واختص ثانيهما بمذهبنا الشيعي، حيث انتقل التشيع بعد ثورة إيران الإسلامية من مذهب خارج أضواء السياسة إلى مذهب تحت أضوائها .
وفيما يلي نستعرض هذين الحدثين من زاوية تأثيرهما على الإجتهاد في مسائل الشريعة والعقيدة الإسلامية.
1 ـ المرجعيات البديلة عن الأزهر
كان الإجتهاد في الأزهر محصوراً في أئمة المذاهب الأربعة، وإذا فتح بابه فإنما يفتح لكبير علماء الأزهر، ويتقيد الشعب المصري ومن ورائه أكثر العالم السني برأيه ..
أما بعد القضاء على مكانة الأزهر، فقد انتقل مركز الإجتهاد والفتوى إلى كل من يريد البحث في الدين من متعلمي الأمة بل من عوامها، وكل من يرغب أن يكون له فتاوى وأتباع في فهمه للشريعة، بل في فهمه للعقيدة أيضاً !
لقد كان هدف السلطات المصرية ومن وراءها من الغربيين، أن تستبدل مركزية الأزهر الدينية الخطيرة برمز ديني تعينه السلطة .. ولكنهم لم يحسبوا أن معنى ذلك بمنطق التاريخ ومنطق المخزون الديني في الأمة، أن جذور الأزهر ستبقى في نفوس المسلمين وستنبت في كل محافظة من مصر أزهر جديداً ومفتين ومقلدين جدداً ! وأن ضرب مركز الفتوى الطبيعي، سيزرع بذور عشرات المراكز بل مئاتها .. وأن ضرب قيادة العلماء الطبيعية للمسلمين، سوف ينبت عشرات القيادات بل مئاتها ..
وليس ذلك في مصر فحسب، بل في كل العالم الإسلامي تقريباً .. فالذين يظنون أن مصر فقدت تأثيرها على العالم الإسلامي يقعون في خطأ كبير، فالحقيقة أن كل المؤثرين في الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية في العالم الإسلامي السني هم تلاميذ لعلماء من مصر، أو متأثرون بتيارات فكرية جاءت من مصر .. سواء ذلك في الفقه والفكر، أو في طرق العمل للإسلام !
ولكن تأثير ضرب الأزهر لم يقتصر على تجزئة مركز الفتوى، بل وصل إلى مضمون الفتوى وشروط الإجتهاد!
2 ـ تعويم الإجتهاد عند السنة
بنى المثقفون والعلماء من أوائل هذا القرن آمالاً كبيرة على دعوتهم إلى فتح باب الإجتهاد. خاصة أنها جاءت في عصر العلم والمناهج الآكاديمية في البحث.
لكن الذي حدث أن باب الإجتهاد انفتح عندهم على مصاريعه لكل الناس، وفي كل أمور الدين، في عقائده وشريعته وطريقة فهمه وممارسته ! فدخلت مصر بذلك في مرحلة تعويم الإجتهاد والفتوى لكل من يرغب أن يكتب فتاواه في أي مسألة من مسائل الإسلام، حتى لو كان عامياً خالياً من رائحة العلم ..! فكان معنى ذلك ببساطة :
لا قواعد ثابتة في الفهم الديني .
لا ضوابط للإجتهاد في الدين .
لا تخصص في البحث الديني .
لا شروط في القيادة الدينية .
وإذا كانت النقطة الأولى تعجب دعاة التحرر الغربي، فإن النقاط التي بعدها تكمن فيها الكارثة على الجميع! فحرية البحث العلمي في أمور الدين حق طبيعي وأمر حيوي يجب أن نحرص عليه ولكنها بشكلها الذي حدث ليست إلا تعويماً فوضوياً تغرق فيه كل الموازين والقيم، بما في ذلك حرية البحث العلمي نفسها!
إن الذي تشهده ساحة الفكر الديني في مصر من مطلع هذا القرن إلى يومنا، ما هو إلا مجسمة هندسية لحالة العالم الإسلامي السني في العقود الماضية والعقود المقبلة، حيث ستزداد الإجتهادات ويظهر عشرات المجتهدين بل ومئاتهم، وكل بضاعة الواحد منهم ظنونه واستحساناته، وقدرته على إقناع شريحة من الناس بأن يقلدوه ويتعبدوا لله تعالى بفتاواه، وربما بأوامره العسكرية!
3 ـ تأثر الشيعة بموجة تعويم الإجتهاد
كنا نتصور أننا في لبنان والعراق وايران والهند وبلاد الخليج وغيرها من بلاد الشيعة في حصانة من المؤثرات المصرية علينا، لأن تركيبتنا المذهبية المختلفة تمنع التفاعل والتأثير، ولأن مرجعيتنا الدينية التي استطاعت أن تصمد في وجه الأخطار التي أطاحت بمرجعية الأزهر، تشكل مانعاً من التأثر بالأفكار الناتجة عن انهيار مرجعية الأزهر . وقبل هذا وذاك لأن باب الإجتهاد عندنا مفتوح لم يغلق، حتى يؤثر فتحه على فكرنا وفقهنا.
ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد سرى فينا مرض تعويم الإجتهاد المصري، ولم نكتشفه إلا بعد أن استفحلت ظواهره . فقد نشأت فينا حركات فكرية وسياسية، ونشأت ناشئة من متعلمينا وأشباه متعلمينا ومن طلبة علوم الدين أيضاً، يكتبون عن عقائد الإسلام وشريعته ومفاهيمه وقضاياه، ويفتون في مسائله الخطيرة كما يفتي كبار الفقهاء المتخصصين؛ بل ويزيدون عليهم أنهم يحللون أهداف الله تعالى من خلقه ودينه، وأهداف النبي(ص) من أحاديثه وسيرته، حتى كأن أحدهم كان مستشاراً لله تعالى عندما خلق السماوات والأرض، أو مديراً لمكتب رسول الله(ص) من يوم أوحى الله إليه في جبل حراء، الى أن توفاه الله واختاره الى جواره!
أذكر أنني قرأت يوماً الرواية التالية في علل الشرائع، للصدوق رحمه الله ج 1 ص 241 :
( حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مع جماعة فيهم على بن عيسى القصري فقام إليه رجل فقال له : أريد أسألك عن شيء، فقال له: سل عما بدا لك، فقال الرجل : أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟ قال : نعم، قال أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله؟ قال : نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عدوه على وليه؟! فقال له أبو القاسم قدس الله روحه: إفهم عني ما أقول لك: إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بشهادة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنه عزوجل بعث اليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، فلو بعث اليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم أنتم مثلنا فلا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله تعالى لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها .. فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإنذار والإعذار فغرق جميع من طغى وتمرد، ومنهم من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم من أخرج له من الحجر الصلد ناقة وأجرى في ضرعها لبنا، ومنهم من فلق له البحر وفجر له من الحجر العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً فتلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله تعالى، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك، فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين، وفي أخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين، وفي حال مقهورين، ولو جعلهم عزوجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختبار، ولكنه عزوجل جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله تعالى ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى لهم الربوبية أو عاند وخالف وعصى وجحـد بما أتت بـه الأنبياء والرسل، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
قال محمد بن ابراهيم بن اسحاق رضي الله عنه : فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر ماذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال لي : يامحمد بن ابراهيم لأن (يلقى بي من شاهق أو ) أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بى الريح في مكان سحيق، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالى ذكره برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه ) انتهى .
قرأت هذه الرواية وتأملت فيها طويلاً؛ لأنها تعني أن حضراتنا نحن الكتاب الإسلاميين عندما نحلل تاريخ الأديان والإسلام وعقائده وأحكامه، ونصدر فيها أحكامنا، نفعل بأنفسنا أكثر من إلقائها من شاهق! وتعني أن حضراتنا نحن القياديين الإسلاميين نغصب موقعاً قيادياً ليس لنا!
الرواية عندي نورها عليها ومنطقها قوي وإن كان وقعها علينا نحن الكتاب الاسلاميين أثقل من الجبال! لأنا تعودنا أن نكتب في مسائل الدين بآرائنا ولأنا أبناء عصر الثقافة الغربية وعصر الإنسان الغربي الذي أعطى لنفسه حق الإله في تحليل الدين، بل في اختراع دين ودعوة الناس إليه!
لا أريد أن ألغي دور العقل في فهم الدين وتحليله، ولا أن أتغاضى عن آيات القرآن التي تؤكد على دور العقل وتدعو الى التفكير والبحث الخ ولكني أريد ( عقلنة ) دور العقل، والوقوف به عند المدركات العقلية القطعية أو التي عليها حجة شرعية فقد خلط الكتاب الإسلاميون المعاصرون بين النتائج العقلية المعتبرة وبين الظنون والاحتمالات، فحملوا الإسلام ورسول الإسلام ورب الإسلام ظنونهم واحتمالاتهم ! وصار دور (العقل ) دور الاندفاع مع العاطفة وتحميل الإسلام أثقالاً من ظنون العباد وتصوراتهم!
هل رأيتم صاحب مبدأ أرضي أعطى لكل أحد الحق في فهم مبدئه وتقديمه الى الناس باسمه؟
هل رأيتم مشرعاً أرضياً أو دولة، أعطت لكل الناس الحق في فهم قوانينها وتطبيقها حسب فهمهم؟
وإذا كان تفسير المبادئ والقوانين الأرضية مسألة حساسة خاضعة لقوانين وشروط في التفسير والمفسر فكيف يكون تفسير الإسلام مشاعاً لكل أحد؟ وفوضى بلا ضوابط؟
أيها الأخوة المتدينون الذين تحبون الله ورسوله، وتحبون أن تقدموا الإسلام الى الناس وتدعوهم اليه وتدفعوا عنه التصورات الخاطئة والشبهات المغرضة شكراً لكم على هذا الإهتمام والإخلاص؛ لكن هل أنتم أهل اختصاص، وهل عندكم من مقومات البحث والاجتهاد ما يجوز لكم تفسير الدين وتقديمه الى الناس؟ وهل يكفي أحدنا يوم القيامة أن يقول لربه تعالى: كانت الحملة الغربية على الإسلام واسعة وشرسة، وكان العلماء المختصون قليلين فتصدينا للقيام بهذا الواجب!
ما أدري فقد يقبل الله تعالى هذا الجواب، خاصة من أصحاب النوايا الطيبة وهم كثيرون في الكتاب غير المجتهدين، والحمد لله . ولكن أليس هذا كجواب المعلم أو البقال الذي ترك دكانه وعمل طبيباً يعالج الناس طوال عمره، وأعد لآخرته جواباً أن يقول: يا رب! كثر المرضى في بلدي وقل الأطباء، فعملت طبيباً للناس مع قلة علمي!
مهما يكن من أمر، فإذا جاز في ظروف معينة أن يكتب في الإسلام كتاب لا يملكون اجتهاداً وتخصصاً، فهل يصح أن يصير ذلك قاعدة دائمة؟ وهل يغيب عنا ونحن في عصر التخصص أنه لا يجوز أن يعمل في الطب أو يكتب فيه إلا المتخصص، ولا في الفيزياء إلا المتخصص؟ فهل أن التخصص في الإسلام أهون من التخصص في الطب والفيزياء والرياضيات؟ وهل يجب أن يكون ما حدث ويحدث في مصر قاعدة تتبع؟
كلا، بل لا بد من ضوابط تحدد مواصفات الكتاب والباحثين والمجتهدين والقادة في الإسلام ولا بد للعلماء أن يبينوها ويوضحوها ولا بد للكاتب الإسلامي الذي ليس عنده اجتهاد في مجال كتابته عندما يمسك القلم، أن يفكر ملياً: هل يجري القلم له أو عليه؟
تتابع
المصدر: موقع علي الکوراني