printlogo


printlogo


مقالة
الاجتهاد عند الشيعة وتاريخه لدى مدرسة أهل البيت (ع)
الكاتب: محمدعلي التسخيري

الجزء الثاني والأخیر
 الخلاصة: تتناول المقالة "الاجتهاد عند الشيعة وتاريخه لدى مدرسة أهل البيت (ع)" لمحة تاريخية عن تطور الاجتهاد في الفقه الشيعي. يبدأ الكاتب بتوضيح أن عملية الاجتهاد كانت مصاحبة لعصر المعصومين (ع) مع قلة الحاجة إليه في زمنهم. بعد غيبة الإمام المهدي(عج)، تفتحت الذهنية الأصولية لدى الشيعة وبدأ الاجتهاد في التطور ليواجه التحديات الفكرية والفقهية. المقالة تتناول العوائق التي واجهت مسيرة الاجتهاد مثل الحركة الإخبارية وتأثير الشخصيات الكبيرة مثل الشيخ الطوسي. في النهاية، يوضح الكاتب أن الاجتهاد في الفقه الشيعي ضروري لمواكبة التحولات والتطورات المستمرة في الحياة.
 
البحث الثاني: لمحة تاريخية عن الاجتهاد لدى مدرسة أهل البيت (ع)
طبق ما تقدّم فإن عملية الاجتهاد كانت تصاحب حتى عصر المعصوم مع قلّة الحاجة إليه في زمانه، وإذا كان علم الاُصول مظهراً جليّاً من مظاهر الاجتهاد فإنا نستطيع أن نفسّر كيف تأخّر نشوء هذا العلم لدى مذهب أهل البيت (ع) عنه لدى المدارس الإسلامية الاُخرى، ذلك أن هذه المدرسة كانت تؤمن بامتداد عصر النصّ الشرعي إلى حوالي مئتين وخمسين عاماً بعد الفترة التي اعتقدت فيها المدارس الاُخرى بانتهاء عصر النصّ المباشر من المعصوم وهو الرسول الأعظم(ص)، وبمجرد أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي وبدأ عصر الغيبة الكبرى تفتحت الذهنية الاُصولية ودرست العناصر المشتركة وإن كانت بذور الفكر الاُصولي قد تشكّلت في أذهان أصحاب الأئمة (ع) منذ عصر الصادقين (الإمام الباقر والإمام الصادق(ع)) وربّما اُلفت رسائل في ذلك.
ومنذ ذاك رفضت مدرسة أهل البيت(ع) الاجتهاد بالمعنى الخاص ورأت فيه اتّباعاً للظنّ دون دليل معتبر ومنفذاً للآراء الشخصية والاستحسانات الطارئة وناقشت الأدلة التي ذكرتها المدارس الاُخرى وجاءت عن الإمام جعفر الصادق (ع) روايات كثيرة ضد هذا المعنى، واعتقدت هذه المدرسة أن النصوص الشرعية، والقواعد الرائعة المعطاة كفيلة بتغطية كل الوقائع المستقبلية وملائمة الإسلام لكل الظروف والتغيّرات فإذا كانت القواعد الشرعية متناهية فإنّها قادرة على شمول مصاديق غير متناهية، وأثبتت ذلك عملياً خلال القرون المتمادية. وقد أيّدتها في هذا المنحى بعض المدارس السنّية كالظاهرية التي شنّت حملة ضد القياس مثلاً.
وعلى أي حال فربّما أدّى اشتراك لفظ الاجتهادين بين المعنى الخاص إلى التحرّز عن اللفظ وتأليف الكتب ضد (الاجتهاد) ويقصد به المعنى الخاص طبعاً من مثل مصنَف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري الذي أسماه "الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس"، وصنّف إسماعيل بن عليّ النوبختي في عصر الغيبة الصغرى كتاباً في الردّ على الاجتهاد، كما ذكر الرجالي الشيعي المعروف النجاشي في كتابه.
ويرى اُستاذنا الشهيد الصدر أنّ الكلمة ظلّت هكذا حتى رأينا المحقّق الحلّي المتوفى سنة (676 ه‍) في كتابه "المعارج" يفرق بين المفهومين بعد أن يعرّف الاجتهاد بأنه: "بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية".
ويرى الشهيد مرتضى المطهري أنّ روح التقارب كانت سائدة رغم الخلاف، فبمجرد أن ينفتح باب التقارب باتّساع مفهوم مثلاً يتم التقارب بشكل طبيعي، والاجتهاد أحد موارده، والاجماع كذلك فإن مدرسة أهل البيت (ع) ترفض النظر للاجماع حجّة برأسه ولكنها طرحته وقبلته بعد اتّساع مفهومه لشمول الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم. ومن ذلك اعتبار الأدلة أربعة قياساً على الأدلة الأربعة لدى المدرسة السنّية، ولكن بتبديل القياس أو الاجتهاد إلى العقل ولكن في أحكامه القطعية الكاشفة عن الحكم الشرعي عبر قاعدة التلازم.
والملاحظ أنّ كل علماء الإمامية الذين حمّلوا على الاجتهاد كانوا - كما هو الظاهر - يطبّقون عملية الاجتهاد بمعناها الأعم.
والملاحظ أنّ المسيرة الاجهادية الممتدة والمفتوحة لدى مدرسة أهل البيت (ع) واجهت بالإضافة للعرقلة السابقة الناشئة من شيء من الخلط بين المفهومين العام والخاص للاجتهاد واجهت حالتين اُخريين كادت الثانية منهما تعصف بالمسيرة الاجتهادية على الاطلاق وتغلق الباب تماماً.
الحالة الاُولى
فكانت الفترة التي تلت حياة شيخ الطائفة(ره) فقد كانت عظمة هذا الرجل ومؤلّفاته وشخصيته مسيطرة إلى الحد الذي امتنع معه العلماء بعده من اظهار أي نظر جديد. وكان هذا الوضع سائداً حتى بزغ نجم العالم الجليل ابن إدريس الحلّي فراح يتحدّى ذلك الوضع ويسدي بذلك خدمة كبرى لمسيرة الاجتهاد.
الحالة الثانية
فكانت الحركة الإخبارية التي بدأت منذ حوالي أربعة قرون على يد الشيخ الملاّ أمين الاسترآبادي الذي استطاع أن يجذب إليه بعض العلماء وقد امتازت مدرسته بالوقوف ضد حجّية الحكم العقلي مطلقاً ورفض الاجماع بل وحتى التوقف عن العمل بالظواهر الكتابية إلاّ إذا فسرتها أحاديث أهل البيت (ع) وادّعت أن كل الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة الرئيسية للإمامية وهي "الكافي" و"التهذيب" و"الاستبصار" و"من لا يحضره الفقيه" صحيحة ومعتبرة بل هي قطعية الصدور، وراحت تنكر أي تخصّص في الدّين وتنفي التقليد فعلى الناس مراجعة الروايات مباشرة والعمل بها.
والحديث هنا طويل إلاّ أن هذا الخطر ارتفع بظهور مجموعة من العلماء على رأسهم العالم الكبير الوحيد البهبهاني وغيره ممّا فتّت هذا المسلك ولم يعد له وجود - إلاّ نادراً - بعد أن كاد يشيع الجمود والانحراف بالمسيرة الفكرية الصاعدة.
وجاءت الضربة القاضية له على يد المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه.
ملاحظات حول المرجعيات الشيعية عبر الزمن وفي الوقت الحاضر
بعد أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي(عج) حيث كان السفراء الأربعة يمثلون الوسائط المباشرة بينه (ع) وبين الشيعة وبدء عصر الغيبة الكبرى بدأت في الحقيقة مسيرة الاجتهاد الشيعية بعد أن كانت تعتمد على الأئمة من أهل البيت (ع)، فلا يجد العلماء حاجة ماسّة إلى الاجتهاد إلاّ في الحالات التي لا يتسنّى فيها الاتّصال بالمعصوم، وتشكّلت شيئاً فشيئاً المرجعيات الشيعيّة بشكل طبيعي.
الملاحظة الأولى
إنّ لفظ المرجعية لم يكن متداولاً بشكل عام إلاّ في العصور الأخيرة.
الملاحظة الثانية
إنّ قوّة الشخصية وقدرتها الفكرية وأحياناً التنظيمية هي التي كانت تفرض نفسها على الساحة لا أن هناك منصباً يملؤه أكفأ الأشخاص بشكل طبيعي.
الملاحظة الثالثة
في حالة تعدّد الاتجاهات أو تعدد الشخصيات اعتاد الشيعة على تعدّد المرجعيات ولم يجدوا في ذلك أي حرج. وهذا أمر شهدناه في العصر الحاضر. ولا نجد فيه ضيراً مادام الأمر في حدوده الضيّقة (الإجتهادية أو الشخصية) أما إذا عبر إلى الساحة الاجتماعية فإنّ المرجعية أما أن تتصدى للقيادة أو أن توكل المرجعيات الأمر إلى الولي المنتخب للقيادة؛ وتبقى في إطار التقليد والاجتهاد الحرّ.
الملاحظة الرابعة
إنّ التفريع الفقهي المنظم والبحث الاُصولي العلمي بدأ بعد تحقّق الغيبة الكبرى لأنّ الشيعة لم يكونوا بحاجة ماسة إليهما في زمان الأئمة (ع) أو نوابهم الخاصّين الذين كانوا يتّصلون بهم باستمرار.
وبعد ذلك بدأ عصر التدوين ماراً بمرحلة تجميع المصادر والروايات إلى الحدّ الممكن حيث صدر كتاب "الكافي" للمرحوم الكليني وكتاب "من لا يحضره الفقيه" للمرحوم الصدوق - وهي مرحلة تكرّرت بعد ذلك - حينما اكتشفت مصادر جديدة للروايات من جهة وتمّ التركيز على الإخبار وساد اتّجاه الإخباريين فتمّ إصدار موسوعات حديثية جامعة من أمثال "وسائل الشيعة" للشيخ الحرّ العاملي و"بحار الأنوار" للشيخ المجلسي و"الوافي" للفيض الكاشاني.
الملاحظة الخامسة
إنّ التفاعل بين المسيرتين السنيّة والشيعيّة مرّ بفترات قوة وضعف. فقد كان على أشدّه في عصر الأئمة الكبار، واستمر قوياً في عصر الفقيهين القديمين ابن عقيل وابن الجنيد - كما يسمّيها المرحوم ابن فهد الحلّي - حيث قبلا بعض المسلّمات لدى المذاهب السنيّة كالقياس، ولكنّ العلماء التالين كالشيخ المفيد والسيّد المرتضى وغيرهما رفضوا ذلك لأنّه لا ينسجم مع اتّجاهات فقه الإمام الصادق (ع) وناقشوه بشكل علمي.
فالتعامل العلمي هو المنهج، والحقّ هو المتّبع دون تعصّب أو تكفير. وقد ذكر بعض الكتّاب أن بعض علماء الشيعة الذين خلفوا الشيخ الطوسي كان يعمل بالإجماع الذي ينقله مالك عن أهل المدينة في موطئه لكشفه عن رأي المعصوم.
وهذا التعامل العلمي الموضوعي موروث من تعامل أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم وهو الذي جعل أربعة آلاف طالب يلتفّون حول الإمام الصادق (ع) ينهلون من علومه وفيهم كثير من غير الشيعة، وقد روت كتب أهل السنّة ما يقرب من إثني عشر ألف حديث عن أهل البيت (ع).
الملاحظة السادسة
إنّ تحديد المصطلحات وعدم تحديدها لعبا دوراً مهماً في تكوين الاتّجاهات المختلفة والمتعارضة إلى حد الطرد أحياناً. وهو آفة هذه النزاعات الفكرية دائماً. وكمثال على ذلك نجد أن مصطلحات الاجتهاد والعقل والإجماع وعدم وضوحها تركت آثاراً سلبية وربّما خلقت اتّجاهات متعارضة كان لها أن لا تحدث لو تمّ توضيحها بدقّة.
الملاحظة السابعة
وقد لعبت عوامل الزمان والمكان والسياسة دوراً كبيراً في تلوّن هذه المسيرة وتوحّدها أو تمزّقها ونجد بعض الأمثلة في:
1.            نموّ علمي الفقه والاُصول بعد عصر الأئمة (ع).
2.            تعاظم المرجعية الشيعيّة زمن البويهيين.
3.            نكسة الشيخ الطوسي بعد مجيء السلاجقة وقائدهم (طغرل بك) ثم انتقال الشيخ الطوسي إلى النجف.
4.            دور القائد "خدابنده" في دعم العلاّمة الحلّي بعد أن أقنعه العلاّمة فاعتنق التشيّع.
5.            دور الصفويّين في تقوية الفقه الشيعي ثم في تشجيع الحركة الإخبارية.
6.            دور عامل المكان في تقوية الشيخ المفيد، وفي هزيمة الحركة الإخبارية على يد الوحيد البهبهاني.
الاستنتاج
أن للاجتهاد عند الشيعة مفهومان: عام وخاص، وأنه ضروري، ما دام في الأرض إنسان، يعمل الإسلام على قيادته نحو السعادة، وأن هناك عوامل أغلقت باب الاجتهاد، ولكن مراجع الشيعة سعوا ما بوسعهم أن يجتهدوا في استنباط الأحكام الشرعية وإعطاء الحكم الإلهي للمسألة المبتلى بها.
انتهت
المصدر: التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.