printlogo


printlogo


مقالة
الاجتهاد عند الشيعة وتاريخه لدى مدرسة أهل البيت(ع)

  بعد الإيمان بالحاجة الماسّة إلى البحث العلمي والدراسة المتخصّصة للوصول إلى أحكام الله تعإلى بالاستدلال الصحيح، من خلال دراسة مصادر التشريع الإسلامي، المتمثِّلة بالكتاب والسنّة، تبلورت عملية الاستدلال للوصول إلى هذه الأحكام بالتدريج، وسُمّيت عمليّة الاستدلال هذه بالاجتهاد.
البحث الأول: حديث عام حول الاجتهاد عند الشيعة
تعريف الاجتهاد
وهو مأخوذ من الجهد وبذل الوسع للقيام بعمل ما، وحين ننتقل إلى المعنى المصطلح نجد أن له معنيين: عام وخاص.
المفهوم العام للاجتهاد
فقد قيل أن الاجتهاد هو: "استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي".
ولدى الاعتراض بخصوصية أخذ الظنّ - والمقصود به المعتبر قطعاً - عدل إلى ذكر العلم فعرّفه الخضري بأنّه: "بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة".
وإذا اُريد لهذا التعريف أن يسلم من بعض الاعتراض لزم أن يراد بالعلم: العلم الوجداني، والعلم التعبّدي، أو يراد بالحكم ما يعمّ الحكم الواقعي أو الظاهري، إلاّ أن التعريف يبقى ناقصاً لعدم شموله عمليات استنباط الوظيفة العملية العقلية، ولذا عرّفته المدرسة الاُصولية الحديثة بأنه: "ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية"، فهو يشمل كلّ جهد يبذل للتوصل إلى أحكام الشريعة.
المفهوم الخاص للاجتهاد
فقد ذكروا له تعريفات تنتهي إلى أن المراد به هو (الرأي) الذي يقف إلى جنب الاُصول الفقهية الاُخرى، وله مصاديق مختلفة كالقياس والاستحسان على - أحد معانيه - ولكي لا يمتلك جانب الرأي الشخصي غير المسموح به، فقد عرفه الدكتور خلاف بأنه: "بذل الوسع للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيه بالتفكير، واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نصّ فيه".
وإذا قبلنا هذا التعريف، عاد النزاع حول الاجتهاد بالمعنى الخاص نزاعاً حول ما إذا كان الشارع قد سمح بالرأي كمنبع أصيل للفقه فيما لا نصّ فيه طبعاً أم لا؟.
أما إذا اُريد منه إعمال النظر في الاستفادة من المنابع الاُخرى فقد خل في الاجتهاد العام ولم ينفرد بخاصية معينة، فإذا عرفنا الاستحسان - مثلاً - بأنّه: (تقديم أقوى الدليلين) لم يكن الاستحسان مصدراً رئيسياً بقدر ما هو تعيين للحجة الفعلية من اللاحجة.
فالنزاع إذن ينصب حول جعل الرأي مصدراً أصيلاً - طبعاً إذا كان يؤدي إلى الظنّ - أما ما أدى إلى القطع فلا ينازع في حجيته إلاّ البعض ممّن يرفضون حجّية القطع إذا أنتجه إعمال الرأي.
ومدرسة أهل البيت معروفة بموقفها المعارض من هذا النوع من الاجتهاد.
أما اعتمادها على العقل كأصل رابع فهو اعتماد على ما أدى فيه الحكم العقلي إلى القطع بالحكم، أو فلنعبّر ما كشف العقل فيه عن الحكم الشرعي قطعاً، وإن كانت بعض المسالك ترفض حتى مثل هذا القطع كما ستأتي الإشارة إليه.
ولا أجدني الآن بصدد الاستدلال لهذا الموقف أو ذاك بقدر هدفي في التعريف بهذه المدرسة الفقهية العريقة.
ضرورة الاجتهاد
إذا لاحظنا معنى الاجتهاد في كونه عملية تحديد الموقف تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً، أدركنا بكل بساطة "ضرورة عملية الاجتهاد" بشيء من التحليل، وبملاحظة النقاط التالية لا ندرك ضرورة الاجتهاد فحسب بل تزايد هذه الضرورة يوماً بعد يوم، ومادام في الأرض إنسان، يعمل الإسلام على قيادته نحو السعادة.
وقبل كل شيء يجب أن نقول: إنّنا نتحدّث عن الاجتهاد بالمعنى العام هنا.
أما النقاط التي يجب ملاحظتها فمنها:
النقطة الأولى
إنّ الشريعة إنّما اُعطيت في المجموع الكلي للكتاب والسنّة وبصورة تفرض الحاجة لجهد علمي في دراستها ومقارنتها، فهناك العام والخاص والمطلق والمقيّد والناسخ والمنسوخ والحاكم والمحكوم والوارد والمورود، وهناك التعارض والتزاحم في التطبيق وغير ذلك كثير من الاُمور التي تستدعي حالة خبروية مجهده.
النقطة الثانية
وتزداد هذه الحاجة كلّما ابتعد الشخص عن زمن صدور النص، وهذا الفاصل الزمني يحمل في طيّاته الكثير من المضاعفات كضياع بعض النصوص، ونسيانها، ودخول الموضوع بينها وتغير كثير من أساليب التعبير، وقرائن التفهّم وغير ذلك ممّا يتطلب الفحص والدقة والجهد المستمر.
النقطة الثالثة
وإن تطور الحياة وتعقدها يصحبه انطراح عدد كبير من الوقائع التي لم يرد فيها نصّ خاص ممّا يوجب الرجوع إلى القواعد العامة. وبنفس المستوى نجد الإسلام يوجه أسئلة متكررة تطرح مدى القبول بالانفتاح على بعض النظم المستوردة أو المتحدية له والآتية من عقول البشر (شرقيّهم وغربيّهم).
النقطة الرابعة
وإن الإسلام رسالة حياة وتنظيم خالد لكل شؤون المجتمع وحينئذ فهناك مواقع في عملية التربية الكبرى لا يمكن تسليمها إلاّ لمجتهد بالشريعة عالم بخفاياها وروحها وتعاليمها حتى يملك كلمة الفصل من خلال ذلك، فالقيادة والقضاء مثلاً لا تتمّان من دون فقيه ومجتهد متضلّع في الشريعة.
ويمكننا بعد هذه النقاط أن نسرد عناصر اُخرى، ولكننا نكتفي بما ذكر لنقول - باختصار - أن الاجتهاد في الواقع يعني:
-              إبقاء الروح الإسلامية الفعّالة، المواكبة للتحوّل؛
-              الموفرة للقدرة على الخلود؛
-              نفي الجمود الممتد؛
-              تعميق الاستفادة الأكبر من تعاليم الإسلام؛
-              ضمان الوصول الأقرب إلى واقعه؛
-              تقديم الحلول الأنجع للحياة الإنسانية، والأجوبة المحكمة للأسئلة الحادثة المتجددّة.
-              قطع الطريق على المتطفلين على عملية إبداء الرأي في الأحكام ممّن امتلكوا أبواق الدعاية وكراسي السلطة وراحوا يفتون هنا وهناك وهم لا يملكون أي تخصّص في ذلك.
-              الممر المحاسب والمسيطر على كل ما يراد إدخاله إلى الإسلام من تصور وحكم، أو إلى المجتمع الإسلامي كنظام تطبيقي، أو إلى السلوك الفردي كخلق وأمثال ذلك.
-              والمجال التقريبي المنطقي بين المسالك المتنوعة والمذاهب والمناحي المتفاوتة. والضمان لوجود مجموعة طليعية همّها الحفاظ على الإسلام الأصيل من عبث المنافقين والمتحلّلين وذوي الفكر الخليط، أو التربية العقلية اللا إسلامية، ونفي أي ذيلية فكرية واجتماعية ممّا يؤهلها للتأكيد على تطيبقه الصحيح في الحياة الاجتماعية. وتوفر القدرة على الرؤية الاستنباطية الصحيحة في كل المجالات، ومنها مجال معرفة المفاهيم الإسلامية.
فإنّ الاجتهاد يوفر للنظام الإسلامي من يملأ له منصب القيادة الواعية السليمة، ومنصب الفتوى المهم، ومنصب القضاء الشرعي،
ذلك أنّ الإسلام بتخطيطه للحياة الاجتماعية لاحظ الجوانب الفطرية الثابتة فشرع لها قوانين ثابتة لاشباع متطلباتها كما لاحظ الجوانب المتغيرة فواجهها بقوانين عامة تشمل حالاتها المتنوعة وترك لولي الأمر المجتهد القائد الفرصة للقيام بتنظيم الحياة على أساس المصلحة الاجتماعية المتغيرة بعد أن وضع له إشعاعات وتعليمات يسلك بها أفضل البدائل المطروحة أمامه عبر التشاور مع ذوي الخبرة المتخصصين الرساليين.
ولو كان في المجال متّسع لتحدثنا عن التطبيقات العملية لهذا المبدأ في حقول مختلفة ولكن لا مجال هنا لذلك.
وبعد هذا كلّه لا تجدنا بحاجة لعرض ضرورة فتح مجال تقليد غير المجتهدين في الأحكام الشرعية بعد ملاحظة الاُسلوب العقلائي، بل وقبل ذلك دلالة الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على هذه الحقيقة.
إنّها ضرورة الرجوع للخبراء (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً) على أن الشريعة احتاطت في التقيد فشرحت شروط العالم المقلَّد بل أوجبت - في أكثر الآراء - الرجوع إلى الأعلم.
وهكذا يستمر هذان المبدآن بعد انحفاظ مصادر الشريعة (الكتاب والسنّة) وتراكم خبرات المجتهدين.
عوامل إغلاق باب الاجتهاد
-              انقسام الدولة الإسلامية وتناحر الحكّام وانشغالهم عن تشجيع حركة التشريع، وانشغال العلماء باُمور الدنيا؛
-              أو انقسام المجتهدين إلى فرق وأحزاب متعصّبة؛
-              أو انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء وعدم وجود ضوابط؛
-              أو ما قيل من شيوع شيء من التحاسد؛
-              أو نبوغ شخصيات علمية لامعة سدت - بطبيعة عظمتها - الطريق على الآخرين احتراماً وانبهاراً بها؛
-              أو ما هناك من عوامل سياسية أو حتى فقهية أو غير ذلك.
أما كل هذه العوامل فيمكنها أن تذوب إذا لاحظنا:
-              ضرورة الاجتهاد المستمر؛
-              وانضباط القواعد الاجتهادية حتى عادت متقاربة، هذا ما نجده بوضوح في (الاستحسان)؛
-              واتساع الحياة والتعقيدات والوقائع المطروحة؛
-              واحتياج الدولة الإسلامية إلى المجتهدين في ولاية أمرها وشؤونها القضائية وغيرها؛
-              وقبل كل ذلك انحفاظ المصادر التشريعية الاُولى؛
-              وتزايد خبرات المجتهدين المتراكمة عبر الزمن والتنقيب في المصادر الاُولى والبحث والتعمّق.
فمن يقارن ما وصلت إليه الجامعة العلمية في النجف أو قم اليوم، من نظريات اُصولية، يجد البون شاسعاً بينه وبين المستوى قبل مئة عام مثلاً.
ومن الملاحظ أن الاجتهاد يتعقد بتعقد الحاجة، وفي مرحلة من تطوره يتحول إلى عمليتين متعاقبتين إحداهما اُصولية تركز على دراسة العناصر المشتركة التي يمكن الاستفادة منها في مختلف الأبواب الفقهية، والثانية فقهية تدرس الواقعة وتطبق تلك القواعد.
ومن هنا عبّر عن علم الاُصول بمنطق الفقه باعتبار أنه يقوم بنفس ما يقوم به علم المنطق بالنسبة للأفكار الإنسانية عموماً من تنظيم قواعدها التي تعصمها عن الخطأ.
وهنا ندرك أن علم الاُصول نشأ في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث، كما يعبّر المرحوم الشهيد محمّد باقر الصدر.
الاجتهاد وخطر الذاتية
ولاُستاذنا المرحوم الشهيد الصدر بحث رائع في هذا المجال، جاء في مقدمة الجزء الثاني من كتابه القيِّم "اقتصادنا"، وهو بصدد اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي من خلال الأبنية العلوية له وهي الأحكام والاُسس التي تشكّل أرضيته الاجتماعية وهي العقيدة والمفاهيم والعواطف.
وملخص بحثه هو أن:
الاجتهاد يعني: تسرّب بعض المواقف الذاتية أحياناً إلى النتيجة، ويشتد الخطر ويتفاقم عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعاً مخالفاً كلّ المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا. كالنصوص التشريعية المرتبطة بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان، فعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي - مثلاً - تتعرض لخطر الذاتية أكثر منها في استنباط الأحكام الفردية كالحكم بطهارة بول الطائر مثلاً.
ثم هو يحاول تحديد منابع الخطر في الاُمور التالية:
أ . تبرير الواقع
حيث يندفع الممارس - عن لا شعور أحياناً - إلى تطوير النصوص إلى الشكل الذي يبرر به واقعاً فاسداً يعيشه ويراه ضرورة كمحاولة البعض لتبرير الفائدة الربوية مدّعياً أن الإسلام ينهى عنها إذا كانت كبيرة جداً (أضعافاً مضاعفة) دون الالتفات إلى النصّ الشريف القائل: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ).
ب . دمج النصّ ضمن اطار خاص
كأنّ يؤمن بمنحى خاص ثم يعمد إلى النصوص فيختار منها ما يناسب منحاه. أو ما لا يصطدم به كأنّ نفترض الممارس يحمل نظرة تقديسية للملكية الفردية ممّا يدعه يعرض عن بعض النصوص التي لا تتلاءم وذلك، فقد كتب فقيه يعلّق على النصّ القائل: "بأنّ الأرض إذا لم يعمرها صاحبها أخذها منه ولي الأمر واستثمرها لحساب الاُمة" فكتب يقول: "الأولى عندي ترك العلم بهذه الرواية فإنها تخالف الاُصول والأدلة العقلية".
ومن أمثلة ذلك ما تلقيه الاقترانات اللغوية للَّفظة من تضليل. فكلمة الاشتراكية اشرطت بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك، وحينئذ فنحن نواجه خطر الاستجابة للأشراط الاجتماعي لتلك الكلمات.
ج . تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه
وهي عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي وأكثر ما تأتي في مجال الاستفادة من عنصر التقرير كدليل على الحكم الشرعي. كأن يستفيد شخص جواز الإنتاج الرأسمالي في الشريعة الإسلامية من سكوت الشريعة عمّا كان يجري أمام المعصوم من عمليات إجارة في مجال تلك المواد المعدنية.
د . اتّخاذ موقف نفسي معيّن بصورة مسبقة تجاه النص
ويتوضّح هذا بافتراض فقيهين أحدهما يتّجه نفسياً لاكتشاف أحكام السلوك الفردي، والآخر يتّجه نفسياً لاكتشاف الجانب الاجتماعي فإنّهما بطيبعة الحال يختلفان في النتائج حينما يدرسان نصوصاً متشابهة.
تتابع
المصدر: التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت(ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.