printlogo


printlogo


مقالة
في رحاب بقية الله: نظام السفارة وحياة السفراء

اعتمد الإمام المهدي(عج) في عصر الغيبة الصغرى نظام السفارة، وكان اختيار الإمام(عج) لأشخاص السفارة وإيكال الوكالة الخاصة لهم يقوم على عمق إخلاصهم وقوة تحملهم للتعذيب فيما إذا وقعوا تحت أيدي السلطة. ولم يشترط الإمام(عج) أن يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسع ثقافة. ومن هنا عندما جاء بعضهم يعترض على أبي سهل النوبختي ويقول له: كيف صار هذا الأمر - أي السفارة - إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ قال: "هم أعلم وما اختاروا، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة، لعلي كنت أدل على مكانه. وأبو القاسم لو كان الحجة تحت ذيله وقُرض ذيله بالمقاريض ما كشف الذيل عنه".
نظام الوكلاء
وكانت مسؤولية السفراء في هذا التنظيم عامة وشاملة، في حين أننا نرى مسؤولية الوكلاء خاصة تشمل منطقتهم فقط. ومهمة الوكيل في التنظيم تسهيل عمل السفير وتوسيعه، فيكون لعمل الوكلاء ونشاطهم أكبر الأثر في إيصال التعاليم والتوجيهات إلى أوسع مقدار ممكن من القواعد الشعبية الموالية.  فضلاً عن ذلك فإن فكرة اعتماد نظام الوكلاء في التنظيم الهرمي ساهمت في إضفاء طابع التكتم والسرية على اسم وشخص السفير. فالفرد المنتمي للقواعد الشعبية العارف بفكرة السفارة غاية ما يستطيعه هو الاتصال بأحد الوكلاء من دون معرفة اسم السفير أو عمله أو مكانه. وكانت الأموال والحقوق الشرعية تصل الإمام (ع) ليعاد توزيعها بواسطة السفراء ثم الوكلاء لتصرف في مواضعها. والأموال التي لا تصل إليه مباشرة كان الوكيل يصرفها وفقاً للقواعد والأحكام الإسلامية في صرف الحقوق. وكان قبضُ الأموال وتوزيعُها يتم سراً وبعيداً عن أعين الدولة ورقابتها ولا يصرح به إلا نادراً. وكان التوزيع، في الأعم الأغلب، يأخذ الأسلوب التجاري أي يعطى للفرد بصفته دائناً مثلاً دون أن يثير هذا السلوك شك السلطات.
وكان من مهمة السفراء أيضاً أخذ الأسئلة الفقهية والعقائدية وإيصالها من وإلى الإمام(عج).
الهدفان العامان للسفارة
أولاً: تهيئة أذهان الأمة وإعدادها وتوعيتها لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى، فلربما أدى الاحتجاب المفاجئ إلى الإنكار المطلق لوجود المهدي(عج).
ثانياً: قيام السفارة برعاية شؤون القواعد الشعبية الموالية للإمام (ع) بعد اختفاء الإمام عن مسرح الحياة العلنية بالغيبة الصغرى.
سفراء الإمام(عج)
والسفراء الذين تولوا الوكالة الخاصّة عن الإمام المهدي(عج) خلال غيبته الصغرى هم:
السفير الأول: هو الشيخ الموثوق أبو محمد عثمان بن سعيد العمري، ويقال له العسكري أيضاً لأنه كان يسكن العسكر وهي سامراء، ويقال له السمّان لأنه كان يتجر بالسمن تغطية على الأمر. فكان الشيعة إذا حملوا إلى الإمام العسكري (ع) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إليه، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى الإمام (ع) تقيةً وخوفاً.  وخلال فترة الغيبة الصغرى قدم عثمان بن سعيد العمري إلى بغداد من سامراء، وذلك بعد انتقال عاصمة الخلافة من سامراء إلى بغداد؛ ما جعل بغداد أفضل حالاً من ناحية المواصلات، وهو أمر ربما كان دخيلاً في قرار العمري بالانتقال. وبقي هناك حتى وفاته، يدير عمله بنفس الطريقة، التي كانت زمن الإمام العسكري (ع)، يستلم الرسائل والحقوق الشرعية من الشيعة ويسلّمها للناحية المقدسة. وكان معترفاً به بصفته وكيلاً ونائباً للإمام المهدي(عج) من قبل جميع الشيعة. قام ابنه عثمان بتغسيله وتجهيزه، ودفن في الجانب الغربي من بغداد في شارع الميدان، وقال الشيخ الطوسي: "يتبرّك جيران المحلة بزيارته ويقولون هو رجل صالح ولا يعرفون حقيقة الحال فيه".
السفير الثاني: بعد وفاة عثمان بن سعيد حل محله ولده محمد بن عثمان بن سعيد العمري، الذي كان دائماً ملازماً لأبيه في بيت الإمام العسكري (ع)، وبقي مساعداً له في الغيبة، فتولى مهمة النيابة والسفارة بعد أبيه لمدة طويلة بنص من الإمام عليه السلام حيث قال الإمام العسكري عليه السلام لبعض أصحابه، تأكيداً منه على توثيق سفيره: "العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا فعنّي يؤدّيان وما قالا فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان". وبقي محمّد بن عثمان مضطلعاً بمسؤولية السفارة نحواً من أربعين سنة.  وقد أوصى إلى خلفه، السفير الثالث، الحسين بن روح، بأمر من الإمام المهدي(عج)، وتوفي سنة 305 هـ. ودفن أبو جعفر العمري عند والده في شارع باب الكوفة، وقبره الآن مشيّد معروف وسمّيت منطقة قبره في بغداد بمحلة الخلاّتي وهو في جانب الرصافة ويزوره الناس ويتبركون به.
السفير الثالث: قام أقطاب الشيعة في بغداد بإخبار الشيعة بأن محمد بن عثمان بن سعيد العمري، في أواخر أيامه، عيّن مكانه أحد أعوانه غير الرئيسين، الشيخ الجليل أبي القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي. ولمع نجمه كوكيل مفضل لمحمّد بن عثمان العمري. وبقي يمارس هذه المهمّة حتى عام 326 هجرية، ودفن في النوبختية وقبره اليوم في بغداد.
السفير الرابع: هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن محمد السمري أو السيمري أو الصيمري، والمشهور هو الأول مضبوطاً بفتح السين والميم معاً. ذُكر عنه أولاً كواحد من أصحاب الإمام العسكري (ع)، ثم ذُكر قائماً بمهام السفارة المهدية ببغداد، بعد الشيخ ابن روح بإيعاز منه عن الإمام المهدي(عج). تولى السفارة من حين وفاة أبي القاسم ابن روح سنة 326 هجرية، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى سنة 329 في النصف من شعبان، دون أن يعيّن أحداً مكانه. وهكذا أغلق باب النيابة، وبدأت الغيبة الكبرى. فتكون مدة سفارته عن الإمام المهدي(عج) ثلاثة أعوام كاملة، غير أيام. وقد أخرج إلى الناس قبل وفاته بأيام توقيعاً من الإمام المهدي(عج) يعلن فيه انتهاء الغيبة الصغرى وانتهاء عهد السفارة بموت السمري، ويمنعه عن أن يوصي بعد موته إلى أحد ليكون سفيراً بعده. فيقول(عج) في هذا التوقيع:
"بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري! أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد، فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم."
فكان هذا آخر خطاب خرج من الإمام المهدي(عج) عن طريق السفارة الخاصّة، وآخر ارتباط مباشر بينه وبين الناس في الغيبة الصغرى. قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: "لله أمر هو بالغه" وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه، رضي الله عنه وأرضاه. وأودع الأرض في قبره الذي هو في الشارع المعروف بشارع الخلنجي، وله الآن في بغداد مزار معروف.
المصدر: مجلة بقیة الله(عج)