printlogo


printlogo


قضايا
جدلية نشأة علم أصول الفقه
منتهى البدران (عنوان مقاله و نام نویسنده داخل تصویر بیاد)

تباينت الآراء حول نشأة علم أصول الفقه، فالدلائل التاريخية والعلمية تشير إلى أنّ علم أصول الفقه نشأ على يد محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)، في الجانب الآخر فإنّ أغلب أنصار الفقه الإمامي ينسبونه إلى الشيعة الإمامية، بأقوال عدة تذهب إلى رأي واحد مفاده: "عدم صحة ما اشتهر من أنّ نشأة علم أصول الفقه كانت على يد محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)؛ فإنّه إن كان بمعنى بداية التصنيف في هذا العلم، فهو غير صحيح؛ وذلك لتقدّم هشام بن الحكم (ت179هـ) تلميذ الإمام الصادق(ع) بتأليفه كتاب "الألفاظ ومباحثها"، مع أنّ كتاب الرسالة للشافعي لم يشتمل على جميع المسائل الأصولية".
سيتم تناول هذه الآراء للرد عليها بردود علمية بعيدة عن الظن والإسقاطات الفكرية والعقدية، والاتهامات والسباب إن شاء الله تعالى.
بدءا قال المرجع الشيعي محمد باقر الصدر(ره): "إنّ دقة البحث في النظريات الأصولية تنعكس على صعيد التطبيق، إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا أكبر". وفي معرض حديثه عن بداية علم الأصول قال: "ولم يكن علم الأصول مستقلا عن علم الفقه في البداية، ومن خلال نمو علم الفقه واتساع أفق التفكير الفقهي، أخذت الخيوط العامة والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتنكشف، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها. وكان ذلك إيذانا بمولد علم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا فانفصل علم الأصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف، وأخذ يتسع ويثرى تدريجا من خلال نمو الفكر الأصولي من ناحية، وتبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى لأنّ اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صور العناصر المشتركة في علم الأصول".
واسترسل قائلا: "وكلما بَعُد الفقيه عن عصر النص تعددت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية، وتنوعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد الزمني". بمعنى أنّ الفقيه كلما زاد بعدا عن عصر النص الديني ازدادت حاجته إلى منهج يضم قواعد منظمة ومقننة ليزيل بها الغموض الذي يعترضه، فكان ذلك مسوغا لنشأة علم الأصول. إذ يرى السيد محمد باقر الصدر أنّ الحاجة إلى علم الأصول تاريخية تزداد كلما ابتعد الفقيه عن عصر النص.
ثم يفسّر (ره) "الفارق الزمني بين ازدهار علم الأصول في نطاق التفكير الفقهي السني وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الإمامي، فإنّ التاريخ يشير إلى أنّ علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الإمامي"، ويوعز السبب إلى أنّ انتهاء عصر النصوص عند المذهب السني بدأ مع وفاة الرسول(ص)، وهذا يعني أنّ الفكر الفقهي السني ابتعد عن عصر النص بانقضاء القرن الثاني الهجري، أي أصبحت الفترة الزمنية بينهم وبين عصر النص طويلة من شأنها أن تخلق لهم فجوات وثغرات، في الوقت نفسه كان المذهب الإمامي يعيش عصر النص الشرعي؛ وذلك لأنهم يتخذون الإمام امتدادا لوجود النبي(ص)، ولم ينته لديهم عصر النص إلا مع غيبة الإمام المعصوم الأخير المهدي(عج) في غيبته الصغرى، هذا الفاصل الزمني لدى السنة جعلهم أحوج بكثير لعلم الأصول من الشيعة الذين كانوا يواجهون مشاكل أقل بكثير مما يواجهه المذهب السني. وهذا اعتراف من السيد الصدر بأن نشأة الأصول كانت على يد المذهب السني؛ لأسبقيتهم في الحاجة إليه بسبب بعدهم عن عصر النص الذي بدأ مبكرا عندهم.
لكنه يستدرك ليؤكد أنّ بذور التفكير الأصولي كانت موجودة لدى فقهاء أصحاب الأئمة(ع)، "بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقيَن (الإمام الصادق والكاظم)،(ع)، على المستوى المناسب لتلك المرحلة". مستشهدا بما ذكرته كتب الحديث من أسئلة تخص عملية الاستنباط يوجهها الرواة للأئمة(ع) فيلقون الإجابات، وعزّز قوله "أنّ بعض أصحاب الأئمة ألّفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق(ع)، الذي روي أنه ألّف رسالة في الألفاظ". فلننعم النظر في قول السيد الصدر (ره)، قال "بعض أصحاب" وقد ذكر واحدا فقط، وقال في بعض المسائل الأصولية، وهذه البعضية لا تدل على أنه علم قائم احتوى المسائل الأصولية جمعاء أو على الأقل جلّها، وذكر أنه روي عنه رسالة في الألفاظ، مع العلم أنّ هذه الرسالة مجرد رواية في علم الغيب، لايعلم بحقيقتها سوى الله وراويها الأصلي، وهل هي في الأصول، أو في علم آخر، الله أعلم.
أعود إلى قول الباحث صادق حسن العوادي الذي ذكر أنّ "هشام بن الحكم تلميذ الإمام الصادق(ع) ألّف كتاب "الألفاظ ومباحثها"، وبذلك فله السبق في علم الأصول، أقول:
أولا: الكتاب أو كما سماها السيد الصدر "رسالة" اسمه "كتاب الألفاظ"، حيث ذكره ابن النديم في فهرسه قائلا: "مولى بني شيبان، كوفي تحول إلى بغداد من الكوفة، من أصحاب جعفر بن محمد، من متكلمي الشيعة،... وله كتاب"، "الألفاظ" وقد ذكر الكتاب ضمن ستة وعشرين كتابا لابن الحكم. ولكن كتاب الألفاظ الذي يُحتَجُّ به لم يصل، ولا توجد نسخة منه، ولم يُعلم مضمون هذا الكتاب أو موضوعه، هل هو لغوي، أو فقهي، أو فلسفي، أو منطقي، أو في علم آخر، فهل يجوز للأصوليين الاستدلال بكتاب مفقود وليس له وجود إلا في رواية؟!
ثانيا: ذكر أنّ " كتاب الرسالة للشافعي لم يشتمل على جميع المسائل الأصولية"، إن كتاب "الرسالة" للشافعي يقع في مجلد واحد تناول فيه المسائل الأصولية مثل، حديث الواحد والحُجَّة فيه، وشروط صحة الحديث وعدالة الرواة، وردّ الخبر المُرسَل والمُنقطِع، وتضمن مباحث الألفاظ في الأصول وهي مباحث (العام، والخاص، والمطلق، والمقيد، والحقيقة والمجاز، والأمر، والنهي) وغير ذلك من مسائل الأصول والترجيح، وتشكل مقدمة الرسالة الطويلة (مائة صفحة) قسمًا كبيرًا من مادتها.
يقول فخر الدين الرازي عن ريادة الشافعي في تأسيس علم أصول الفقه: "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلَّمون في مسائل من أصول الفقه، ويستدِلون، ويَعترِضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفةِ دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة مُعارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي عِلمَ أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علمِ الشرع كنسبة أرسطو إلى علمِ العقل".
أما الحديث عن نشأة علم أصول الفقه، فلنرجع إلى الأصل اللغوي، لنرى أيّ المعنيين نريد من النشأة؟
النشأة لغة: مصدر من الفعل نشأ، ومادة (ن، ش، أ) أصل صحيح يدل على ارتفاع في شيء. و"رأيت نشأ من السحاب، وهو أول ما يبدو"، والأصل الواحد في المادة، هو إحداث أمر مستمر أو حدوثه في استمراره ومع البقاء، ومن مصاديقه: إحداث برنامج علمي وإجراؤه، وتدل لفظة "برنامج" على منهج موضوع أو خطة منظمة، أو منهج علمي كما هو متعارف. والمادة في هذه الأفعال تدل على إحداث في استمرار، وكل مورد يُعبّر فيه بهذه المادة يكون النظر إلى جهة حدوث وامتداد، لا إلى جهة التكوين وبدء الخلق.
خلاصة هذه المعاني أن النشأة لها معنيين: البداية، والظهور أو الارتفاع؛ فلو أردنا من النشأة بداية التفكير الأصولي فهذا قد ظهر في صدر الإسلام في زمن سبق أئمة أهل البيت(ع)، إذ "كانت أصول الفقه معرفة حاضرة في أذهان فقهاء الصحابة والتابعين في الصدر الأول، حيث لم يكونوا بحاجة لعلم قواعد الاستدلال التي أخذت معظمها عنهم؛ لأنهم أصحاب ملكة لسانية، وخبرتهم في معرفة نقل الشرع وقرب العصر، وبعد انتهاء فترة الصدر الأول وظهور عصر تدوين العلوم احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل قوانين الاستنباط وقواعده لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه".
أما إذا أردنا بالنشأة المعنى الثاني الذي أشار إليه صاحب التحقيق في كلمات القرآن وهو "إحداث أمر مستمر مع البقاء، ومن مصاديقه: إحداث برنامج علمي وإجراؤه" فهو الذي نشأ على يد الشافعي عبر كتابه "الرسالة"، الذي قال عنه ابن خلدون: "وكان أول من كتب في (علم الأصول) الشافعي رضي الله تعالى عنه، أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها، في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس، ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها وكتب المتكلمون أيضا كذلك".
وقد ورد في مصادر أخرى من قال: إن أول من صنف في علم أصول الفقه وضبط القواعد: أبو يوسف، ومحمد تلميذا أبي حنيفة، وقيل: بل أبو يوسف وحده، وقيل: بل هو أبو حنيفة النعمان حيث كتب كتاباً أسماه كتاب الرأي، ولكن لم يصل من ذلك شيء، والذي اشتهر قديما وحديثا: أنّ الشافعي أول من دوّن في علم أصول الفقه، وكتب فيه بصورة مستقلة في كتابه المشهور: "الرسالة" -وهو كتاب متداول مطبوع- وقد صرح بذلك جمع كابن خلكان وابن خلدون".
أمر آخر:
نحن نقول إنّ النحو من صنيع الإمام علي(ع)، وذلك بحسب رواية وردت في إملائه لأبي الأسود الدؤلي وهي معروفه، أي بنينا على رواية "نشأة علم النحو" وليس على التقنين والتأسيس والتدوين في كتاب، وهذا الأمر متناثر في الكتب، فلو بنينا على وفق هذه الرواية نشأة النحو، فهذا يعني أنّ النحو هو الأسبق من الفقه؛ لأن الإمام علي أسبق من الإمام الصادق(ع)، وعليه فإنّ أصول النحو هي الأسبق.
مسألة أخرى:
يقول محمد باقر الصدر (ره): "عوامل عديدة أدتْ إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض، فنشأ نتيجة لذلك غموض في الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تجاه الشريعة في كثير من الوقائع والأحداث؛ لأنّ الإنسان إذا لم يعلم نوع الحكم الذي تقرره الشريعة في واقعه ما أهو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتم عليه أن يتخذه تجاه الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة، وعلى هذا الأساس كان من الضروري أنْ يوضع علم يتولى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة".
بمعنى أنّ علم الأصول هو حاجة لمعرفة النص، أوجده الفقيه لكشف الغموض الذي ينتاب النصوص الشرعية (القرآن والحديث) أي ليَفهم الفقيه مراد الله ورسوله من القول؛ لذلك تضمن مباحث الألفاظ للحصول على المعاني المقصودة من الناحية الشرعية، فاللفظ هنا بمعنى الكلام المستعمل، أي البحث في الألفاظ المستعملة التي وضعت للدلالة على معنى مقصود.
والإمام الصادق(ع) كونه معصوما في عقيدة الإمامية بحسب حديث الثقلين الشهير (كتاب الله وعترتي أهلُ بيتي)، وهو متناثر في كتب المسلمين، الذي يعد أبرز الأدلة النقلية التي تتمسّك بها الشيعة الإمامية لإثبات عصمة الأئمة الإثني عشر، وعليه فإنّ العصمة تنفي هذه الحاجة؛ لأن المعصوم لا يحتاج لوسيلة كي يفهم بها النص الشرعي؛ لأنّ علمَهم "موهوب من الله سبحانه لهم، إذ ربّما تشمل عناية الله سبحانه بعض عباده الصالحين فيجعلهم علماء فهماء من عنده، من دون أن يدرسوا على أحد"، بمعنى أنّ الادعاء بأنّ الإمام احتاج إلى علم لرفع الغموض عن النصوص الشرعية سيتناقض مع القول بعصمته.
المصدر: صحیفة المثقف